مؤشرات لزمن عربي جديد

الخطبة الأولى:  تنمية الحساسية تجاه الذنوب

روي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه). يحتاج الإنسان باستمرار إلى امتلاك إحساس مرهف تجاه ارتكاب الأخطاء والذنوب. فقد يقع الإنسان في الذنب والخطأ نتيجة جهله والتباس الأمور عليه وعدم معرفته بأن ما قام به أمر خطأ، وهنا قد يعذر خاصة إذا كان قاصرا في جهله. ذلك لأن الجهّال على نوعين: جاهل قاصر وجاهل مقصر، فالجاهل القاصر هو الذي لم تتح له ظروف المعرفة لسبب أو لآخر، أما الجاهل المقصر فهو من يستطيع أن يتعلم ولكنه لم يفعل، من هنا فالجاهل القاصر أقرب للعذر. لكن في المقابل، الجاهل المقصر معرض للمحاسبة على تقصيره، وقد ورد أنه يقال للإنسان يوم القيامة لمَ لم تعمل؟ فيقول لم أكن أعلم. فيقال له؟ لمّ لم تتعلم؟

وغالباً ما يقع الإنسان في المعصية والخطأ نتيجة ضعف الإرادة والاستجابة لضغط الأهواء والمصالح الآنية فيقع في الذنب عامدا. ولذلك احتاج الإنسان باستمرار إلى تنمية إحساس مرهف يقيه شر الوقوع في الأخطاء والذنوب.

إن من نعم الله تعالى على الإنسان أن زود جسمه بأجهزة مناعة عضوية تقيه شرّ الآفات، كما زود روحه أيضا بجهاز مناعة يتمثل في الضمير المتحفز إزاء ارتكاب الأخطاء. فكما إن جسم الإنسان يتمتع بجهاز مناعة يتشكل في الخلايا الليمفاوية منوط به مكافحة الميكروبات والأجسام الغريبة الضارة بالجسم، كذلك تتمتع الروح بجهاز مناعة يتمثل في الضمير، ويستيقظ هذا الضمير عندما يقوم الإنسان بخطأ، فيشعره بالذنب وتبدأ نفسه بلومه ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة. إذا وقع الإنسان السوي في خطأ لضعف إرادة أو لسيطرة شهوة عليه, فإنه سرعان ما يشعر بوخز الضمير، فيلوم نفسه ويندم.

إن شهر رمضان المبارك شهر الإنابة والتوبة، فيفترض أن تكون ضمائرنا خلاله في أقصى حالات التأهب واليقظة أكثر من أي وقت آخر. إن على الإنسان المؤمن أن يتيح الفرصة لضميره لأخذ أقصى ما يملك من راحة في هذا الشهر الفضيل عبر التدبر في آيات القرآن الكريم، والأدعية والأوراد العظيمة، وليس الاقتصار على القراءة الحرفية المجردة ، فلا ينبغي أن تقتصر قراءتنا على مجرد المرور على الألفاظ دون وعي لمحتواها. إن التدبر العميق في آيات الله هو بالتأكيد أحد وسائل تحفيز الضمير على اليقظة الدائمة.

هناك الكثير من النصوص الدينية التي تحض الإنسان المؤمن على تنمية الحساسية داخل نفسه تجاه ارتكاب الذنب والخطأ. فكما تكون لدى جسم الإنسان حساسية مفرطة في بعض الأحيان تجاه بعض الأطعمة فيظهر اثر ذلك على جلده مثلًا، عليه كذلك أن يتحسس من الذنوب، وذلك ما يعبر عنه في الأدعية المأثورة والنصوص الدينية بحالة الندم على الذنب.

