اليسر في القوانين والعادات والسلوك

مكتب الشيخ حسن الصفار

الخطبة الأولى: اليسر في القوانين والعادات والسلوك

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

التيسير والتعسير سلوكان متمايزان متضادان، فالتيسير يعني جريان الأمور بسهولة ومرونة دون تكلف، فيما التعسير يعني الشدة والضيق والتعقيد في الأمور. يتوق الإنسان دائما إلى إتمام أموره بيسر وسهولة، وقد ورد في الآية القرآنية الدعاء على لسان نبي الله موسى ﴿ويسر لي أمري. وشددت تعاليم الإسلام على ترسيخ ثقافة اليسر والتيسير، والنهى في مقابل ذلك عن العسر والتعسير، وهناك الكثير من النصوص والتعاليم الواردة في الشريعة التي تصب في هذا السياق، ومنها الآية الكريمة ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

هناك ثلاثة جوانب يمكن من خلالها تسليط الضوء على مسلكي اليسر والعسر في حياة الأفراد والمجتمعات؛ الأول جانب التعامل الشخصي، والثاني جانب القوانين والأنظمة، والثالث جانب العادات والأعراف والتقاليد.

سلوكيات الأشخاص:

من السهل على أي منا ملاحظة مدى الشعور باليسر والسهولة التي يلاقيها أثناء تعامله مع نوعية معينة من الناس في حياته العامة، فيما ينتابه على النقيض من ذلك تماما شعور مختلف عند تعامله مع صنف آخر من الناس. فالصنف الأول لا تكاد ترى من طرفهم أي تعقيد وصعوبة في تعاملاتهم مع الآخرين، بينما تجد لدى الصنف الآخر نزعة دائمة لتعكير صفو الآخرين وتنكيد حياتهم. في هذا المجال حثت النصوص الشرعية الإنسان المؤمن على أن يكون متسامحا متساهلا في تعامله مع الآخرين، وقد ورد عن رسول الله أنه قال: (يسروا ولا تعسروا)، ومضمون حديث النبي الأكرم يشمل التعاطي الشخصي في كل شأن من شؤون الحياة، فاليسر والبعد عن تعقيد الأمور هو المطلوب دائما.

إن تيسير الأمور يشمل أبسط الأشياء حتى في قضايا البيع والشراء، فقد ورد عنه : (أدخل الله رجلا الجنة كان سهلا، مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا). ويحضرني في هذا السياق، ما لمسته ذات مرة وأنا في محل تجاري من ضيق وانقباض على وجه البائع تجاه أحد الزبائن، فسألته عن سبب ضيقه من ذاك الزبون تحديدا، فاشتكى لي صاحب المحل بأن ذلك الزبون لا يشتري شيئًا بيسر أبدا، فهو يعمد للجدال والمماكسة لدرجة أتمنى معها لو أن ذلك الغرض غير موجود عندي حتى لا يأتي لمحلي بتاتا. وورد عن النبي : (حرم الله على النار كل هين لين سهل قريب من الناس)، وعن جابر بن عبدالله الأنصاري عن رسول الله : (رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).

يشجع الإسلام الإنسان المسلم على أن يكون سهلا في التعامل مع الآخرين، وذلك لا يعني بأي حال أن يضيع الواحد حقوقه فيكون مغبونًا، فقد ورد في الحديث عنه : (إن المغبون لا يؤجر)، وإنما المطلوب من الإنسان الاتزان في الدفاع عن حقه, والبعد عن التعقيد في تعاطيه مع الآخرين على حد سواء.

في هذا السياق يمكن ملاحظة حالة اليسر والعسر على المستوى الشخصي عند التوسط  لفك النزاعات بين الأشخاص، فإذا ما صادفت شخصا سهلًا لينًا تستبشر وتشعر بارتياح بالتوسط بين المختلفين، أما إذا ابتليت بطرف متشدد، عندها يأتي الشعور بالعسر وصعوبة الأمر, وأن الأمر لن ينتهي بسرعة ويسر. كما يمكن ملاحظة هذا السلوك عند التعاطي مع بعض الموظفين في الإدارات العامة، فهناك موظف لديه نزعة مزاجية لتعقيد المراجعين فلا تمشي عنده المعاملات بيسر، ويهون الخطب إذا كانت المسألة خاضعة لتطبيق اللوائح والأنظمة، غير أن الأمر كثيرا ما يكون بخلاف ذلك حيث تحكيم الهوى والمزاج الشخصي، وهذا أمر لا يجوز.

