الشيخ الصفار يُقارن بين معالم الرسالة وواقع الأمة

مكتب الشيخ حسن الصفار القطيف: تركي مكي علي

قارن سماحة الشيخ حسن الصفار بين معالم الرسالة المحمّدية في سالف عهدها عندما كانت بقيادة رسول الله وبقيادة نهجه المبارك، وبين واقع الأمة في هذا اليوم، مسلّطاً الضوء على ثلاثة من أبرز معالم الرسالة وهي: الإعلاء من شأن الإنسان واحترام قيمته وحقوقه، إثارة العقل ومحورية العلم في حياة الإنسان، وصنع المجتمع الحضاري والأمة الرائدة. بينما الأمة اليوم تعيش أقسى الانتهاكات لحقوق الإنسان، وقد انشغلت الأمة عن العلم والمعرفة بجدالاتٍ نظرية وبصراعاتٍ تاريخية أكل عليها الدهر وشرب، أما عن المجتمع الحضاري فقد أوضحت الأحداث التي واكبت انعقاد القمة العربية مدى هشاشة الوضع العربي على مستوى العالم، مشيراً إلى ثلاثة مظاهر أفرزها الواقع العربي، وهي: الفشلٌ أمام التحدي الأكبر وهو العدوان الإسرائيلي، الفشل في تحدي التنمية والبناء، وأخيراً الفشل في التعاون المشترك.

الخطبة الأولى

سلّط الشيخ الصفار في بداية خطبة الجمعة 20 ربيع الأول 1429هـ (28 مارس 2008م) الضوء على بدء نشوء الأمة الإسلامية التي تكوّنت على يدي رسول الله ، وانطلقت دعوتها ورسالتها من بعثته ، حيث تعيش الأمة الفرحة والسرور بذكرى ميلاد منقذ البشرية الرسول الأعظم . مشيراً إلى المكانة الكبيرة لهذه الأمة حيث وصفها القرآن الكريم بأنها خير أمة، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، مبيناً أن لفظة ﴿كُنتُمْ لا تعني الوجود في الماضي المنقطعة فيما بعد، وإنما تعني أساس الوجود، بغض النظر عن الاستمرار أو الانقطاع، والله تعالى يستخدم ذلك في القرآن الكريم، ومثاله قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. وتابع متأملاً في قوله تعالى: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قائلاً: هذه الأمة لم تُخرج ذاتها بذاتها، وإنما صاغ الله تعالى روح هذه الأمة ورسالة هذه الأمة. وأضاف: هذه الأمة لم تُخرج لذاتها فقط وإنما للناس، فليس مطلوباً منها أن تُصلح وضعها فقط، وإنما مطلوب منها أن تُصلح أوضاع البشرية جمعاء.

وأشار إلى الصفات التي تؤكدها الآيات الكريمة والتي بها تحقق كون الأمة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يقول تعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ، مؤكداً أن مسؤولية الأمة الأمر بالمعروف بمعناه الشامل الواسع الذي يشمل كل ما يأمر به الشرع والعقل، وأيضاً مواجهة المنكر ليس على مستوى واقع الأمة فقط وإنما على مستوى البشرية جمعاء.

وأكد أن الأمة في سالف عهدها عندما كانت بقيادة رسول الله وبقيادة نهجه المبارك تحققت فيها هذه الصفات، فكانت خير أمةٍ أخرجت للناس، وأشار إلى ثلاثة معالم وملامح للأمة هي الأبرز في ظل الرسالة:

أولاً- الإعلاء من شأن الإنسان واحترام قيمته وحقوقه. بعد أن كان الإنسان قبل الإسلام منتهك الحقوق، فكانت هناك سلطة تستعبده، وكانت هناك طبقية تُهين مختلف شرائحه، وكان هناك تنازع وتصارع على المصالح المادية تسفك فيه الدماء، وتنتهك فيه الحرمات والأعراض. وجاء الإسلام وأعلى من قيمة الإنسان، وتحدث عن الإنسان باعتباره أفضل مخلوقٍ في هذا الكون، وباعتباره خليفةً لله في الأرض، وأن الكرامة منحةً له من قبل الله تعالى.

ثانياً- إثارة العقل ومحورية العلم في حياة الإنسان، بعد أن كانت البشرية تعيش الخرافات والجهل والأساطير والأوهام، فجاءت رسالة الإسلام لتلفت الإنسان إلى عقله، يقول رسول الله : ((أصل ديني العقل))، وقال الإمام علي في حديثه عن بعثة الأنبياء : ((وليثيروا للناس دفائن العقول)). فانطلق الإنسان بوعيه وعقله لتسخير ثروات الكون، ولاكتشاف أسراره.

وأكد أن المنصفين في الحضارة الغربية اليوم يعترفون بفضل الحضارة الإسلامية في إنجازات هذه الحضارة التي يشهدها العالم الآن.

