دور المثقف الديني في المجتمع

بسم الله الرحمن الرحيم.. أيها الأخوة الكرام السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته،،

أهلا وسهلاً بكم جميعاً في هذه الأمسية السعيدة المباركة، التي نجتمع فيها لكي نكرّم أخاً لنا، نفخر بكفاءته، وعطائه لدينه ومجتمعه، إنه الأخ العزيز الفاضل الأستاذ حسين منصور الشيخ "حفظه الله"، ومناسبة الاجتماع أنه سيغادرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل أن يواصل دراسته الأكاديمية هناك، ويعود إلينا إن شاء الله في مستوى أرقى في علمه الأكاديمي، وفي نشاطه وعطائه الفكري والثقافي.

بالطبع فإن سفره عنا سيوحشنا، وسيترك فراغاً في نفوسنا وأنشطتنا، لأنه قد فرض وجوده بكفاءته وعطائه، ولكننا نأمل أن يكون دوره هناك - إن شاء الله - بين أبنائنا الطلاب، وفي أوساط المراكز والجاليات العربية والإسلامية، امتداداً لدوره هنا.

أيها الأخوة: حينما نكرم أخانا الكريم الأستاذ حسين الشيخ فإنما نكرم دوراً نحن بأمس الحاجة إليه، وهو دور المثقف الديني في المجتمع.

نحن تعارفنا أن الثقافة الدينية، والنشاط الديني، موكول لعلماء الدين، فالعالم الديني هو مصدر العطاء المعرفي في المجتمع الديني، والنشاط الديني عادة ما يكون على عاتقه، وهو يتحمل أعباءه، لكننا نشعر أننا اليوم بحاجة ماسة إلى وجود شريحة المثقفين الدينيين.

وقد يسأل الإنسان: وهل هناك فرق بين عالم الدين، وبين المثقف الديني؟

هناك كتابات وأبحاث تدور حول جدلية العلاقة بين العلم والثقافة، بالطبع هذا لم يكن في وسط الفكر الإسلامي، ففي الفكر الإسلامي هناك إشادة بالعلم والمعرفة في كل مستوياتها، وبجميع المنتمين إليها، ولا يوجد في نصوصنا الدينية مصطلح المثقف، هذه الجدلية حصلت في الثقافة الأوروبية، حصل هناك نوع من التصنيف والفرز بين العالم والمثقف، حيث أطلق العالم على من يهتم بعلوم الطبيعة، وأطلق المثقف على من يهتم بالشؤون الإنسانية، كالآداب والتاريخ والفكر وما أشبه.

أما في ثقافتنا الإسلامية فلم يكن هذا الفرز قائماً، لكننا ومع تطور الزمن ندرك أن الثقافة أصبحت - بغض النظر عن تعريفها العلمي والمصطلحي - تعني المعلومات العامة عن الحياة، وعن المجتمع في مختلف الجوانب والمجالات، بينما يطلق العلم والعالم على جانب التخصص، على من تخصص في جانب معين من الجوانب، وعلى هذا الأساس فإن عالم الدين قد يكون مثقفاً.

نعم لدينا علماء دين وجهوا جهدهم وأتعابهم نحو المعرفة الدينية التخصصية، أي في أبحاث علم الفقه والأصول أو العقيدة أو الفلسفة، أو أي جانب من الجوانب، ولم يشملوا بجهدهم وبتوجههم ما يرتبط بالحياة العامة وبالتطورات الفكرية في العالم والمجتمع، لكن هناك أيضا علماء دين جمعوا بين تبحرهم وتعمقهم في العلوم الدينية بمعناها التخصصي، وبين اطلاعهم على الثقافة العامة، أي على كل ما يرتبط بأوضاع الإنسان في مختلف الجوانب والمجتمعات.

نحن نجد عالماً كالشهيد المرجع السيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، وهو نموذج لعالم الدين الذي تفوق في تخصصه الديني، حيث أنه من المجتهدين في عصره، وفي الوقت ذاته فإن اطلاعه على شؤون الفكر والثقافة على المستوى الإنساني العام لا يشق له غبار، حتى في مجال الاطلاع على التيارات الفكرية الأخرى.