التعقيد في الأنظمة والقوانين:

تمتاز بعض البلاد بقوانين سلسة ويسيرة تساهم في تسهيل حياة الناس، فيما تتسم بلاد أخرى بقوانين معقدة تعرقل حياة الناس على شتى المستويات التجارية والثقافية والاجتماعية. هناك في بعض البلاد يمكن ملاحظة مدى سهولة الحصول على تراخيص الأنشطة التجارية بسهولة ويسر، فيما تنزع بلاد أخرى نحو وضع شتى أنواع القيود والعقبات أمام تأسيس المشروعات التي يفترض أن تصب في مصلحة البلد في نهاية المطاف. إذ يحتاج أي صاحب مشروع جديد في البلاد ذات القوانين المتخلفة لمشوار طويل من الإجراءات البيروقراطية والتوسل بالوساطات الكبيرة، الأمر الذي يقوده للاحجام عن مشروعه في أحيان كثيرة نتيجة الصعوبة في الحصول على التصاريح المطلوبة.

يشار في هذا المجال إلى التجربة الرائدة لإمارة دبي ونجاحها في استقطاب رؤوس الأموال والأنشطة التجارية والمشروعات الضخمة، فكيف نجحت هذه الإمارة الصغيرة فيما عجز عنه الآخرون. وما الذي يميزها عن غيرها من البلدان المجاورة؟ ولماذا نجد رؤوس الأموال الضخمة لتجار الخليج تصب هناك؟ حقيقة الأمر يكمن السر في حجم التسهيلات المقدمة, وسهولة القوانين, ويسر الإجراءات, بما يفوق البلاد المجاورة بمراحل، هذا هو سر النهضة الاقتصادية في هذه الإمارة.

والسؤال ما الذي يمنعنا من أن نحذو حذوهم؟ ولماذا نعسر على الناس حياتهم؟ ولماذا يجد المواطن أمامه ألف عقبة وعقبة حتى ينشئ مشروعًا تنمويًا أو تجاريًا أو اجتماعيًا؟ أليس ذلك بخلاف الشريعة السمحاء التي كان وسيظل منهجها قول الله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

التعقيد في العادات والأعراف:

لكل مجتمع عاداته وتقاليده الاجتماعية، وما يميز بعض المجتمعات بعدها عن التكلف والتعقيد في عاداتها وتقاليدها، في مقابل مجتمعات أخرى ساهمت عاداتها في إضفاء المزيد من الأعباء والتكاليف على عاتق أفرادها. ولو أخذنا تقاليد المجتمعات في موضوع الزواج مثلا فسنجد بأن هناك مجتمعات تكتفي بالحد الأدنى من التقاليد لإتمام حفل الزفاف بما يوفر الاحتفاء البهيج دون كلفة باهضة، لكن بعض المجتمعات تفرض تقاليدها أن ينفق الزوج على حفلة الزفاف أضعاف تكاليف الزواج الحقيقي, وبشكل يفوق ما ينفقه المتزوج على تقديم المهر وترتيب منزل الزوجية. إضافة إلى بذل جهود كبيرة مضنية, تحصل بسببها مشاكل وحساسيات, هنا يمكننا القول بأن مجتمعنا مع الأسف من المجتمعات المعقدة في هذا المجال، فالناس عندنا لازالوا يتفننون في ابتداع عادات وتقاليد جديدة ترهق كاهلهم، حتى أن تكاليف حفلات الزواج لدى السعوديين بلغت في عام واحد أكثر من 1.1 تريليون ريال  حسبما  نشرت صحيفة اليوم بتاريخ 14/8/1432هـ الموافق 15/7/2011م.

الملفت في الأمر أن مجتمعنا لازال مستغرقا في إدراج عادات جديدة بين الحين والآخر، فبعد حفلات الزفاف جاءت حفلات عقد القران وحفلات تخرج الصغار من رياض الأطفال وغيرها.. مع ما يصاحب ذلك من تكاليف ماليه لا تساهم سوى في استنزاف الأموال, وزيادة الأعباء على كاهل الأسر. حقيقة الأمر، لا يستحق هذا النوع من المناسبات أكثر من لفتات رمزية بعيدة كل البعد عن التكلف والتعقيد. ولعل ذات الأمر ينسحب على الاحتفالات التي تقيمها بعض اللجان الخيرية ولجان التكريم ضمن احتفالاتها، والتي تعمد لتقديم دروع تذكارية باهضة الثمن. أصل الاحتفاء وتكريم الناشطين حسن لكن لا يجب أن يكون على نحو مبالغ ومكلف ماليا.