إن أسوأ ما يمكن أن يمر به الإنسان هو أن يميت في نفسه الحساسية التي يتمتع بها ضميره بشكل طبيعي، فيعمل الذنب دون أدنى اكتراث وهذا ما يعني الاستهانة بالذنب. إن على الإنسان المؤمن أن لا يستهين بأي ذنب مهما صغر في نظره، فكما ورد عن أمير المؤمنين «أشد الذنوب عند الله سبحانه ذنب استهان به راكبه» وفي رواية أخرى: «أعظم الذنوب عند الله ذنب صغر عند صاحبه»، فلا ينبغي أن يعوّد الواحد منا نفسه على الاستهانة بالذنوب، فمهما صغرت المعاصي عليك أن تعظمها في نفسك لأنها مخالفة للعظيم والكبير المتعال سبحانه وتعالى، ولعلنا نلحظ ذلك في حياتنا العادية فقد يمازح أحدهم شخصا ما قريبا فيتقبل منه ذلك، لكن ذات التصرف يعد غير لائق عندما يجري أمام شخص عظيم القدر والمنزلة. علينا الاحتفاظ بيقظة ضمير دائمة حتى لا ننجرف خلف حالة الاستهانة بالذنوب.

ان من علامات الإيمان عند الإنسان مستوى حساسيته تجاه الذنوب، فإذا رأيت نفسك غير مرتاحة عند ارتكاب أي خطأ مهما كان صغيرًا فهذا دليل إيمانك وصفاء نفسك. يقول الإمام الصادق « من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»،  وروى أحد أصحاب الإمام الصادق عنه قوله «إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة. فقلت له: يدخله الله بسبب الذنب الجنة؟! فقال : نعم إنه يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة».

فقد يكون الذنب في الحالة السوية سببا للاقتراب من الله وطلب العفو منه، والخوف من العاقبة السيئة. وورد عن الإمام الصادق أنه قال «ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلا غفر الله له قبل أن يستغفر»، ذلك لأنه شعر بالندم فيغفر الله له،. وعلى النقيض من ذلك، فإن المصير السيئ ينتظر المذنب الذي لا يكترث بذنبه، وأسوأ منه المذنب الذي يفرح بذنبه، فقد ورد عن الصادق «من أذنب ذنبا وهو ضاحك دخل النار وهو باك»، وروي عن الإمام زين العابدين الرواية التي صدرنا بها حديثنا «إياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه»، وتحدث حالة الابتهاج بالخطأ عادة عندما يتنازع الإنسان مع الآخرين، فيتمكن من خصمه فيفرح بذلك وكأنه حقق نصرا عظيما. ان ظلمك لغيرك ذنب، أما فرحك بهذا الذنب فهو ذنب أكبر.

نحو مدعوون لجعل ضمائرنا حية يقظة على نحو دائم، سيما إذا أخطأنا بحق الآخرين. ينقل في هذا السياق بأن المرجع الديني السيد البروجردي غضب من  أحد تلامذته وعنفه أثناء نقاش دار بينهما خلال الدرس، لكن السيد البروجردي لم يستطع النوم في تلك الليلة حتى ذهب بنفسه إلى منزل تلميذه ليقدم له العذر ويطلب منه العفو، فتعجب التلميذ وقال أنت معلمنا ووالدنا فلا داع للعذر، وإن كان ولابد فدع ذلك حتى الغد، فقال السيد البروجردي أنه لم يغمض له جفن ولم يستطع النوم، متسائلا من يضمن لي أن أعيش إلى يوم غد.

ان يقظة الضمير حالة إيمانية عظيمة، ينبغي أن نربي أنفسنا عليها، فلا نتهاون بذنوبنا، ولا نستحقر غيرنا، وأيا كان خصمنا حتى لو كان خادما عندنا، فغدًا سيطالبنا بحقه أمام رب العالمين، ويا له من موقف صعب هناك، وما أهون تقديم الاعتذار عنه في هذه الدنيا لو تأمل الإنسان وفكر.

نسأل الله أن يوفقنا للتوبة من كل الذنوب والأخطاء سيما ونحن في شهر التوبة والإنابة.