حينما قرأ السيد الصدر الماركسية، وقرأ الرأسمالية، اعترف بعض أقطاب الماركسية والرأسمالية بأنه أكثر فهما منهم في نظريتهم التي يتبنونها.

وهناك نموذج آخر هو الشهيد الشيخ مرتضى المطهري (رحمه الله)،  وعدد من العلماء ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل التمثيل.

إذا عندنا عالم دين مثقف، لكن هناك شريحة، وهي الأكثر من علماء الدين فضلوا الاهتمام بتخصصهم في علومهم الدينية الخاصة، ولم يوسعوا اهتماماتهم إلى المجالات المختلفة.

المثقف هو ذلك الإنسان الذي يمتلك المعرفة، أو جانبا من المعرفة في شؤون الحياة، وشؤون المجتمع، بشكل عام، وشؤون الفكر.

هناك فارق آخر هو أن عالم الدين عادة ما يكون منشغلاً بدوره الديني في المجتمع، يكون متفرغاً للتصدي للأمور الدينية، وهذه تفرض عليه بعض العادات والأعراف والتقاليد، وبالتالي يكون متقيداً بهذه المعادلة التي أصبح ينتمي إليها، بينما المثقف يكون طليقاً ليس مرتبطاً، وليس أسيراً بعرف، أو عادة، أو دور معين يقوم به في المجتمع، وفي المجال الديني.

لقد عرفنا في تاريخنا الحديث عدداً من المثقفين الإسلاميين الذين كان لهم دور يضاهي أدوار العلماء، بل إن بعضهم تفوق في دوره المعرفي، وفي تأثيره في ساحة الأمة على أدوار كثير من العلماء، هؤلاء هم المثقفون الذين جمعوا بين المعرفة الدينية التخصصية في مستوى من مستوياتها، فهم مطلعون على العلوم الشرعية الدينية، وأضافوا إلى ذلك اطلاعهم على العلوم الحديثة، ومواكبتهم لتطورات الفكر الإنساني الاجتماعي.

يمكننا أن نذكر هنا كمثال الشاعر الأديب محمد إقبال اللاهوري، الذي لم يكن عالم دين بالمعنى المتعارف، لم يقض وقتاً طويلاً في التخصص في العلوم الدينية، ولم يكن يمارس في مجتمعه دور عالم الدين التقليدي المعروف في المجتمع، لكنه كان مفكراً، كان مثقفاً، وعطاؤه المعرفي والثقافي أصبح مؤثراً حتى في الوسط العلمي.

العلماء يتحدثون بإكبار عن فكره، وثقافته، وعن تأثيره في تجديد الفكر الإسلامي، والثقافة الدينية، ويمكننا أن نقرأ ما كتبه الشهيد مطهري عنه، فبالرغم من كون الشهيد مطهري فقيه وعالم، لكنه حينما يكتب عن إقبال، تراه كيف يشيد به، وكيف يستشهد بآرائه وأفكاره.

وهناك مثال آخر هو مالك بن نبي، هذا المفكر الجزائري الكبير، كتاباته وعطاؤه الفكري والمعرفي تركت أثراً كبيراً في ساحة المعرفة الدينية، وهو محل تقدير واحترام عند العلماء، وعند المفكرين، رغم أنه لا يصنف عالم دين بالمعنى الاصطلاحي، ولا يمارس دور عالم الدين على المستوى التقليدي المألوف.

ونجد في العراق أيضا الدكتور أحمد أمين، وهو أستاذ الرياضيات، وصاحب كتاب التكامل في الإسلام، هذا أيضاً جمع بين معرفته العلمية الدينية التخصصية في مستوى من مستوياتها الجيدة، وبين اطلاعه الثقافي العام.

وهكذا نجد مثل هذه الشخصيات والعناصر التي أثرت الثقافة، ولعبت دوراً كبيراً في التخاطب مع أبناء هذا الجيل، لأن الشباب والأكاديميين قد لا يستقطبهم كثيراً الخطاب التخصصي الوعظي لعالم الدين، ولكن هذا الخطاب المعرفي المنفتح، المتصل بالجذور الإسلامية الدينية، كان له دور كبير في إعادة الثقة بالدين في نفوس الكثيرين، وفي تجلية الفكر الإسلامي المعاصر أمام الآخرين.

