في ذكرى الشهيد الصدر الثاني

مكتب الشيخ حسن الصفار

شارك سماحة الشيخ حسن الصفار في المهرجان الكبير الذي أقيم في قاعة فندق سفير بمنطقة السيدة زينب بدمشق، مساء يوم الأحد 8 ذو القعدة 1428هـ الموافق 18/11/2007م بمناسبة الذكرى السنوية التاسعة لاستشهاد الإمام السيد محمد محمد صادق الصدر ( 1943-1999م ).

وقد ألقى سماحة الشيخ الكلمة الرئيسية للمهرجان في حضور حشد من العلماء والشخصيات السياسية ووسائل الإعلام، وتناول في كلمته محورين: الأول حول أبرز سمات شخصية الشهيد الصدر الثاني، والثاني حول إغراء السلطة الذي يواجه الإسلاميين في العراق.

وفيما يلي تلخيص لأهم ما جاء في كلمة سماحته:

من أهم ما تمتاز به شخصية الشهيد السيد محمد الصدر ثلاث سمات:

السمة الأولى: العمق العلمي:

حيث نشأ في أحضان عائلة علمية عريقة، فأمه بنت المرجع الأعلى في عصره الشيخ محمد رضا آل ياسين، وأبوه وأعمامه من أفاضل العلماء، وقد انصرف للعلم في الحادية عشر من عمره، واستمر في الدرس والتدريس والكتابة والبحث إلى اليوم الأخير من حياته، وحضر أبحاث كبار الفقهاء في الحوزة العلمية، حيث تتلمذ على يد أربعة من فطاحل العلماء في الفقه والأصول، هم السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد روح الله الخميني والشهيد السيد محمد باقر الصدر، كما خاض تجربة الدراسة الأكاديمية في كلية الفقه في النجف الأشرف، وكان ضمن الدفعة الأولى من خريجيها.

ومن يقرأ كتبه وأبحاثه يرى دقته العلمية، وقدرته الفكرية العالية، حيث يبحث المسألة التي يتناولها من مختلف الزوايا والأبعاد، ويعرض لكل الفروض والاحتمالات، ويجتهد في معالجة الإشكالات الواردة. مما يكشف عن ذهنية وقادة، وسعة أفق وإطلاع.

ويتجلى ذلك في أبحاثه المختلفة في الفقه والأصول والتاريخ وتفسير القرآن الكريم، وفي دراسة القضايا الخارجية التي ترتبط بالمسائل الفقهية، والتي أطلق عليها مصطلح ما وراء الفقه. وكتب حولها موسوعة رائعة بهذا العنوان في عشرة مجلدات، تضمنت أبحاثا دقيقة في مسائل من علم الفلك والجغرافيا والطب والرياضيات والاقتصاد والاجتماع وغيرها مما يكون مورداً لانطباق أحكام شرعية.

أما موسوعته حول الإمام المهدي، فهي كما وصفها الشهيد السيد محمد باقر الصدر: (موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي في إحاطتها وشمولها لقضية الإمام المنتظر من كل جوانبها، وفيها من سعة الأفق، وطول النفس العلمي، واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يعبر عن الجهود الجليلة التي بذلها المؤلف في انجاز هذه الموسوعة الفريدة).

وحين اتجه لتفسير القرآن الكريم، مبتدئاً من السور الأخيرة فإنه يقف عند كل آية، ليعالج كل ما ورد أو يرد حولها من التساؤلات والإشكالات....

إن العمق العلمي هو من مفاخر علماء مدرسة أهل البيت الذين يتبوءون مواقعهم في الأمة من خلال قوة العلم والمعرفة، وصفات الورع والتقوى.

السمة الثانية: التفاعل الجماهيري:

خلافاً لما هو سائد من انحصار دائرة انفتاح المرجع الديني على الوسط الحوزوي العلمي، فإن الشهيد الصدر الثاني حين تصدى للمرجعية انفتح على جمهور الشعب، فكان يخاطبهم ويخطب فيهم، ويتبنى آلامهم وآمالهم، ويضع المعالجات الفقهية لمشاكلهم.

وكانت صلاة الجمعة التي أقامها في مسجد الكوفة، منعطفاً كبيراً في العلاقة بين المرجعية والأمة، حيث كانت شعيرة دينية معطلة، فأحياها واستثمرها في تحشيد الجمهور، وبث الوعي والثقافة عبرها في صفوف جميع الطبقات الاجتماعية.

كما التفت إلى أهمية دور العشائر العراقية، والتي ابتعدت عن المرجعية لإعراض المرجعية عنها، وأصبحت تدور في فلك السلطة تحت وطأة الترهيب وإغراء الترغيب، فتوجّه الشهيد الصدر للانفتاح عليهم، واستقبل شيوخهم، وبعث الوكلاء إليهم، وعالج مسألة موضوع الأحكام والأعراف العشائرية، فيما أطلق عليه فقه العشائر.

من ناحية أخرى فقد اعتمد مجموعة كبيرة من الشباب الملتزمين الاكاديميين وكلاء شرعيين لمرجعيته، ولم يحصر تمثيله في العلماء وطلاب العلوم الدينية.

