تقديم كتاب «الشيخ حسن علي آل بدر القطيفي»

مكتب الشيخ حسن الصفار

الكتاب: الشيخ حسن علي آل بدر القطيفي
المؤلف: فؤاد الأحمد
الناشر: مؤسسة البقيع لإحياء التراث ـ بيروت /الطبعة الأولى1412هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين.

ما هي وظيفة العالم الديني؟ وما هو دوره في الأمة؟

إن الوظيفة المعروفة والدور التقليدي لعالم الدين في مجتمعاتنا يتلخص في تعليم الأحكام الفقهية التي غالباً ما تنحصر في مسائل العبادات والأحوال الشخصية، وإجراء المراسيم الدينية كصلاة الجماعة وعقود الزواج والطلاق والصلاة على الميت وتلقينه.

ولكن هذا الدور الهامشي المحدود الذي يضطلع به عالم الدين لا يتناسب مع الصورة الخطيرة التي ترسمها النصوص الدينية من آيات وأحاديث لمقام عالم الدين ولموقعيته في الأمة.

فعن رسول الله أنه قال: «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء»[1] .

وعنه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»[2] .

وفي حديث آخر عنه أيضاً: «الفقهاء أمناء الرسل»[3] .

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : «العلماء حكّام على الناس»[4] .

وعن الإمام الحسين : «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه»[5] .

إلى عشرات النصوص والأحاديث التي تبيّن فضل العلماء وتؤكد مكانتهم الخطيرة، وتدعو الأمة إلى الالتفاف حولهم والسمع والطاعة لهم، وأنّ الرادّ على مستكمل الشرائط منهم كالرادّ على الله ورسوله.

وواضح من تلك النصوص الدينية أن الدور الهامشي المحدود لعالم الدين لا يستدعي كل هذا التأكيد والتركيز لمكانة العالم وفضله كون هذه النصوص تحلق إلى آفاق بعيدة وواسعة.

فما هو إذن دور عالم الدين؟ وما هي وظيفته الحقيقية؟

بدراسة واعية للمفاهيم والنصوص الدينية في هذا المجال يمكننا القول بجزم ويقين أن دور عالم الدين هو دور القيادة للأمة في مختلف مجالات الحياة، وأن وظيفته هي رعاية شؤون المجتمع في جميع الجوانب.. ذلك أن الإسلام منهج كامل شامل لتنظيم حياة الإنسان، والأمة مطالبة بتنفيذ برامج الدين وتطبيقها، فلا بدّ أن تتوفر في قيادة الأمة صفتا العلم التفصيلي بمبادئ الدين وأحكامه، والالتزام الواعي بها.

ومن هذا المنطلق، هناك مصاديق وتجليات للدور القيادي لعالم الدين، يمكن الإشارة إليها من خلال المفردات التالية:

أولاً: التوجيه الفكري والحصانة الثقافية

كيف تنتشر معارف الإسلام، ويطلع الناس على أحكامه وتعاليمه إذا لم يقم العلماء الفقهاء بمسؤولية التوعية والإرشاد والتعليم، لقد كان رسول الله يتحمل هذه المسؤولية الخطيرة، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.... [سورة الجمعة: الآية2] وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل: الآية 44] .

وبعد رسول الله كان الأئمة الهداة من أهل بيته يضطلعون بهذا الدور الخطير، أما في فترة غيبة الإمام المعصوم فإن المسؤولية تقع على عاتق الفقهاء الأعلام ورثة الأنبياء وأمناء الرسل ونوّاب الأئمة..

بالطبع فإن القيام بدور التوجيه الفكري للأمة يستلزم الرصد والمواجهة للأفكار والتيارات المضادة والمنحرفة التي قد تغزو الأمة من الخارج، أو التي تنشأ في أوساط المجتمع نتيجة جهل أو سوء فهم أو نزعات مغرضة.

أما تحديد دور الفقهاء المراجع باستنباط المسائل الفقهية المحدودة دون أن يكون لهم شأن أو اهتمام بتبيين مفاهيم القرآن وعقائد الإسلام وتعاليمه ومناهجه لمختلف جوانب الحياة، ودون أن يحصنوا جماهير الأمة عن تأثيرات الكفر والإلحاد والجهل والانحراف العقائدي والثقافي.. أما هذا الفهم الضيق لدور الفقهاء المراجع على الصعيد العلمي المعرفي فهو ناشئ عن قصور في فهم أبعاد الرسالة الإلهية، وتأثر بحالة التخلف والانحطاط التي عاشتها الأمة في هذه العصور..