الخطبة الثانية: مؤشرات لزمن عربي جديد

قال تعالى ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.ان من أبرز مشاكل الإنسان هي انشغاله بلحظته الراهنة، وغفلته عن المستقبل. فإذا كان يعيش في لحظة يمتلك فيها أسباب القوة والقدرة فإنه يغفل عن أن هذه الحالة لن تدوم له، فقد تزول هذه القدرة التي كانت عنده، ولذلك ينبغي عليه أن يفكر في مآلات تصرفاته وأعماله في كل مجال، لكن الإنسان كما عبر القرآن الكريم ﴿كلا بل تحبون ا لعاجلة وتذرون الآخرة. فهناك من هم دائمو التفكير في الدنيا، غافلين عن مآلهم يوم القيامة، بل حتى في حياتهم الدنيا هم مشغولون بالتفكير في لحظتهم الآنية  لاهين عن مستقبلهم وعن ما تخبئه لهم الأيام. لا يوجد انسان يضمن لنفسه الحياة واستمرار الصحة والقوة، فكم من حي مات في ذات اللحظة؟ وكم من سليم أقعده المرض والوهن سنوات؟ هكذا تتغير الأحوال. ان على الإنسان أن يفكر فيما وراء اللحظة المعاشة وأن ينأى بنفسه عن الغفلة عن قادم الأيام، وقد ورد وصف الله لبعض الأقوام بقوله سبحانه تعالى ﴿إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا.

ان التعاليم الدينية تدفع الإنسان باتجاه التفكر في مستقبله ومآلات أفعاله، فقد ورد «إذا أردت أن تعمل عملا فتدبر عاقبته، فإن كان خيرًا فامض وإن كان شرًا فانته». ولعل أحوج الناس لتمثل هذه الحقيقة في نفوسهم وأذهانهم هم الحكام. فالحاكم الذي يمتلك القوة والسلطة عليه أن يتفكر جيدا في المستقبل عندما تدفعه قوته لظلم رعيته وشعبه. فقد يجد هذا الحاكم المجال مفتوحا أمامه لفعل ما يريد، من اضطهاد الناس وسرقة أموالهم وتبذيرها كيفما شاء، ولكن السؤال؛ ماذا عن المستقبل وعن الآخرة؟ هل الحكم والسلطة يحمي الإنسان من الموت؟ هل دامت للأبد حياة الحكام المتسلطين والجبابرة الغابرين؟ ثم إذا كانت لدى الحاكم سلطة وسطوة باطشة اليوم أفلا يمكن أن تزول منه هذه القوة غدا؟ فالحكام هم أولى الناس بالتروي والتفكر في مآلات أفعالهم، فلا ضمانة لأحد من تقلب الأيام ونكبات الدهر، كما قال ربنا عز وجل ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس.

ان على الحكام أن يتعظوا ويعتبروا بأسلافهم، فالتاريخ يفيض بالعبر فهناك إمبراطوريات ذوت ودول عظمى دالت وحكام جبابرة زالوا، وإذا كان هؤلاء الحكام لا يقرأون التاريخ الماضي فليتعظوا بالتاريخ المعاصر. لقد شهدت منطقتنا العربية حتى سنوات قريبة مرور أعتى الحكام وأكثرهم بطشا وجبروتا وهو حاكم العراق السابق المقبور صدام حسين، فلم يكتف هذا الحاكم المتجبر بالتنكيل بشعبه أيما تنكيل، بل انسحب ظلمه وبطشه على الشعوب المجاورة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟، كلنا رأينا وجميع الحكام رأوا كيف انتهى به المقام لأن يخرج من حفرة كان مختبئا فيها تحت الأرض ، ويقاد ذليلا إلى قفص المحاكمة, ثم يعلق على حبل المشنقة في نهاية المطاف. ان هذه عظة حاضرة ولكن ما أكثر العبر وأقل المعتبر.

ولعل العبرة الأخرى هي فيما يجري هذه الأيام من محاكمة لرئيس مصر، أقوى دولة عربية، بل أكبر وأقوى دول الشرق الأوسط، فقد حكم الرئيس المخلوع مصر بكل جبروت وغطرسة لثلاثة عقود من الزمن، وقد رأينا ورأى جميع الحكام كيف جيء به إلى داخل قفص الاتهام وهو على سرير المرض، ليحاكم في المكان الذي طالما مارس فيه غروره وغطرسته وهي أكاديمية الشرطة التي قلب اسمها على اسمه. أليس في هذا عبرة لمعتبر.