ثالثاً- صنع المجتمع الحضاري والأمة الرائدة، من تلك القبائل المتفككة والمتناثرة والمتنازعة صنع الإسلام منها مجتمعاً ريادياً.

وعلّق الشيخ الصفّار على واقع الأمة الإسلامية اليوم، مستفهماً: هل أن هذه المعالم بارزة ومتجسدة في واقع الأمة؟ معرباً في إجابته عن أسفه الشديد حيث أن الأمم الأخرى قد نافست الأمة في تلك المعالم وسبقتها، في حين أن الأمة بقيت بعيداً عن هذا الركب، مشيراً إلى ان التقارير العالمية حول حقوق الإنسان تؤكد أن الكثير من بلاد المسلمين تعيش أفظع الانتهاكات في حقوق الإنسان. وفي مجال استخدام العقل ومحورية العلم فإن المجتمعات الأخرى قد انطلقت في آفاق العلم والمعرفة وبقيت هذه الأمة –مع الأسف الشديد- منشغلة عن العلم والمعرفة بجدالاتٍ نظرية وبصراعاتٍ تاريخية أكل عليها الدهر وشرب. مؤكداً أن السبب لا يعود لنقص في وجود الكفاءات والقدرات والثروات، بل لأن الأجواء العامة التي تعيشها الأمة ليس أجواء مشجعة على المعرفة، ولا دافعة للعلم.

مشيراً إلى دراسة نُشرت من قبل جامعة الدول العربية تتحدث عن هجرة العقول والأدمغة العربية، وتدق ناقوس الخطر بأن نسبة هجرة العقول في العالم العربي قد تضاعفت في هذه السنوات الأخيرة، وتقول الدراسة أن (70) ألف متخرج من الجامعات العربية يُهاجرون سنوياً من بلدانهم، مما يُكلّف الدول العربية بليون ونصف البليون دولار، و (50%) من الأطباء في العالم العربي يُهاجرون إلى أمريكا وكندا وأوروبا، و (23%) من المهندسين، و (15%) من العلماء من مجموعة الكفاءات العربية يُهاجرون سنوياً. وكذلك فإن (54%) من الطلاب الذين يذهبون للدراسة في البلاد الأجنبية لا يعودون إلى بلادهم، لأنهم يجدون المكان المناسب للاستقرار وللتفاعل والعطاء، وبغض النظر عن أنه ملوم أو غير ذلك.

وتُشير الدراسة أن (34%) من الأطباء العاملين في بريطانيا من العرب، وتُضيف الدراسة أن نسبة العقول العربية التي تأتي لتعمل في دول مجلس التعاون الخليجي تقلّصت من (72%) من الكفاءات يستقطبها الخليج سنة 1975م، إلى ما بين (25%) إلى (29%) سنة 2002م (جريدة الحياة 24 مارس 2008م).

وتساءل: كيف يمكن للأمة أن تستعيد مجدها ومكانتها وهي تعيش هذا الواقع؟ مؤكداً أن أسلوب إلقاء اللائمة على ألآخرين غير مجدٍ بل ينبغي أن يتحمل كلٌ مسؤوليته تجاه واقع أمته، فكما يقول الحديث: ((كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته))، وكلٌ حسب موقعيته ومكانته.

وأكد أن حقوق الإنسان لا تُنتهك من قبل الحكومات والسلطات فحسب، وإنما قد يُمارس الأب ذلك مع أسرته، أو المدير مع موظّفيه، أو بين الناس بعضهم لبعض. وفي المجال العلمي والمعرفي يأتي دور فاعلية الأفراد كأساس للانطلاق في الجانب العلمي.

واختتم الخطبة بالتأكيد على ضرورة التأمل في نشأة هذه الأمة، ليقرر كل واحدٍ الالتزام بتلك المعالم والملامح التي صنعت من الأمة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ليقوم الجميع بالتبشير بهذا الوعي وبهذه الثقافة.

الخطبة الثانية

أشار الشيخ الصفار في خطبته الثانية إلى أن أيام المولد النبوي الشريف في هذا العام تُصادف انعقاد القمة العربية، والتي تنعقد في دمشق، مؤكداً أن الأحداث التي واكبت انعقاد هذه القمة يُظهر مدى هشاشة الوضع العربي، فقد عكست حالة الوهن والضعف والتمزق التي تجتاح هذه الأمة العربية.

مشيراً إلى أن هذه الأمة كانت تعيش تمزقاً قبل الإسلام، فتوّحدت تلك القبائل المتنازعة بالإسلام، يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، مؤكداً أن الأمة لم تُحافظ على روح الأخوة الإسلامية، ولم تُحافظ على النهج الذي يضمن ألفتها وانسجامها وتضامن أبنائها، بسبب تعاقب المستبدين السياسيين في تاريخ هذه الأمة، وما أنتجته عهود الاستبداد من ثقافات تجزيئية تُحرّض المسلمين على بعضهم بعضاً، وتجعل النفوس تُعاني من الأحقاد وسوء الظن تجاه بعضهم بعضاً، إلى أن وصلت الأمور إلى الواقع المعاش. مضيفاً: والأعداء يشمتون بنا، وحقّ لهم أن يشمتوا بنا.