ولنتأمل الآن بعض الآيات والروايات التي تنص وتؤكد هذه المسؤولية الخطيرة الملقاة على كاهل علماء الدين وفقهائه:

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة البقرة: الآية 174].

وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران: الآية 187].

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [سورة البقرة: الآية 159].

فالآيات الكريمة تعتبر تقاعس العلماء عن تبيان ما أنزله الله من البينات والهدى كتماناً لرسالة الله ونبذاً وإعراضاً عن دينه، وتتوعد أولئك المتقاعسين بأشد العذاب والنكال.

أما الأحاديث والروايات فتتناول هذا الموضوع بتفصيل وشمول، فعن النبي: «من كتم علماً نافعاً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»[6] .

وعن الإمام الجواد : «والعلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة إن رأوا تائهاً لا يهدونه، أو ميتاً لا يحيونه، فبئس ما يصنعون»[7] .

وإذا ما عشعش الجهل في صفوف الأمة فإن العلماء يتحملون مسؤولية ذلك لأن الواجب الديني الملقى على كاهل العلماء هو تعليم الناس، قبل أن يكون من واجب الناس أن يتعلموا، يقول أمير المؤمنين علي : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا»[8] .

وبلفظ آخر يرويه الإمام جعفر الصادق عن جده أمير المؤمنين «قرأت في كتاب علي أن الله لم يأخذ على الجهّال عهداً لطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال لأن العلم كان قبل الجهل»[9] .

أما وظيفة العالم تجاه الانحرافات الفكرية فبيّنها حديث شريف عن رسول الله : «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»[10] .

وفي حديث آخر عنه أيضاً: «يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد»[11] .

ولكي ندرك مدى أهمية وخطورة تصدي العالم للمقاومة والصراع الفكري الثقافي لتثبيت مفاهيم الدين ومبادئه وللوقوف أمام العدوان والانحراف الفكري.. لكي يدرك ذلك علينا التأمل في الأحاديث التي تؤكد أفضلية مداد العلماء (الحبر) الذي تكتب به أقلامهم على دماء الشهداء الذين يسقطون في معارك الجهاد دفاعاً عن الدين والأمة، فهذه الأحاديث تلفت أنظارنا إلى أن هناك نوعين من العدوان ومن الفتوحات، عدوان عسكري، وعدوان فكري، وفتح عسكري، وفتح فكري، وكما أن على الأمة أن تواجه العدوان العسكري، وتفكر في الفتوحات لشق الطريق أمام الرسالة، فكذلك عليها مواجهة العدوان الفكري، وإيصال الهداية إلى سائر المجتمعات عبر القلم والبيان، وإذا كان الجنود يبذلون دماءهم في ساحة المعركة العسكرية، فإن العلماء هم جنود معارك الفكر والثقافة وأقلامهم سلاحهم المشرع، ومدادها يوازي دماء الشهداء بل يرجح عليه، وأي هزيمة عسكرية ستصيب الأمة لو بخل جندي ببذل دمه؟ لكنها هزيمة تهون أمام الانكسار والانهزام الفكري والثقافي لو لم يبذل العلماء الجهود ويتحملون المسؤوليات في التوجيه والتثقيف ومقاومة التيارات الفاسدة والمنحرفة، يقول رسول الله : «يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء»[12] .

إن من أهم امتيازات عالم الدين ودواعي تفضيله على الآخرين هو تصديه للأفكار الشيطانية المنحرفة. كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله : «فضل العالم على العابد سبعين درجة.. وذلك أن الشيطان يدع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهى عنها والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها»[13] .

وعنه : «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه»[14] .

وأن قيام العلماء بوظيفتهم في تبيين معالم الدين وأصول الشريعة وفضح شبهات المناوئين هو سبب بقاء الدين وتمسك المؤمنين به، وإلاّ فإن مؤامرات وأضاليل الكافرين والمنحرفين قد تخمد أوار الهدى وتشيع أجواء الارتداد والابتعاد عن الدين، يقول الإمام علي الهادي : «لولا من يبق بعد غيبة قائمنا من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه، بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب لما بقى أحد إلاّ ارتد عن دين الله..»[15] .

