الإسلاميون والتجربة السياسية

الخطبة الأولى: الوفاء قمة الأخلاق

يأتي الوفاء في طليعة الأخلاق الإنسانية الفاضلة. فهو علامة نبل ومظهر للإنسانية الحقة، ففطرة الإنسان النقية تدفعه لشكر المعروف ومكافأة الإحسان بالإحسان، وأن يكون وفيًا لمن عاشره بخير.

والوفاء وفاءان: وفاء لموقف، ووفاء لعشرة. وقد أمر الدين الكريم بهذا الخلق العظيم بمختلف أشكاله وألوانه، وهذا ما تصرح به الآية الكريمة (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) فهي تستثير مشاعر الإنسان الوجدانية، حيث لو طرح هذا التساؤل على نفسه فإن فطرته النقية ستجيب بجلاء ووضوح بأن الإحسان يكافأ بالإحسان. وأن هذا الإحسان يُكافأ به المحسن بغض النظر عن دينه وتوجهه. ورد عن الإمام الصادق : "قول الله عز وجل (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) جرت في الكافر والمؤمن والبر والفاجر، من صُنع إليه معروف فعليه أن يكفأ به، وليس المكافأة أن تصنع كما صنع، حتى تربي ـ أي تزيد ـ فإن صنعت كما صنع كان له الفضل في الابتداء".

وروى الإمام الباقر عن جده رسول الله أنه قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس".

وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضا : "من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل".

من هنا جاءت فضيلة الوفاء في أعلى سلم الفضائل الإنسانية وأكثرها انسجاما مع الفطرة السليمة التي خلق الله البشر عليها.

وتأتي هذه الفضيلة الأخلاقية ضمن سياقات مختلفة منها ما يدخل ضمن رد الجميل للآخرين إجمالًا، ومنها ما يستوجب تقديرًا لعشرة الأقربين:

الوفاء لموقف:

إن كل من يسدى معروفًا مهما صغر فهو يستحق مقابلته بمعروف وإحسان أكبر. فقد تمر على الإنسان بعض الظروف الصعبة فيجد هناك من يسدي له معروفًا، فيرتاح منه ويقدم له شكره، ويحفظ هذا الصنيع له، وإذا ما سنحت له الفرصة لرد الجميل بادر لرده، هذا هو الوفاء لموقف. ولا يهم هنا أن ننظر لمن نرد الجميل والمعروف، ولا من أي دين وتوجه هو. هذا ما نستفيده من سيرة رسول الله فقد ورد أنه في يوم من الأيام التفت إلى حسان بن ثابت، وهو شاعر ويحفظ الشعر، وقال له : يا حسان أنشدني شيئًا من شعر الجاهلية، فأنشد له حسان قصيدة للأعشى وهي في هجاء علقمة بن علاثة، وقد اختارها حسان لقوتها ورصانتها أدبيًا، ولكن النبي لما عرف أنها في هجاء هذا الشخص، قال له : يا حسان لا تنشد مثل هذا بعد هذا اليوم، فتعجب حسان: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر!، فقال : يا حسان أشكر الناس للناس أشكرهم لله، وأن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فنال مني، وسأل هذا فأحسن القول فيّ.

إذا كان الوفاء، بصفة عامة، فضيلة لا غنى عنها في التعامل مع الآخرين فهي مع الأقربين منا أشد إلحاحا

لقد حفظ رسول الله هذا الموقف لرجل لا يؤمن به، اللهم إلا لكلمة حسنة قالها ذلك الرجل عنه . بل إنه كان يكافئ من أحسن إلى أصحابه، كما فعل مع وفد النجاشي القادم من الحبشة، إذ قام يخدمهم بنفسه. فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله. فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم، مع أن الوفد القادم كانوا نصارى.

وعلى غرار ذلك ما صنعته السيدة زينب بنت علي مع النعمان بن بشير الذي عاد بسبايا آل البيت من الشام إلى المدينة المنورة، فحينما وصلت الأسرة الهاشمية إلى المدينة، بادرت السيدة زينب فور وصولهم إلى جمع ما تبقى من حلي عند النساء والأيتام وقدمته للنعمان نظير حسن تعامله مع الهاشميات طيلة رحلتهم، وقد فعلت السيدة زينب ذلك مع علمها بأن هذا الرجل إنما كان يؤدي مهمة مكلفًا بها من قبل السلطة الأموية، إلا أنها تدرك مع ذلك بأن إحسانه يجب أن لا يضيع، ولهذا كافأته . لأن مقابلة الإحسان بالإحسان في مختلف المواقف أمر يدخل في صميم الأخلاقيات والفضائل الإسلامية والإنسانية العليا.

