من وحي أمسية مع الشيخ حسن الصفار

حضرت أمسية في بيت الشيخ حسن الصفار بالقطيف ضم نخبة كبيرة من المثقفين والوجهاء والعلماء والأكاديميين من الطائفتين الشيعية والسنية، ومن بينهم الوجيه الشيخ عبدالمقصود خوجه صاحب الاثنينية، الذي كانت هذه الأمسية بمثابة حفل تكريم له بما سجلته من احتفاء كبير بشخصه، وكان بصحبته كوكبة من العلماء أحيوا هذه الأمسية بكلماتهم المفيدة، ومرد هذا الاحتفاء به يرجع إلى مواقفه الهادفة إلى جمع كلمة المسلمين وإشاعة الألفة والمحبة. وكان له الفضل في نشر ديوان الشاعر والأديب القطيفي (الجشي)، وكان يجمع في إثنينيته بين أهل العلم والمفكرين والشعراء والأدباء باختلاف مذاهبهم ومشاربهم دون تفرقة أو تمييز.

إن هذه الأمثال من الرجال الأفذاذ الذين يخدمون وطنهم ودينهم يستحقون الثناء والتكريم، فالمرء ليس بجسده بل بأصغريه، وفضل الرجل بأفعاله ومواقفه، وكما قال ابن أبي سلمى:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم  يبقَ  إلا  صورة اللحم iiوالدم

والأهم فيما أريد أن أثيره هنا هو الحديث عن الحفل نفسه، وهو عبارة عن لقاء جمع فيه الشيخ الصفار مختلف الأطياف، فحوى خليطاً جغرافياً وفكرياً وثقافياً، وشخصيات من جدة والرياض ومكة والقطيف والأحساء والبحرين والكويت، من علماء ومفكرين وأدباء ومهندسين وأطباء ورجال أعمال وأعضاء مجلس الشورى وشعراء... ما شكل لوحة فنية امتزجت فيها الألوان فبدت لوحة متناسقة تماماً، ترسم لنا صورة هندسية جذابة في حب الوطن والألفة بين أبناء الأمة الإسلامية. ونطق فيها المتحدثون بما انطوت عليه ضمائرهم تجاه وطنهم ودينهم وأمتهم بصدق وإخلاص، داعين إلى التآلف والترابط ولم الشمل والاتحاد بين أبناء الأمة الإسلامية مرتكزين على محورين:

الأول: حب الوطن والولاء له فهو النسيج الذي يربط بين لبنات المجتمع التي فرقتها الأهواء والمذاهب، فالوطن ملك للجميع، ويجب على كل فرد من أبنائه - مهما كانت مكانته ومركزه، حاكماً أو محكوماً - أن يحميه ويحافظ عليه، كلٌ بما تتسع له قدراته وحسبما يستطيع أن يقدمه لوطنه وأمته، ولا يصح لأحد أن يزايد على أحد في ولائه له. فحب الوطن ليس مطلباً وطنياً فحسب بل مطلب ديني أيضاً، فقد حث الإسلام على حمايته وجعل حبه من الإيمان كما جاء في كلام سيد المرسلين .
بل إن كل التشريعات سواء كانت سماوية أو وضعية إنما تهدف في الواقع إلى حمايته وحماية أفراده، أما الخلافات والنزاعات المذهبية والخلافات السياسية والتعصب والتطرف فهي أمور تزج بالوطن في غبّة عميقة من الأخطار التي تعصف بالوطن وأبنائه - كما نشاهده في بعض البلدان كالعراق ولبنان وغيرهما - فتمزق نسيجه الوطني وتفقده أمنه الذي لا تستقر الحياة بدونه، ويؤدي إلى انهيار حضارته وتدهور اقتصاده وتخلفه عن غيره، فلا يستقيم الاستثمار ولا تترعرع الثقافة ولا تتطور الصناعة والتكنولوجيا إلا مع الأمن والاستقرار.

والثاني: هو الوحدة بين المسلمين، فمهما اختلفت بيننا المذاهب والآراء فلا ينبغي أن تؤدي إلى الخلافات والنزاعات والقتال والتعصب والتطرف، فإن الجامع بيننا كبير، فنحن كلنا مسلمون نعبد إلهاً واحداً، ونتبع نبياً واحداً، وكلنا نحج البيت ونصلي ونصوم ونؤدي الزكاة. أما أسباب الخلاف فأهم ما يختلف فيه الشيعة والسنة هو مسألة الخلافة، وهي حدث تاريخي لا يمكن تغييره أو تحويله، وقد انقضى وبقي اعتقاداً لكل منا أن يعتقد فيه ما يشاء، فلا يضير السني أن يعتقد الشيعي أن علياً أحق بالخلافة وأنه الوصي بعد رسول الله، ولا يضير الشيعي أن يعتقد السني بصحة خلافة أبي بكر أو عمر، مادامت باقية في خانة الاعتقادات لا تمس الحياة الاجتماعية التي نتقاسم مصالحها، فالخلاف في الخلافة اليوم وعلى الصعيد العملي ليس له أثر كبير في الحياة الاجتماعية فلماذا نتنازع عليه.

لماذا لا نترك هذه الخلافات في خانة الاعتقاد القلبي ونمد أيدينا إلى بعضنا ونجتمع على العمل جميعاً من أجل الحفاظ على أمتنا ووطننا وتحقيق المصالح المشتركة بيننا.

وأما الخلافات الفقهية فهي أقل تأثيراً في إثارة الخلاف، فإن الاختلاف الفقهي بين المذاهب السنية فيما بينها لا تقل عن الخلافات بينها وبين المذهب الجعفري، بل الخلافات توجد حتى بين فقهاء المذهب الواحد، وكذلك يختلف علماء المذهب الجعفري في فتاواهم وآرائهم، وهذه الاختلافات لا تؤدي إلى الفرقة، ولقد قال رسول الله : «اختلاف أمتي رحمة»، فالاختلافات الفقهية فيها تسهيل على الناس وفيها إنماء للثقافة والفكر.