ووضع يده على الجرح الأكبر في تاريخ الأمة المعاصر المتمثل في الوجود الإسرائيلي الغاصب، موجهاً النظر إلى الفارق الكبير بين ما يعيشه هذا الكيان من الدلال والموقعية العالمية رغم ضآلة عددهم مقارنة بالعدد السكاني العربي، ولكنهم أثبتوا وجودهم على مستوى العالم، فبعد أن كانوا منبوذين في العالم، إلا أنهم وحّدوا صفوفهم وأجمعوا أمرهم، حتى أصبحت الدول الكبرى في العالم وحكّامها يتوددون لقادة إسرائيل، ويتملقون لهم.مضيفاً إن الحاكم الأمريكي لكي يضمن مرشّحين أكثر فعليه أن يأخذ البركة من إسرائيل، وأن يُظهر تأييده ودعمه غير المحدود لإسرائيل. وتابع: حتى الدول التي كانت بينها وبين إسرائيل عداوات سابقة كألمانيا، نجد اليوم الوضع تغير، بحيث أن مستشارة ألمانيا حينما ذهبت لإسرائيل قدّمت الاعتذار الشديد للشعب اليهودي على ما يُعرف (بالهولوكوست)، وقالت: إنها تشعر بفخر شديد لأن الكنيست الإسرائيلي سمح لها أن تلقي كلمتها بالألمانية أمامه.

وأضاف الشيخ الصفار: وأعظم من ذلك، فإن العالم كلّه يغض الطرف عن جرائم إسرائيل، وعن مجازرها، وعن الفتاوى العنصرية الوحشية التي تصدر من الزعامات الدينية في إسرائيل، ومنها الفتوى التي صدرت من كبار الحاخامات الإسرائيليين والتي تُطالب بتطبيق الحكم الذي ورد في توراتهم في التعامل مع العمالقة (قوم عملاق) أن تُطبّق في حقّ الفلسطينيين، وتنص هذه الفتوى على: أن من يُحدّث نفسه بكراهية إسرائيل فإنه يصح ذبحهم وقتلهم، وذبح أطفالهم ونسائهم وعجائزهم وسحق بهائهم. ورغم ذلك لا أحد يستنكر عليهم ذلك في العالم.

وبلغة استنكارية يقول الشيخ الصفّار: وفي المقابل هذا الهوان الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، حيث يُساء إلى نبي الأمة محمد وتتبارى عشرات الصحف في أوروبا على نشر هذه الإساءات، ويُذبح أبناء الإسلام في كلّ مكان، وليس من مدين أو متعاطف، مؤكداً أن السبب يرتبط بالواقع الذي تعيشه الأمة.

وعقّب على ذلك، بقوله: إن القمة العربية مظهر ومرآة لما تعيشه الأمة، وأشار إلى ثلاثة أمورٍ واضحة:

أولاً- الفشلٌ أمام التحدي الأكبر وهو العدوان الإسرائيلي. فليس هناك تبنٍ لخيار المقاومة والمواجهة، وليس هناك قدرةٌ على تفعيل مبادرة السلام العربية. مستنكراً حالة إساءة الظن بين العرب والمسلمين تجاه بعضهم، مؤكداً على حرية تعدد الاتجاهات، مع ضرورة استفادة كل اتجاه من الآخر. فلا يصح تخوين واتهام من يتبنى سلاح المقاومة بل يجب أن ندعمه للحفاظ على شرف الأمة ومكانتها، وفي المقابل فليتحرك السياسي في الاتجاه الذي يرتئيه، ولتكن المقاومة ورقة من الأوراق التي يستفيد منها في تعزيز موقفه في طلب السلام.

ثانياً- الفشل في تحدي التنمية والبناء، فهذه الدول مع ما عندها من إمكانيات وثروات إلا أنها لم تستطع أن تُثبت جدارتها على هذا الصعيد، في حين أن دولاً تمتلك إمكانيات أقل من دول العالم العربي والإسلامي إلا أنها نمّت اقتصادها، وطوّرت أوضاعها، فلماذا العرب فاشلون في تحدي التنمية والبناء.

ثالثاً- الفشل في التعاون المشترك، في حين أننا نجد الأوروبيين على ما بينهم من اختلافات، وما خلفهم من تاريخ صراعٍ دموي قد تعاونوا واتحدوا فيما بينهم.

واختتم الشيخ الصفار خطبته بالتأكيد على ضرورة التأمل  والتفكّر، وأن يبدأ كلُّ واحدٍ من نفسه، لا أن يُحمّل الآخرين والجهات العليا المسؤولية فقط، عسى الله إن عدنا إلى نهجه وهديه أن يرحمنا وأن يُغيّر سوء حالنا.

والحمد لله رب العالمين