ومن أجل أن يتمكن العلماء من أداء هذا الواجب الخطير في هذا العصر لا بدّ من التوجه لمسألة التخطيط والرصد الثقافي. فالغالب على الإنتاج الفكري الديني هو فردية الإنتاج حين تقل عندنا المراكز والمؤسسات الجماعية في الحقل الفكري، ويندفع الموجهون والمرشدون الدينيون في ممارساتهم التوجيهية بشكل عفوي استرسالي يتأثر البعض منهم بظروف محدودة وحسب اهتماماته وملاحظاته الشخصية، دون أن يكون هنالك ـ في الغالب ـ خطة منبثقة عن دراسة لواقع المجتمع، وتشخيص لأمراضه واحتياجاته الفكرية.. وأيضاً دون متابعة ورصد للتطورات الفكرية على مستوى العالم، أو التيارات الناشئة داخل المجتمع والوافدة إليه..

فقد تجد عالماً متحمساً لطرح فكرة ما أو الدفاع عنها بينما لا يكون لتلك الفكرة أي أهمية أو دور أو تأثير في واقع الأمة المعاشي!

وقد تسمع خطيباً يثير موضوعاً لا يعالج فيه قضية من قضايا العقيدة والمجتمع، بل يكرس حالة القشرية والاهتمامات الثانوية الزائفة!!

إننا بحاجة ماسة إلى أن تولي المرجعية الدينية اهتماماً كبيراً تجاه المسألة الفكرية الثقافية بأن تكون هناك أجهزة ولجان ومؤسسات تتابع تطورات المعرفة في العالم، وترصد المؤامرات التي تستهدف فكرنا وعقيدتنا، وتخطط لتوجيه المؤلفين والخطباء والمبلغين. بالإضافة إلى ذلك لا بدّ من تطوير وسائل التوجيه كماً وكيفاً، والاستفادة من الأجهزة الحديثة والأساليب الفنية، والمطلوب إنشاء دور نشر وصحف ومجلات عالمية ووكالات أنباء ومسارح وسينماءات وإذاعات ومحطات بث تلفزيوني...

ثانياً: التصدي السياسي

ممارسة الحكم وإدارة شؤون المجتمع هي أعلى مهمة وأعظم دور قيادي في حياة الناس، فإذا كانت الجهة المتصدية للحكم صالحة واعية مخلصة كفؤة، استقام أمر الأمة، وتقدمت مسيرتها في مختلف المجالات أما إذا كانت السلطة السياسية فاقدة لتلك الشروط والمواصفات، فلن يستقيم للأمة أمر.

فللسلطة تأثير شامل على مختلف جوانب حياة الناس، ومن هنا قيل: «الناس على دين ملوكهم»، وروي عن الإمام علي : «إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمن»[16] ، وذلك أمر واضح ملموس، فالحكومة هي مصدر القرارات والأنظمة وبيدها تتمركز القوة والقدرة..

فما هو دور الفقهاء والعلماء في مجال السلطة والحكم؟

إنّ هناك من يرى ضرورة ابتعاد الفقهاء عن الشؤون السياسية وأن لا يلوثوا أنفسهم بقضايا السلطة والحكم، وهذا الرأي ساد مجتمعاتنا الدينية منذ عصور التخلف والانحطاط، وشجع الحاكمون المتسلطون والمستعمرون الأجانب هذا الاتجاه، ليحصروا الدين بين جدران المساجد وفي مسائل العبادات وتجميد دور علماء الدين، لتبقى الساحة فارغة أمام شهوات الحاكمين ومؤامرات المستعمرين..

بيد أن من الواضح لكل دارس لتعاليم الإسلام وتاريخ قادته الطاهرين أن التصدي لإدارة شؤون الأمة وفق مناهج الدين واجب شرعي ومسؤولية دينية، ولو لم يكن كذلك لما سعى الأنبياء والأئمة الطاهرون لقيادة المجتمع ولكانوا أولى بالاجتناب والابتعاد عن قضايا السياسة والحكم.

إن كل نبي أو رسول يبعثه الله سبحانه وتعالى هو مشروع قيادة وحكم للناس يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة النساء: الآية 64].

وقال تعالى على لسان نبيه يوسف : ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [سورة يوسف: الآية 55].

وقال عزّ من قائل على لسان نبيه سليمان : ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.... [سورة صّ: الآية 35].

وقال عزّ وجلّ على لسان نبيه إبراهيم : ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [سورة الشعراء: الآية 83].

وقد تكررت في سورة الشعراء آية ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ على لسان خمسة أنبياء هم نوح، وهود، وصالح، ولوط وشعيب ، حين كانوا يدعون الناس إلى طاعتهم، وكانوا هم يرشحون أنفسهم للسلطة.