نحن نطمح في مجتمعنا المحلي، في القطيف والأحساء، والوجود الشيعي في كل هذه البلد، أن تكون عندنا شريحة من المثقفين، شريحة من أبنائنا الذين يصرفون جهداً في معرفة العلوم الدينية، ولكن دون أن تنحصر جهودهم العلمية في هذا الإطار، وإنما يأخذون من الثقافة الإنسانية العامة، ويواكبون تطوراتها، وأن يكون لهم دور في المجتمع.

بالتأكيد فإن المثقف سيكون أكثر حرية في دوره من عالم الدين، قد تكون لعالم الدين بعض الآراء، وبعض الأفكار، ويريد أن يقوم ببعض الأدوار، لكن في الغالب تقيده الأعراف والتقاليد التي تلزمه حسب المتعارف في المجتمع، أما المثقف فإنه يتجاوز هذا الأمر.

بحمد الله أصبح لدينا في بلادنا بعض من نفخر بهم على هذا الصعيد، ممن يمارسون دور العطاء الفكري والمعرفي، كالأستاذ زكي الميلاد، والأستاذ محمد محفوظ.

هذان الرجلان انطلقا من معرفتهما الدينية، درسا في الحوزات الدينية، العلوم التخصصية إلى مستوى معين، وانفتحا على الثقافة العامة، وتواصلا مع الفكر الإنساني، وأصبحا مهمومين بالإنتاج الفكري والثقافي والمعرفي.

نحن نتطلع إلى وجود مثقفين في مجتمعنا يقومون بهذا الدور، يسيرون على خط الشاعر إقبال، وعلى خط مالك ابن نبي، الخط بمعنى التوجه العام، أن يكون مرتبطاً بالجذور الدينية، وبالعمق الإسلامي، ذلك بأننا نواجه عدداً من المثقفين من أبناء الأمة ممن انبهروا بالثقافة الغربية، وسيطرت الهزيمة على نفوسهم، فتنكروا لثقافتهم الدينية الأصيلة.

نحن بحاجة إلى مثقفين يفهمون معارف دينهم بشكل سليم، ويصرفون جزءاً من جهدهم في معرفة العلوم والمعارف الدينية، ومن ثم ينطلقون على قاعدة من المعرفة والثقة، من أجل نشر فكر الإسلام، وثقافة الإسلام.

إنني آمل بأن يكون الأخ الأستاذ حسين الشيخ، الذي نجتمع هذه الليلة لتوديعه، ولتكريم دوره، آمل أن يكون قدوة لكثير من شبابنا، بأن يسيروا بهذا الاتجاه.

والأستاذ حسين هو من السائرين في هذا الطريق، فقد درس العلوم الحوزوية في الفقه والأصول والمنطق والفلسفة، كما أنه استفاد كثيرا من مجالسة العلماء، وخاصة من مجلس الدكتور العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي (حفظه الله ومن عليه بالصحة والعافية)، وتواصل مع بقية العلماء في المنطقة، والمهم هو الدور الذي أصبح يقوم به الأستاذ حسين في كتاباته، ومؤلفاته، ونشاطه التربوي، ضمن جماعة الهدى، مما ستسمعون عن بعض هذه الجوانب من أصدقائه، وإخوته الذين جاؤوا جميعاً ليشاركونا توديعه وتكريمه.

أشكر لكم جميعاً تلبيتكم الدعوة، وحضوركم، ومشاركتكم لنا، وإن شاء الله نحتفي به حينما يعود إلينا، وقد قطع شوطاً في العلوم الأكاديمية، ونال أعلى الدرجات فيها.

نسأل الله له التوفيق والخير، وأن يكون نافعاً مباركاً أينما كان ﴿وجعلني مباركاً أينما كنت.

نأمل أن نسمع عن أنشطته، وعطائه في الساحة الجديدة التي يهاجر إليها، أشكركم مرة أخرى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين.

* نص كلمة سماحة الشيخ حسن الصفار في تكريم الاستاذ حسين الشيخ بتاريخ الخميس 27/8/1432هـ الموافق 28/7/2011م.