ان هذا الحاكم الذي حكم مصر بكثافتها السكانية التي يربو تعداد نفوسها على 80 مليون نسمة، يعيش منهم 40% تحت خط الفقر مع شح الموارد والنمو السكاني الكبير، الم يكن يفترض به الاهتمام بمصلحة الفقراء والمحتاجين من شعبه. تشير الإحصاءات إلى أن مولودا مصريا واحدا يأتي للدنيا كل 23 ثانية، وهذا ما يعني زيادة سكانية سنوية تعادل مليونا ونصف المليون مواطن، حتى أن آلافا من المصريين لا يجدون لهم مأوى فباتوا يعيشون في المقابر، عدى عن موجات الهجرة وسط الطاقات العلمية التي غادرت البلاد بحثا عن لقمة العيش، فيما يتلاعب الحاكم وأسرته وحاشيته الفاسدة بثروات الشعب وما يصل إليهم من تبرعات وهبات دولية.

لقد تسبب هذا الحاكم في سقوط أكثر من 840 شهيدا وأكثر من ستة آلاف جريح في الثورة الأخيرة وحدها، أما المعتقلون السياسيون في عهده فتشير اقل الإحصاءات إلى أنهم زادوا على 30 ألف معتقل سياسي، في حين ترفع بعض الإحصاءات أعداد السجناء السياسيين في عهده إلى نصف مليون سجين.

وعلاوة على ما سبق أوغل هذا الحاكم في ممالأته للعدو الصهيوني وتآمره مع كيان العدو ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى جانب عقده اتفاقية مجحفة لبيع الغاز الطبيعي المصري بثمن بخس لإسرائيل وبسعر أقل من أسعار السوق. فقد قضت الاتفاقية التي وقعت عام 2005 بتصدير مليار وسبعمائة مليون متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي إلى إسرائيل ولمدة عشرين عاما، وذلك بثمن يتراوح بين سبعين سنت إلى دولار ونصف للمتر المكعب، بينما يصل سعر التكلفة في السوق إلى ما يقارب الثلاثة  دولارات!، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية، علاوة على ذلك، على إعفاء ضريبي لمدة ثلاث سنوات. في مقابل ذلك وعلى الضفة الأخرى ظل الشعب المصري يعاني من أزمات الطاقة نتيجة شح الغاز في المحافظات المصرية، وكم رأينا العجائز وكبار السن يصطفون في طوابير طويلة طمعا في الحصول على اسطوانة غاز الطبخ، ناهيك عن أزمات انقطاع الكهرباء نتيجة الأمر نفسه.

لقد استهان الحاكم المصري المخلوع ونظامه بمشاعر وكرامة المصريين إلى حد بعيد، ولذلك ليس مستغربا أن يصل إلى هذه النتيجة، التي بات معها خلف قفص الاتهام فقد تحمله الناس طويلا. وقد حدث ما يشبه ذلك أيضا لحاكم تونس الذي يعيش الآن وضعا صحيا مترديًا وقد حوكم غيابيا بالسجن مدة 16 عاما، ولعل فيما جرى لرئيس اليمن عبرة ثالثة لمن أراد، فقد بات يعاني من الحروق في أغلب أجزاء جسمه، فلماذا لا يتعظ الحكام؟ يقول الله تعالى ﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

لاشك أن ما حصل في مصر وتونس وأكثر من بلد عربي يعد مؤشرا على زمن عربي جديد لا رجعة معه للوراء. ان على الحكام أن يعيدوا النظر في سلوكهم وأن يصححوا علاقتهم مع شعوبهم وإلا فإن زمن إخضاع الشعوب قد ولى، فما عادت الشعوب تحتمل مزيدا من الظلم والجور. نسأل الله أن يصلح أمور المسلمين وأن يجنبنا الفتن.

وللاستماع:

«الخطبة الأولى: تنمية الحساسية تجاه الذنوب»

«الخطبة الثانية: مؤشرات لزمن عربي جديد»

خطبة الجمعة بتاريخ 5 رمضان 1432هـ الموافق 5 أغسطس 2011م.