والمعصومون الذين نعتقد بإمامتهم وخلافتهم بعد رسول الله ليسوا في عقيدتنا مجرد مفتين ومرشدين، بل هم قادة كان يجب أن تخضع الأمة لهم، وأن يتسنموا موقع السلطة والحكم.

ومن هنا، فإن ابتعاد العلماء والصالحين عن ميدان السياسة والحكم هو الذي فسح المجال أمام العملاء والجهلة والمنحرفين لكي يتسلطوا على رقاب المسلمين في هذه العصور، وإذا كانت السلطة بيد غير الملتزمين والعارفين بالدين فلن تأخذ أحكام الإسلام وتعاليمه طريقها إلى التنفيذ والتطبيق، لذا ورد عن رسول الله : «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقض الحكم»[17] .

يقول المرجع الديني السيد محمد الشيرازي: «وأما التوهم بأن السياسة ليست من الإسلام وأن العالم الديني هو العارف بالتفسير والتاريخ الإسلامي والفقه وما أشبه.. فقد كان من نشر المستعمر، حيث أن علماء الإسلام إذا انزووا عن الميدان تسنى للمستعمر أخذ أزمة البلاد، وجعل القوانين التي تخدم الكفر والكفار، عوض الإسلام الذي فيه العزة والاستقلال والنجاة وإلاّ فقد كان الرسول والأئمة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كلهم يزاولون السياسة، وكذلك شأن العلماء قبل دخول المستعمر البلاد، وهذه كتبهم الفقهية وصفحات تاريخهم المشرق تنبئ عن بيانهم المسائل السياسية، وتدخلهم في الأمور، كما ينبئ عن تدخلهم أحوال الشريفين، والفاضلين، والمجلسيين، والعامليين، والشيرازيين وغيرهم..»[18] .

«يجب اضطلاع العالم الديني بالعلم السياسي، بل ذلك وظيفة كل متدين (على نحو الوجوب الكفائي) وذلك لأنه يتوقف عليه إدارة أمور المسلمين بل إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين، ونشر الإسلام، وهداية الناس من الظلمات إلى النور ـ اللذان هما واجبان أيضاً ـ»[19] .

أما تحديد الدور السياسي للفقيه وكيفية تصديه فذلك يخضع لطبيعة الظروف والأوضاع التي تعيشها الأمة، فإذا تمكن الفقيه من التصدي الكامل والمباشر لإدارة دفة السياسة والحكم فهو مطلوب، وإن تعذر عليه ذلك، واستطاع ممارسة دور التوجيه والإشراف على الحاكمين، كان من وظيفته ذلك، وإذا لم تكن الظروف مهيئة لهذا المستوى من التصدي وأمكن للفقيه المشاركة في الحكم ضمن حكومة ائتلافية لإصلاح ما يمكن إصلاحه تعيّن ذلك ما لم تكن له مضاعفات وأخطار غير محتملة، وأدنى درجة هي القيام بدور النصيحة للحاكمين وإلفات نظرهم إلى الانحرافات التي تحدث والتأثير عليهم بالمقدار الممكن..

وإذا كانت الأوضاع التي تعيشها الأمة متردية سياسياً وبلغ الانحراف والظلم بالحاكمين مداه بحيث لا يتمكن العلماء من القيام بأي دور أو تأثير سياسي إيجابي فلا بدّ حينئذ من التصدي لمعارضة السلطة والتخطيط والعمل لمقاومتها إما بأن يعلن الفقيه موقفه المعارض ويحمل راية الثورة والجهاد، وإما بأن يهيئ الأرضية والأجواء المناسبة ويدعم الناقمين والثائرين من وراء الستار إن اقتضت الظروف ذلك..

تلك هي أهم الصور والخيارات التي يمكن للفقيه أن يمارس عبرها دوره السياسي ويتصدى لهذه المسؤولية الخطيرة وبشيء من التوضيح يمكن الحديث هنا عن كل صورة من تلك الصور:

1/ الفقيه حاكماً

السلطة والحكم هي أخطر مقام في المجتمع فيجب أن يتصدى لها الأفضل من بين أبنائه، والفقيه الجامع للشرائط هو الأولى والأجدر بهذا المقام، ولذلك كانت النصوص الدينية تؤكد ذلك، كمقولة عمر بن حنظلة حيث قال: «سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان خطأً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»[20] .

وعن أمير المؤمنين قال: «قال رسول الله : «اللهم ارحم خلفائي»، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي»[21] .

وجاء عن الإمام المهدي (عج): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»[22] .

وورد عن أمير المؤمنين قوله: «العلماء حكام على الناس»[23] .