الوفاء لعشرة:

إذا كان الوفاء، بصفة عامة، فضيلة لا غنى عنها في التعامل مع الآخرين فهي مع الأقربين منا أشد إلحاحا. اذ يعيش الإنسان مع أناس برهة من الزمن يشاركونه همومه وأفراحه، ومن أبرز أولئك الناس: الوالدين، والزوجة، والأولاد، والجيران، والأصدقاء، وما شابه، ومهما طالت المدة أو قصرت، فإن الوفاء لهم حق. وقد أكد القرآن الكريم على البر بالوالدين، وجعل شكرهما في المرتبة الثانية بعد شكر الله عز وجل (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) وفي آية أخرى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).

وللزوجة حق أيضًا فهي تشارك الزوج حياته وبينه وبينها ميثاق عظيم وانفتاح متبادل على الخصوصيات (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً). هذه العلاقة الوثيقة من الواجب أن تُحفظ وتُراعى من كلا الزوجين، مهما تغيرت الظروف.

فالمرأة تتزوج الرجل في فترة شبابه وقوته ونشاطه، لكن الزمن وصروفه قد يذهب بهذه القوة والفتوة، وقد يصبح الرجل عاجزًا، ولكن الزوجة الوفية تبقى وفية لهذه العشرة الزوجية، فتتحمل زوجها إذا مرض، وتصبر عليه إذا افتقر، وتواسيه إذا كبر. ينقل أحدهم أنه يعرف زوجة كانت تذوب في زوجها احترامًا وتقديرًا، حتى لأنها تشهق إذا ذكرت اسمه، وبعد مدة من الزمن أصيب الزوج بإعاقة لم يعد معها قادرًا على الحركة والنشاط، فانقلب الحال رأسًا على عقب، لدرجة صارت تسمع زوجها كلامًا مهينًا، وتتثاقل في أداء حوائجه، وهذا خلاف الوفاء، وصورة سيئة لحفظ العشرة. لكن في مقابل ذلك هناك نساء يضربن أروع الصور في حسن العشرة مع أزواجهن.

وكذلك الحال بالنسبة للأزواج. فالرجل يتزوج المرأة في صباها بكامل جمالها وقوتها، وتنجب له الأبناء، وتدير شؤون بيته، حتى إذا كبرت سنها، ولحقت بها الآلام والأسقام، ولم يعد ير منها ذلك الجمال الجسمي الظاهري ولا تلك الخدمة، نسي تلك العشرة الطيبة، وما كان منها، كما نقل عن ذلك الإعرابي الذي طلق زوجته بعد عشرة دامت خمسين سنة، ولما سألته معاتبة: تفعل هذا بعد طول عشرة؟ قال: والله ما لك عندي ذنب غيره!، يعني ذنبك هذه المدة الطويلة بيننا التي جعلتني أملك. بينما في المقابل هناك من يحمل قدرًا كبيرًا من الوفاء، ويبقى وفيًا لزوجته، حتى لو صدر منها ما يسيء له بسبب كبر سنها، كما هي طبيعة الإنسان عند الكبر.

هناك قصة جميلة متناقلة في هذا الجانب رواها أحد الأطباء، يقول "ذات صباح مشحون بالعمل في غرفة الطوارئ بالمستشفى، وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، دخل عليَّ عجوز يناهز الثمانين من العمر، لإزالة بعض الغرز من إبهامه، وذكر أنه في عجلة من أمره، لأن لديه موعداً في التاسعة، طلبت منه أن يجلس على الكرسي المخصص لإجراء الغيارات على الجروح، وتحدثت قليلا وأنا أزيل الغرز وأهتم بجرحه، سألته عن طبيعة موعده ولماذا هو في عجلة من أمره؟ فأجاب: كل صباح أذهب لدار الرعاية لتناول الإفطار مع زوجتي، فسألته عن سبب دخول زوجته لدار الرعاية؟ فأجابني بأنها هناك منذ فترة لأنها مصابة بمرض الزهايمر (ضعف الذاكرة) بينما كنا نتحدث انتهيت من التغيير على جرحه، وسألته: وهل ستقلق زوجتك لو تأخرت عن الميعاد قليلا؟ فأجاب: إنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرّف علي منذ خمس سنوات مضت، قلت مندهشاً: ولا زلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباح على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟! ابتسم الرجل وهو يضغط على يدي وقال: هي لا تعرف من أنا ، ولكني أعرف من هي". هذه صورة رائعة للوفاء.

وقد ضرب لنا رسول الله الأمثلة الأروع حيث كان وفيًا لزوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد. ولا يصح لرجل أن يقارن هنا ويقول: تلك خديجة لا زوجتي، ففي المقابل ذاك رسول الله وليس أنت، فنحن نتحدث هنا عن جوهر الموقف (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). خديجة ظلت في قلب رسول الله حتى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة، ولم يفتأ يذكرها ويثني عليها كلما غادر الدار، كما ورد عن أم المؤمنين عائشة: كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها. فذكرها يومًا من الأيام فأدركتني الغيرة. فقلت: هل كانت إلا عجوزًا، فقد أبدلك الله خيرًا منها، فغضب، حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس. ورزقني الله منها أولادًا إذ حرمني أولاد النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدًا. وقالت أيضًا: ما غرتُ على أحد من أزواج النبيّ ما غرت من خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذاك إلاّ لكثرة ذكر رسول الله لها ، وكان لمّا يذبح الشاة يتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهنّ.