ولعل أغلبنا رأى كيف أن مجتمعات أخرى اعتادت على تبادل الهدايا الرمزية دون النظر لسعرها، حتى أننا نجد على مستوى رؤساء الدول، يتبادلون هدايا رمزية قد لا تتعدى الصور التذكارية لبعض الآثار التي لا تكلف شيئًا، وفي مقابل ذلك نستغرب نحن اندفاع مجتمعنا باتجاه تعقيد شئون حياتهم يوما بعد آخر.

لقد تناول القرآن الكريم مزايا خاصة لرسالة النبي الأكرم ومنها قوله تعالى: ﴿ويضع عنهم إصرهم الأغلال التي كانت عليهم) فعلينا أن لا ننساق مع الصرعات الجديدة, والعادات والتقاليد المرهقة لكاهل الجميع, سواء في حفلات الزواج مراسيم العزاء التي باتت لا تخلو من تعقيدات مزعجة كذلك، فهذا خلاف التيسير. وقد ورد عن رسول الله : (تياسروا في الصداق) بمعنى التساهل وتيسير مهور النساء، وعنه : (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها) أي ولادتها، وكان رسول الله إذا بعث أحدا من أصحابة قال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا). وعن ابن عباس قال، قال رسول الله: (علموا ويسروا ولا تعسروا)، وتبعا لذلك علينا تعزيز هذه المفاهيم الواردة في السنة المطهرة ضمن تعاملاتنا في شتى الأمور الحياتية. نسأل الله أن ييسر لنا جمعيا أمور الدنيا والآخرة.

الخطبة الثانية: الإنسانية والتطلع للعدل

أجمعت صحاح المسلمين وتواترت مصادر الحديث عند جميع المذاهب على قضية ظهور الإمام المهدي المنتظر في آخر الزمان، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلمًا وجورًا وعدوانا، ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملأها قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وعدوانًا). وبلغت استفاضة تلك الأحاديث حدا دفع ابن تيمية في منهاج السنة للقول "إن الأحاديث التي يحتج بها على ظهور المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم". فكل المذاهب الإسلامية لديها اعتقاد وإيمان بظهور الإمام المهدي، فيما يكمن الاختلاف بين السنة والشيعة في بعض التفاصيل، منها ما يتمحور حول ولادة الإمام، وما إذا كان ينحدر من ذرية الإمام الحسن كما يرى بعض أهل السنة, أم من ذرية الإمام الحسين كما ذهب الشيعة، وبعض السنة, وما إذا كان ولد بالفعل وهو حي يرزق كما يعتقد الشيعة أم أنه سيولد في وقت لاحق كما يرى أهل السنة. هذه خلافات في التفاصيل كما في أي شأن من الشؤون الإسلامية العقدية والفقهية، لكن أصل القضية متفق عليها.

يأتي السؤال هنا، عن معنى الاحتفاء بالإمام المهدي ، وللإجابة على ذلك هناك معنيان من المعاني الكبيرة لإحياء هذه المناسبة، الأول هو التطلع للعدل، الثاني هو الحفاظ على مستوى الأمل في النفوس.

التطلع للعدل:

تعاني البشرية اليوم أكثر من أي وقت مضى من انتشار الظلم، فقد أصبح الظلم والجور سياسية عالمية مهيمنة تحظى بغطاء وشرعية من قبل أقوى المؤسسات العالمية وهي مجلس الأمن الدولي. فمجلس الأمن المنوط به حماية الأمن والسلم العالميين بات مؤسسة تحمي الظلم والعدوان في كثير من الموارد والمواقع.

لقد تحولت الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس والتي احتكرت لنفسها حق النقض "الفيتو" على حساب بقية الشعوب، تحولت إلى دول شريكة فيما يجري من مظالم في هذا العالم، ولا أدل على ذلك من مأساة الشعب الفلسطيني الذي يتعرض يوميا للظلم والعدوان, على يد كيان العدو الصهيوني، الذي يعلن بين الفينة والأخرى عن بناء آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية الجديدة على حساب أهل الأرض فيما يكتفي العالم بموقف المتفرج.

وفي السياق ذاته، يشكل انتشار الفقر والمجاعات في العالم انعكاسا ملموسا لانتشار الظلم والجور. وقد أوردت آخر الإحصائيات العالمية  أن 13 مليون طفل يموتون في كل سنة قبل بلوغ يومهم الخامس من الولادة، نتيجة سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية.