وروي في (تحف العقول) عن أبي عبدالله الحسين في خطبة طويلة يخاطب بها علماء عصره قال: «وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلاّ بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤنة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم..»[24] .

انطلاقاً من هذه النصوص وأدلة أخرى غيرها فإن على الفقيه العمل والتحرك باتجاه موقع السلطة والحكم، وعلى الأمة أن لا تسلم زمام أمرها إلاّ إلى فقيه جامع للشرائط.

يقول المرجع الديني السيد محمد الشيرازي:

«الظاهر استحباب السعي من العالم الجامع للشرائط لنيل منصب الرئاسة في الدولة الإسلامية بقصد إقامة الأحكام إذا كان يرى نفسه أكفأ من غيره، أو أراد طلب الثواب، قال سبحانه في ذلك: ﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ....

وقال علي : «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقين حبلها على غاربها» مما يدل على وجوب القيام بالأمر مع المكنة، فإن كان واحداً وجب عليه عيناً وإن كان متعدداً وجب عليه كفاية، فإن في ذلك أسوة بالأنبياء والأئمة حيث طلبوا الحكم، بالإضافة إلى أنه مقدمة إقامة الدين ونشر العلم وقطع دابر الظلمة، قال تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ...[25] .

2/ الإشراف على الحكم

حينما لا تساعد الفقيه صحته الجسمية أو ظروفه الاجتماعية أو كفاءته وخبرته العملية على التصدي المباشر لإدارة دفة الحكم فإنه يجيز من يراه قادراً أو مناسباً للقيام بهذا الدور، فتكون شرعية الحاكم الفعلي مستمدة ومنبثقة من إجازة الفقيه له، ويأخذ الفقيه دور المراقبة والإشراف.. وكأنموذج لذلك ما حصل للفقيه المشهور الشيخ جعفر الكبير النجفي صاحب كشف الغطاء (1154 ـ 1227هـ) فقد أجاز لحاكم إيران فتح علي شاه القاجاري ممارسة الحكم وإدارة شؤون الحرب وأثبت نص إجازته في كتابه كشف الغطاء باب الجهاد[26] .

3/ المشاركة في الحكم

في حال أن سنحت الفرصة للفقيه المشاركة في حكومة قائمة بتولي بعض الوزارات والمناصب أو إدارة بعض المؤسسات الرسمية، فيستطيع من خلال تلك المشاركة تطبيق الممكن من أحكام الله، وتقليل انحرافات السلطة، والدفاع عن حرمات الدين وحقوق الناس، ولم تكن في المشاركة مضاعفات وأخطار لا تعادل هذه المكاسب الممكنة أو أمكن تلافي المضاعفات ولو تقسيم الأدوار بين المؤمنين الواعين، فإن المشاركة في الحكم حينئذٍ تكون مطلوبة مفيدة.

يقول المرجع الديني السيد محمد الشيرازي:

«أما المقاومة الإيجابية في أن يدخل الإنسان في الحكم لأجل الإحسان إلى المسلمين، والحدّ من نشاط الجائرين، كما دخل يوسف الصديق وعمران والد موسى ، ومؤمن آل فرعون في أحكام الجائرين.

وكما دخل الإمام أمير المؤمنين ، والحسنان، وسلمان، وأبو ذر، وعمار في أحكام الثلاثة في الجملة (مع اعتقادهم أن الخلافة كانت حقاً لعلي دون الخلفاء الثلاثة).

ودخل علي بن يقطين في وزارة هارون، وكذلك داود الزربي، وكان من ثقاة موسى بن جعفر ، وكذلك كان محمد بن إسماعيل بن بزيع في الوزارة، وكان من ثقاة الكاظم ، وكان عبدالله النجاشي والياً على الأهواز من قبل المنصور، وهو ثقة كتب إليه الإمام الصادق رسالة معروفة، وكان علي بن عيسى ومحمد بن علي ولده أميرين بقم من قبل السلطان وهما ثقتان من ثقاة الهادي ، وكان ابن السكيت مؤدباً لابن المتوكل وقد جره تجاهره بحب أهل البيت إلى قتله في قصة مشهورة، وكان جعفر بن محمد بن الأشعث مربياً لمحمد الأمين ابن هارون العباسي، ودخل الإمام الرضا حكم المأمون، والظاهر أنه لم يكن خوفاً من القتل ـ فإن القتل لهم عادة ـ بل لأجل هدم حكمه، وإظهار اغتصابه وبيان جهله وعدم استحقاقه للخلافة»[27] .