ولقد كانت الخلافات بين المذاهب المسيحية أكثر وأشد ممّا هي بين المذاهب الإسلامية من الخلافات لتعلقها بساحة الألوهية، ولكنهم تركوها إلى جانب ونبذوها ليبدأوا حياةً جديدةً من التآلف والتعاون، ولهذا ازدهرت بلدانهم وتقدمت في العلم والعمران والصناعة، مع أننا أولى بذلك منهم، فهذا كتاب الله ينادينا في كل آن ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وإن لنا عدواً مشتركاً يملك القوة والعتاد ونحن ضعفاء وعزل أمام غزوه الفكري والاقتصادي والجغرافي، فهل نعينه على أنفسنا بفرقتنا وتنازعنا؟ ثم هل تنفعنا المسيرات التي نخرج بها في بلادنا تنديداً لمن أساء إلى رسول الله مادام العدو لا يرهبنا ولا يقيم لنا وزناً؟ وهل هذه نصرتنا لرسول الله إذا كنا نسعى في هدم دينه بتفرقنا وتنازعنا؟ أليس هو القائل: «إن مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، كلما اشتكى منه عضو تداعت له سائر أعضاء البدن بالسهر والحمى»؟

إن بعض الحاضرين في هذه الأمسية ركز على عدم وجود خلافات بين المسلمين تستدعى النزاع، والكثير منا لم يكن يعرف عن الآخر شيئاً إلا الأكاذيب التي ينسجها المغرضون، فقال: نحن السنة نسمع أن الشيعة يقولون بتحريف القرآن وبعد رجوعي إلى مصادر علماء الشيعة تبين أن كبار أئمة الشيعة ينفون التحريف عن القرآن، وحتى عندما اشتبه شخص منهم وادعى تحريف القرآن استناداً إلى ما ترويه بعض المجاميع الحديثية (ومثل ذلك موجود حتى في مثل البخاري ومسلم) وقف علماء الشيعة مستنكرين عليه هذه الدعوى بشدة.

وتأييداً لما ذكره هذا العالم، أذكر أني قرأت حواراً جرى بين أحد علماء الشيعة والإمام أبي حنيفة حيث سأل الإمام العالم الشيعي قائلاً: «بلغني أنه إذا مات الميت منكم كسرتم يده اليمنى حتى لا يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة»، قال العالم الشيعي: «مكذوب علينا يا أبا حنيفة، ولقد بلغني أنكم إذا مات الميت منكم أدخلتم فيه قمعاً وأفرغتم فيه جرة ماء لكي لا يعطش يوم القيامة»؟ فقال الإمام: «مكذوب علينا وعليكم»... فهل يا ترى سنبقى نتبادل التهم التي تضر ولا تنفع، والتي تفرق ولا تجمع، وإلى متى؟

وقد أثار بعض الحاضرين من علماء أهل السنة حب أهل البيت كآلية من آليات الوحدة الإسلامية حيث تجتمع الأمة الإسلامية على حب أهل البيت وإن اختلفت الفرق في درجة التعصب لهم، فبينما يرى البعض أنهم معصومون يرى آخرون أنهم كبقية الصحابة إلا أن لهم منزلة خاصة لقربهم من رسول الله ، وقد قال الإمام الشافعي:

يا  آل  بيت  رسول  الله iiحبكم
كفاكم  عن  مديح  الناس  iiأنكم

فرض من الله في القرآن أنزله
من لم يصل عليكم لا صلاة iiله

إننا لو استرسلنا في الكلام لطال الحديث، فلقد استغرقت الأمسية ما يقارب ثلاث ساعات وطرح فيها الكثير، ولقد سرني أن أقرأ لبعض علمائنا فتوى بتحريم التعرض لأصحاب الرسول وزوجاته، وأتمنى أن يحذو حذوه علماء هذه الأمة بتحريم كل ما من شأنه أن يفرق بين المسلمين، والحث على احترام المسلمين لشعائر ومقدسات بعضهم بعضاً في جميع المذاهب.

كما سررت بهذه الأمسية لما فيها من حث على الوحدة والتآلف والمحبة بين أبناء هذا الدين. وأتمنى أن تكون بذرة خير لوحدة الأمة الإسلامية يقتدي بها المسلمون، وأتساءل هل يوجد لدينا في البحرين مثل الشيخ حسن الصفار بتوجهاته الإصلاحية والتوحيدية، ومن يقوم بجمع الأطياف المختلفة على طاولة الوحدة والمحبة.

الوسط البحرينية، العدد2026، الإثنين24مارس 2008ـ 16 ربيع الأول 1429.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ؤاد سعيد آل سنبل
[ السعودية - القطيف ]: 27 / 3 / 2008م - 4:56 ص
عصر الصفار = عصر الانفتاح

أضيف رأيي الشخصي إل سماحة الشيخ .
حيث كانت القطيف متقوقعة , ومحصورة في أفق , بعدم الخروج إلى الطرف الآخر , ولكن الشيخ الصفار أخرجها إلى من دائرة الضيق , إلى دائرة احتضان الآخرين , والانفتاح عليهم... فهم أخوة وأباء ومعلمين ومفكرين , ولهم اليد الطيبة في بناء الوطن .
هذا مما عزز مكانة القطيف في حياتها الاجتماعية , وبرز دورها من جميع النواحي .
سواء أكانت علمية أو أدبية أو اجتماعية

تحية عطرة لجهود الشيخ الصفار
عصر الصفار = عصر الانفتاح