لقد أنجز الشهيد الصدر أروع تجربة مرجعية في الانفتاح على الشعب في العراق، وصنع بذلك تحولاً هاماً في الحالة الدينية.

السمة الثالثة: المبادرة السياسية:

لقد اقتنص اللحظة المناسبة، حيث كان النظام بعد هزيمته وانسحابه المهين من الكويت في موقع ضعف وانكسار، وكان الحصار الدولي يضيّق الخناق على الشعب العراقي، كما أن قمع النظام للانتفاضة الشعبية قد ملأ نفوس المواطنين بالسخط والغضب، ولتنفيس هذه الحالة اتجه النظام الصدامي للتظاهر بالاهتمام بالدين، ورفعه شعاراً في مقابل أمريكا وحلفاءها.

ورأى الشهيد الصدر أن الفرصة سانحة لاستثمار هذا الظرف، والمبادرة لتفعيل ساحة المجتمع، وتجذير القيم والمبادئ الدينية في أوساطه، لكي تستعيد المرجعية دورها القيادي، بعد ما انقطعت عن الجمهور، وتعرضت لأعنف الضربات القاتلة من قبل النظام.

وما كان يمكنه ذلك إلا بتحييد النظام، وعدم استثارته، بل إظهار الوجه الذي يطمنه، وهذا ما أقدم عليه الشهيد الصدر، مع إدراكه لما يعنيه هذا الموقف من إثارة الشكوك حوله واتهام نزاهته في أوساط كثيرة، لكنه وطّن نفسه على تحمّل الاتهامات والاهانات، مضحّياً بسمعته، حيث أتهم بالعمالة للنظام وأنه مرجع السلطة، من أجل إحياء الحالة الدينية، واستعادة دور المرجعية، وإعداد الشعب العراقي لتحمل مسؤوليته تجاه الاستبداد والاستعمار.

وكان النظام يراهن على استغلال مرجعية الصدر، بينما كان الشهيد الصدر يراهن على التقاط اللحظة التاريخية، وتحقيق أهدافه المرسومة في غفلة من النظام و سيطرة الضعف عليه.

وحين اتضح للنظام فشل رهانه، وشعر بخطورة حركة الصدر على المستوى الشعبي، سارع إلى التخطيط لتصفيته واغتياله، لكن الشهيد الصدر كان مطمئناً إلى انجازه العظيم، سعيداً بالثمار التي حققها، منتظراً للقاء الله، مرحباً بالشهادة في سبيله، ليلتحق بركب الشهداء من أسلافه الطاهرين.

الإسلاميون في العراق واختبار السلطة:

أصبح للإسلاميين من أبناء الشهيد الصدر في العراق دورهم السياسي البارز، حيث يحتلون أهم مواقع السلطة والحكم، من رئاسة الوزراء، ومختلف الحقائب الوزارية، وفي مجلس الشعب، وإدارة المحافظات، وسائر التشكيلات والمؤسسات الحكومية.

صحيح أن العراق تحت وطأة الاحتلال، وأن سيادته منقوصة، وساسته لا يمسكون بأزمة الأمور بشكل كامل، لكن لهم مساحة من القرار، وتحت تصرفهم الكثير من إمكانيات الشعب العراقي، وبإمكانهم أن يعملوا الكثير لإنقاذ شعبهم وتقدمه.

إن للسلطة إغراءً شديداً، قد يسقط فيه من نجح في امتحان قمع النظام السابق، من صمد في السجون وتحمّل التعذيب والتنكيل، وعانى آلام الغربة والهجرة، قد يسقط الآن في فخ إغراء السلطة، إذا لم يتسلح بالوعي ويقظة الضمير، وإذا لم يتوفر على درجة عالية من حسّ المسؤولية تجاه الله والشعب.

والتاريخ يحدثنا عن كثيرين ممن فقدوا التزامهم وتقواهم حينما لاح لهم بريق السلطة، وبعد أن كانوا ينتقدون من عارضوه من الطغاة الظلمة، أصبحوا حين تسلموا السلطة اظلم وأطغى ممن عارضوه.

وفي عهد خلافة الإمام علي فإن عدداً ممن اختارهم كولاة على بعض الأمصار خانوا الأمانة، ونهبوا من بيت المال وأساؤا التعامل مع الناس.

إن تجربة الإسلاميين في العراق على المحك، وإن من صالح الجهات الأخرى إسقاط الثقة بهم في أوساط الشعب. واظهارهم بمظهر اللاهثين خلف مواقع السلطة، والمتلاعبين بثروات البلاد وإمكانيات الشعب.

إنكم أيها المسؤولون ورثة دماء الشهداء، وشعبكم العراقي ينتظر منكم مداواة جراحه، وتعويض الحرمان الذي عاناه عقوداً طويلة من الزمن، إنه يستحق منكم الجدّ والاجتهاد والأمانة والإخلاص، فلا تخيبوا ظنون شعبكم، ولا تخونوا دماء الشهيد الصدر وكل شهداء العراق من الفقهاء والعلماء والعسكريين والشباب.

نأمل أن تقدموا نموذجاً مشرقاً يفخر به الشعب العراقي ويفخر به المؤمنون في كل مكان.

صور:

مع سماحة السيد فضل اللهمهرجان ذكرى الشهيد الصدر