4/ النصيحة للحاكم

ترتبط قرارات الحاكم وتصرفاته بأوضاع الأمة ومستقبلها، وأي خطأ وانحراف يصدر عنه يضر بمصلحة الأمة ككل ويتنافى مع قيم الدين وأهدافه، وعلى المسلمين وفي طليعتهم العلماء السعي بأقصى حدٍّ ممكن للتأثير على قرارات الحاكم لتكون مطابقة لأحكام الإسلام ومصلحة الأمة.. وقد يكون للحوار والنصيحة والموعظة تأثير محتمل في بعض الأحيان على الحاكمين، وقد أمر الله نبيه موسى في بداية الأمر توجيه الخطاب اللّين الهادئ لفرعون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه: الآيتان 43-44].

وكان أمير المؤمنين علي ينصح الخلفاء الذين سبقوه ويبدي لهم الرأي والمشورة مع اعتقاده بأحقيته هو بالخلافة دونهم، كما كان يراسل معاوية بن أبي سفيان ويبعث له المندوبين عنه، وكذلك يحتفظ لنا التاريخ بمراسلات وحوارات للإمام الحسن مع معاوية، ومن الإمام الحسين إلى يزيد، وكذلك سائر الأئمة كنصيحة الإمام محمد الباقر لعبد الملك بن مروان حول النقد الإسلامي، وموعظة الإمام الهادي للمتوكل..

إن اللقاء مع الحاكم لتذكيره بمراعاة قوانين الإسلام لحثه على احترام حقوق المواطنين ـ أو كتابة الرسائل والبرقيات، وإرسال الوفود والمندوبين إليه بهذا الصدد قد يكون وسيلة مؤثرة أو محتملة التأثير طبعاً مع أخذ مجمل الظروف والأوضاع بعين الاعتبار، ودراسة الموقف لاختيار أنسب الوسائل والأساليب في التعامل مع الحاكمين.

وإن كثيراً من العلماء ليتردد في القيام بهذا الدور انطلاقاً من فكرة عدم التدخل في الشؤون السياسية وتخوفاً من الضرر الذي قد يصيب شخصه أو لعدم الاهتمام بالمصلحة العامة..

5/ الإعداد للتغيير

فإذا كانت الأمة تعيش واقعاً سياسياً منحرفاً لوجود حكم جائر ظالم ولم تجد الأساليب الهادئة لتصحيح مساره، فعلى المؤمنين الواعين، والعلماء في طليعتهم التفكير والتخطيط لتغيير الواقع الفاسد، الذي لا يحدث بالطبع إلا بعد مرحلة من الإعداد والتهيئة بتربية الكوادر الكفؤة، ونشر الثقافة السليمة، وفضح الواقع الفاسد، وتعبئة الأمة ضده، وهذا ما كان يقوم به أئمة الهدى في مواجهة الانحراف والفساد الذي أصاب الأمة..

6/ إعلان المعارضة والجهاد

حينما يتمادى الحاكمون في غيّهم، ويتعمق الانحراف في واقع الأمة، فلا خيار أمام الأمة إلاّ الثورة والتمرد والمقاومة، وهنا لا بدّ أن يأخذ الفقيه موقعه في قيادة نضال الأمة مقتدياً بالإمام الحسين بن علي الذي يروي عن جده رسول الله قوله: «من رأى سلطانًا جائراً مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله»[28] .

ثالثاً: المسؤولية الاجتماعية

يحظى عالم الدين في مجتمعاتنا بثقة شعبية والتفاف جماهيري، فالانتماء الديني في نفوس الناس يدفعهم لاحترام العالم باعتباره رمزاً للدين ومحام عنه، والسيرة الأخلاقية الطيبة لعلماء الدين في المجتمع تجعلهم موضع الثقة والتقدير، كما أن تفرغ العالم وتوجهه لمعالجة القضايا الدينية التي هي موضع حاجة الناس تخلق ارتباطاً مباشراً بينه وبين أفراد المجتمع لمختلف مستوياتهم.. وإذا ما أضفنا لذلك تأثير التعاليم والتوجيهات المؤكدة لتفضيل العالم ولزوم تقديره واحترامه كان من الطبيعي أن يتمتع عالم الدين بهذه المكانة المرموقة في المجتمع.

ولكن هذه المكانة والوجاهة يجب أن يستثمرها العالم لمنفعة المجتمع ومصلحته ولخدمة القيم الإسلامية.. فمن المهام الاجتماعية لعالم الدين تعزيز وحدة المجتمع وتقوية تماسكه وتضامنه ببث قيم وتعاليم الوحدة والتعاون ومكافحة أسباب التفرقة والتمزق، بالسعي لإصلاح ذات البين الذي هو «أفضل من عامة الصلاة والصيام»[29] .