كما ان هناك أكثر من مليار ونصف المليار إنسان على وجه الأرض، أي ما يعادل ربع البشرية، يعيشون بلا كهرباء، علاوة على مليار شخص في البلدان النامية لا يحصلون على كمية كافية من الماء الصالحة للاستخدام، بل الملفت أن هناك ثلاثين مليون فرد يعيشون تحت خط الفقر في الولايات الأمريكية المتحدة وحدها فضلًا عن الدول الأخرى النامية.

في مقابل ذلك لنا أن نعلم بأن أقل من واحد في المائة مما ينفقه العالم من الثروات الضخمة والميزانيات الهائلة التي تنفق على التسلح يكفي لإدخال كل الأطفال في العالم لتلقي التعليم في المدارس. هذا يكشف لنا مدى حجم الظلم السائد في المجتمعات البشرية، وهو ما يدفع العالم إلى التطلع لسيادة العدل والحرية والكرامة بين أبناء البشر. وذلك ما نعتقد بتحققه لدى ظهور المهدي من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

تعزيز الأمل في النفوس:

ان عقيدة الإيمان بالإمام المهدي المنتظر تبدد كل سحب اليأس والقنوط، وذلك لإيماننا بأن الحق والعدل سينتصر في نهاية الأمر. فمهما كانت الظروف حالكة, والظلم قاسيا, يبقى قلب الإنسان المؤمن عامراً بالأمل، لأنه يعتقد بأن مآل الحق والعدل الانتصار في نهاية المطاف.

ولأدراك مدى تأثير العامل النفسي في حركة الشعوب، لنا أن نلاحظ كيف أحيت الثورات العربية الأخيرة الأمل في النفوس، في حين جهدت عدة جهات مختلفة لعرقلة هذه الثورات في أكثر من بلد من أجل أن يدب اليأس والتشاؤم في النفوس مجددا. فبعد التفاؤل الكبير الذي عمر قلوب ونفوس الناس بانتصار الثورة في تونس ومصر، برزت العقبات والعوائق أمام الشعوب في البلاد العربية الأخرى حتى كادت تزرع اليأس في نفوس الناس. ضمن هذا السياق يمكن فهم أهمية زراعة الأمل في النفوس, والتي تجد جانبا من تطبيقاتها في الإيمان بحتمية ظهور الإمام المنتظر.

ليلة النصف من شعبان:

حري بنا أن نؤكد في هذا المقام على أهمية ليلة النصف من شعبان والتي تصادف مولد الإمام المهدي ، فهي ليلة بركة وعبادة ودعاء واستغفار. من هنا ننصح أنفسنا وجميع المؤمنين بأن يستثمروا هذه الليلة العظيمة بإحياء مراسيم العبادة والتهجد إلى الله تعالى، فقد ورد عن رسول الله : (إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم عليه)، وفي رواية عن زيد بن علي بن الحسين قال: (كان علي بن الحسين ع يجمعنا جميعا ليلة النصف من شعبان ثم يجزئ الليل أجزاء فيصلي بنا جزء ثم يدعو فنؤمن على دعائه ثم يستغفر الله ونستغفره ونسأله الجنة حتى ينفرج الفجر). كما وردت روايات كثيرة في مستحبات هذه الليلة ومنها صلاة جعفر الطيار، وزيارة الإمام الحسين ، وقراءة دعاء كميل، والصدقة.

ولعلنا نشير هنا إلى أن مظاهر الفرح والاستبشار بهذه الليلة تعد شعيرة حسنة, وسنة مباركة، ولكن علينا أن نحمي هذه المظاهر من الشوائب السيئة والتصرفات غير المناسبة، علينا أن نتعاون جميعًا لوضع حد لهذه التصرفات، وأن نتحمل هذه المسؤولية بأن لا نغفل عن رعاية أبنائنا وتوجيهم للسلوك الصحيح حتى لا يصبحون فريسة لأصحاب التصرفات الطائشة. نسأل الله أن يبارك للجميع هذه المناسبة العظيمة.

للاستماع:

«الخطبة الأولى: اليسر في القوانين والعادات والسلوك»

«الخطبة الثانية: الإنسانية والتطلع للعدل»

* خطبة الجمعة بتاريخ 14 شعبان 1432هـ الموافق 15 يوليو 2011م.