استمعوا لنصيحة «الغيث» جيداً

إنها إذاً النقطة العمياء التي لم يتمكن راكبوا الحافلة من رؤيتها، تلك التي كشف عنها فضيلة الدكتور عيسى الغيث مستشار وزير العدل في ندوته الأخيرة التي أقيمت في منزل سماحة الشيخ حسن الصفار. فبالرغم من إسراف الدكتور في العموميات كعادة رجالات الدولة السعودية، إلا إنه قدم ملاحظة دقيقة جداً، تكاد أن تكون عصارة محاضرته. قال الغيث هكذا دون مواربة: لا تعطوا كل القضايا بعداً طائفياً حتى لا تستعدوا الآخرين عليكم. عند طرح مطالبكم الحقه أصبغوها بألوان وطنية كي تذوب بين الخطوط الطائفية.

إعادة شريط أحداث العام الفارط تؤكد نسبية صحة الاستنتاج الذي توصل إليه الضيف. في كون الشعور بالاضطهاد والغبن السياسي لدى هذه الطائفة قد ولد حالة من البارانويا المتقدمة سواء من الانفتاح على السلطة السياسية أو في الخشية من انفراط عقد الطائفة نتيجة هيمنة ثقافة الأغلبية على المشهد العام، تبرز هذه المخاوف رغم كل ما تورده دراسات علم الهوية من تطمينات وأدلة وقرائن يصعب دحضها على استحالة اندثار أو حتى تراجع هوية ديناميكية ومشبعة بتراث تضحوي غني يعاد إنتاجه موسمياً كما هو لدى الهوية الشيعية. حتى الخصوصية التي هي حق لجميع الأقليات ويتشبث بها الناس تحمل في بعض أذيالها أجزاءً مُناهضة لقبول أو تسهيل عملية اندماجها الوطني. يمكن الرجوع إلى أغلب المقالات والخطب التي تناولت جدوائية الانفتاح على الحكومة أو على السلفيين في الأعوام الماضية للوقوف على حجم المخاوف غير المبررة التي سيقت لتقويض فكرة الاندماج.

الوصول إلى هذه النتيجة لا ينفي أبداً وجود تمييز طائفي ممنهج بحق أهل هذه الطائفة ساهم في انطوائها على الذات، والتاريخ الحديث يعج بالأمثلة التي تبدأ من الحرمان من تولي المناصب العليا في الدولة وصولاً لمنع إقامة صلاة الجماعة في مدينة الخبر، كما تجدر الإشارة إلى أن الاندماج عملية من طرفين وتتطلب رضاء الطرفين على شروطها، وهي بالتالي لا يمكن أن تتم من طرف واحد، لكن هذا لا يعني في ذات الوقت بأن الجهد الذي بُدل لكسر العزلة، كان كافياً، بل على العكس كثير من الأنشطة الاجتماعية كان مكرساً ومعززاً للتقوقع أكثر، ومسهلاً للأخر مهمة التعبئة المضادة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يشارك الشيعة في الحركة المطلبية التي قادتها الحركة الإصلاحية ولم يطالبوا بالإفراج عن المعتقلين من غير الشيعة باستثناء الناشط الحقوقي مخلف الشمري، كما لم يشاركوا أيضاً في الجدل الفكري القائم حول الليبرالية وحقوق المرأة، كذلك لم يكن صوتهم مسموعاً في كارثة جدة تضامناً مع المهمشين. بعبارة مختصرة، بقي الاهتمام الشيعي منصباً على القضايا التي تمس الطائفة الشيعية ورموزها بشكل مباشر فقط، وبقي التفاعل مع القضايا غير الشيعية خافتاً ودون المستوى المأمول في معظم الأحيان.

لا أحد يجادل بأن شيعة السعودية تعرضوا لتمييز طائفي مقيت. كما لا أحد يجادل بأن هناك فئات اجتماعية تتعرض للتمييز هي الأخرى، لكن التسليم بهذه الحالة والتفكير والتصرف على أساسها يقود لنتائج كارثية وإلى التهرب من المسؤوليات الوطنية الكبرى، بما يؤدي حتماً إلى إطالة عمر الصراعات الطائفية والإثنية القائمة ويجعل الحلول السياسية تنزح باتجاه سيادة هوية أحادية استبدادية، كما هو الحال اليوم، فتبقى فلسفة المواطنة والوطن فكرة رومانسية.

كثير من الأمور قد تغيرت في العقد الأخير في المنطقة، كذلك الوضع بالنسبة للشيعة الذين ينتابهم شعور بالاعتزاز بالنفس على وقع انتصارات المقاومة وصعود إيران كقوة إقليمية، أضف إلى ذلك تحالفاتهم السياسية الجديدة التي كسرت النمط التقليدي للعلاقات المذهبية والسياسية بحيث تطورت العلاقات في كل مكان تقريباً ما عدا السعودية. تحالف الشيعة مع عائلة الصباح في الكويت، وتحالف حزب الله مع التيار الوطني الحر في لبنان، ومشاركة جمعية الوفاق البحرينية في السلطة.

بهذا المعنى أجد نصيحة الدكتور عيسى الغيث ثمينة جداً في هذا التوقيت الذي تسعى فيه قوى سعودية مختلفة على التعرف على ملامح الهوية الشيعية واستكشاف ما هو مشترك لعزيز النسيج الاجتماعي وتقوية أواصر المواطنة وتيسير عملية الاندماج أملاً في بناء توازنات اجتماعية جديدة تتناسب مع حجم الكتل البشرية والمتغيرات المحلية والإقليمية.

لكن السؤال الذي يطل برأسه بين الركام الآن: إلى متى سيبقى شيعة السعودية محافظين على الأسس التقليدية في تكوين هويتهم السياسية وإلى أي حد هم مستعدين للتغيير؟!

11/1/2011م