وكان الإمام الصادق يكلّف تلامذته المنتهلين من علومه بالمبادرة لعلاج قضايا الخلافات بين المؤمنين وإن استلزمه نفقات مالية كما عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبدالله : «إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي»[30] .

وعادة ما يفهم من إصلاح ذات البين الجوانب الفردية الشخصية، كالمصالحة بين الرجل وزوجته والأخ وأخيه والجار مع جاره والمتشاركين في عمل ما.. ولكن الأهم من ذلك هو الصلح والوئام بين الفئات والتجمعات التي قد تحدث بينها نزاعات بسبب اختلاف فكري أو انتماء اجتماعي أو مصالح مادية أو مواقف سياسية.. وتعاني مجتمعاتنا كثيراً من مثل هذه الخلافات والنزاعات، والمطلوب من علماء الدين أن يكونوا دعاة الوحدة والتعاون ومطفئ نيران الفرقة والتمزق.

وكم هو مؤلم ومؤسف أن يمارس العالم نقيض الدور المطلوب منه فيعبئ الناس على بعضهم البعض ويشجع حالة الخلاف والانقسام؟! إنها صفة من صفات علماء السوء والعياذ بالله.

ومن المهام الاجتماعية لعالم الدين تشجيع تقدم المجتمع المسلم في مختلف المجالات فالتنمية الاقتصادية والرعاية الصحية والإبداع العلمي والنشاط الاجتماعي ليس بعيداً عن اهتمام عالم الدين، لأن الدين يريد لأبنائه وللبشرية جمعاء حياة سعيدة كريمة من خلال الاستفادة من ثروات الكون وخيراته، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال: الآية 24] . وفي آية أخرى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل: الآية 97].

كما أن من وظائف العالم اجتماعياً: رعاية الفقراء والمحتاجين بتقسيم الحقوق الشرعية في أوساطهم وحض الأثرياء والمتمكنين على مساعدتهم، وقد كان الأئمة الطاهرون يتصدون بشكل مباشر لقضاء حوائج المحتاجين وخدمة الفقراء والمساكين. فعن سعيد بن قيس الهمداني أنه رأى أمير المؤمنين علياً يوماً في شدة الحر، في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين بهذه الساعة؟ قال: ما خرجت إلاّ لأعين مظلوماً أو أغيث ملهوفاً[31] .

وعن هشام بن سالم قال: كان أبو عبدالله الصادق إذا أعتم وذهب من الليل شطره، أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم، فحمله على عنقه، ثم ذهب إلى أهل الحاجة، من أهل المدينة، فقسمه فيهم ولا يعرفونه، فلما مضى أبو عبدالله فقدوا ذلك فعلموا أنه كان أبو عبدالله[32] .

تلك كانت أهم معالم الدور القيادي لعلماء الدين في الأمة، وقد حفل تاريخنا الماضي والمعاصر بنماذج وقدوات رسالية من علماء الدين القياديين، الذين نذروا حياتهم وكرسوا وجودهم وبذلوا جهودهم لتحمل المسؤولية الخطيرة المناطة بهم في الدفاع عن الدين وخدمة الأمة.

وتأتي شخصية الفقيه المجاهد الشيخ حسين علي البدر القطيفي (1278-1334) في الطليعة من تلك النماذج والقدوات الرسالية لتاريخنا المعاصر.

فقد تجاوزت شخصيته حدود منطقته وبلده وامتد دوره وتأثيره القيادي الرسالي مختلف أقطار الأمة الإسلامية كالهند والعراق وليبيا إضافة إلى موطنه القطيف في الجزيرة العربية، ذلك أن الشخصية الإسلامية لا تخضع لمنطق التجزئة الذي فرضه الاستعمار والتخلف على بلاد المسلمين. والمسلم يعتبر نفسه مسؤولاً ومعنياً لكل ما يحدث في أي بلد إسلامي ولأي مجتمع مسلم فالمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ومن أصبح ولم يهتم بأمور المسمين في أي مكان كانوا فليس بمسلم.

وما أحوجنا في هذا المقطع الزمني بالخصوص إلى تمثّل ودراسة حياة الشخصيات القيادية الرسالية من علماء الدين لنستلهم من مواقفهم ونضالاتهم الدروس والعبر التي تنفعنا في المعركة الشاملة ضد التخلف والتبعية وهيمنة المستكبرين والظالمين..

ومع أهمية الأدوار التي قام بها الفقيه البدر في مناطق عديدة وفي فترة حرجة من التاريخ الحديث إلاّ أن شخصيته تكاد تكون مغمورة مجهولة في أوساط العلماء المجاهدين والثوار الرساليين.

ومن هنا تأتي قيمة الجهد الكبير الذي بذله الأخ فؤاد الأحمد مؤلف هذا الكتاب القيم لدراسة حياة وشخصية الفقيه البدر.

والمؤلف الكريم شابّ يتدفق إيماناً وحماساً في خدمة العقيدة والوطن، هجر بلاده وموطنه لينتهل من نمير العلم والمعرفة وليشارك في الدفاع عن قضايا الأمة، وبإخلاصه واجتهاده أحرز مرتبة فكرية وأدبية عالية ولطالما أتحف العديد من الصحف والمجلات الإسلامية بأبحاثه ومقالاته الثقافية والسياسية النافعة، وإنّ أملي لوطيد فيه وفي أمثاله من الشباب الرساليين، بأن يبعثوا النهضة العلمية والأدبية في بلادنا من جديد، وأن يسمعوا العالم صوت هذه المنطقة المجهولة المهملة التي تزخر بالكفاءات والطاقات، وتفخر بتاريخ علمي عريق غير أن الظروف السياسية الحاضرة تفرض على هذه المنطقة حصاراً إعلامياً وقمعياً فكرياً لا مثيل له في العالم المعاصر.

عسى الله أن يبدّل سوء حالنا بحسن حاله وأن يمنّ على شعبنا بالحرية والكرامة.

وشكراً للأخ المؤلف على جهوده الطيبة التي بذلها في إعداد هذا الكتاب القيّم، وننتظر منه المزيد من الإنتاج الفكري والأدبي، زاده الله توفيقاً ونشاطاً وكثّر في شباب مجتمعنا أمثاله.

والحمد لله ربّ العالمين.

حسن الصفار   
27/10/1410هـ

[1]  العاملي: زين الدين بن علي (الشهيد الثاني)/منية المريد ص104/الطبعة الأولى 1409هـ/مكتب الإعلام الإسلامي ـ قم.
[2]   بحار الأنوار ج2 ص22 حديث67 .
[3]  المصدر السابق ج1 ص216 .
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم ص32 .
[5]  تحف العقول ص172 .
[6]  بحار الأنوار ج2 ص78 حديث66 .
[7]  الكافي ج2 ص78 حديث66.
[8]  نهج البلاغة: ص 1304.
[9]  ميزان الحكمة: ج6 ص472.
[10]  الكافي: ج1 ص54.
[11]  وسائل الشيعة: ج27 ص150 حديث 33458.
[12]  ميزان الحكمة ج 6 ص457 .
[13]  بحار الأنوار ج2 ص24 حديث 72.
[14]  ميزان الحكمة ج6 ص469.
[15]  بحار الأنوار ج2 ص6 حديث 12.
[16]  ميزان الحكمة ج4 ص514.
[17]  بحار الأنوار ج28ص40 حديث3.
[18]  الشيرازي: محمد الحسيني/الفقه ـ السياسة/ص73/الطبعة السادسة1987م/دار العلوم ـ بيروت.
[19]  المصدر السابق ص48.
[20]  المنتظري: الشيخ حسين علي/دراسات في ولاية الفقيه ج1ص427/الطبعة الثانية 1409هـ/الدار الإسلامية ـ بيروت.
[21]  المصدر السابق ص461.
[22]  المصدر السابق ص 478.
[23]  المصدر السابق ص483.
[24]  المصدر السابق ص485.
[25]  الشيرازي:محمد الحسيني، الفقه ـ الحكم في الإسلام ص62/ط6/1987م/دار العلوم ـ بيروت.
[26]  الأمين: السيد محسن، أعيان الشيعة ج4 ص100/دار التعارف 1406هـ ـ بيروت.
[27]  الشيرازي/ الفقه ـ الحكم في الإسلام ص242.
[28]  الطبري: محمد بن جرير،  تاريخ الطبري ج7 ص300/الطبعة الخامسة 1409هـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
[29]  نهج البلاغة/ الكتاب 47.
[30]  ميزان الحكمة ج5 ص363.
[31]  العكبري البغدادي:الشيخ المفيد الإمام أبي عبدالله محمد بن محمد النعمان /الإختصاص ص157 /الطبعة السابعة 1425هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
[32]  بحار الأنوار: ج47 ص38 حديث 40.