صلاة الجمعة
صورة ارشيفية

وللجيران أيضًا حق الوفاء للعشرة، حتى لو انتقل الشخص إلى منزل آخر لكن هذا لا يعفيه عن التواصل مع جيرانه السابقين، وكذلك الأصدقاء الذين يعيشون مع الإنسان فترة من الزمن ثم يفترق عنهم بسبب انتهاء مدة الدراسة أو العمل، أو بسبب سوء تفاهم أو ما أشبه، ولا يصح أن يمضي كل في طريقه وينسى ما كان من العشرة السابقة، فهذا خلاف الوفاء. إن آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله وأهل بيته الطاهرين وسيرتهم توجهنا نحو هذا السلوك الأخلاقي الرفيع، بل تجد روايات توصي بأن يصل الولد أصدقاء والده: "من بر الرجل لأبيه أن يواصل أصدقاء أبيه".

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحلين بمكارم الأخلاق.

الخطبة الثانية: الإسلاميون والتجربة السياسية

يحتاج الإنسان حينما يريد الخوض في مجال من مجالات الحياة إلى أمرين: فكرة نظرية وخبرة عملية. كل مجال يتبلور أساسه بفكرة نظرية، ولكن هذه الفكرة قد لا تكون صائبة، أو تشوبها بعض الأخطاء، أو فيها نقاط ضعف، ولا يتأتى للإنسان اكتشاف هذه النقاط ولا تطوير نظريته إلا بالتجربة. لذلك فإن الخبرة والتجربة أمر أساس في إدارة شؤون الحياة، ولهذا فإن أمير المؤمنين في أكثر من نص يؤكد على أهمية التجربة وأنها تثري حياة الإنسان وتصقل شخصيته. ونرى في الحياة المعاصرة ضرورة دخول كل طالب في مجال التطبيق العملي لما درسه، فيعطى لكل طالب وقتًا مخصصًا للتطبيق ضمن برنامجه الدراسي. من خلال هذه المدة يستطيع تطبيق ما درسه، وتحسين أدائه حيث يعمل تحت إشراف من لهم خبرة.

يقول أمير المؤمنين علي : "العقل غريزة يزيد بالعلم والتجارب ". يعني أن قدرة المعرفة والإدراك هي هبة من الله عز وجل، منحها لكل إنسان، ولكن هذه القدرة تتطور وتزيد بالعلم والتجربة. متى ما توفر الجانبان تعززت شخصية الإنسان وسلوكه، وهذا ينطبق على جميع المجالات والتي منها مجال إدارة الشؤون السياسية.

السياسة علم به تدار أمور البلاد والعباد، وهناك كليات تدرس علم السياسة، وهناك كتب كثيرة في هذا الجانب، وبمتابعة الإنسان لأخبار العالم وقراءته تتكون عنده نظريات سياسية، ولكن امتلاك هذا الجانب النظري وحده غير كاف، بل لابد من التجربة والممارسة، فمنها يستطيع أن يحكم على صحة ما توصل إليه أو خطئه، وبالتجربة يدرك السبيل إلى التطوير أو تعديل الخطأ، أو يكتشف البديل.

إن في المنظومة الإسلامية مخزونًا كبيرًا يثري الجانب السياسي، فهو ليس مفصولًا عن إدارة شؤون الحياة، والإسلاميون قد استقوا من هذا الفكر الإسلامي العظيم ومن ثقافته العامة ومبادئه ونظرياته السياسية، ولكن ما استقاه الإسلاميون من هذا التراث العظيم غير كاف بمفرده، إذ لابد لهم من خوض التجربة، ومن الدخول في معترك العمل السياسي بروح تطبيق المبادئ، وما تولد لديهم من نظريات، ليروا مدى صلاحيتها في هذا العصر، وما هو مناسب أو غير مناسب، وأن لا يدخلوا هذا المضمار بروح متعالية، وأن كل ما تكوّن لديهم هو الصحيح، ولا يمكن تغييره ومناقشته. حتى يستطيعوا تقديم ما هو مفيد لأوطانهم وشعوبهم.

ولاية المتغلب والأحزاب الإسلامية:

منذ حكم الدولة الأموية والأمة الإسلامية تعاني من الاستبداد. فهناك حاكم مستبد يسطو على السلطة ويسيطر على مقاليد الحكم وشؤون البلاد، وقد أدى ذلك إلى عزوف أهل العلم والدين عن التدخل في الشؤون السياسية، ونشأ عند معظم علماء الدين الإسلاميين خاصة عند أهل السنة مصطلح "شرعية ولاية المتغلب"، حيث يرون أنه لا مانع من التعاطي والتعامل مع هذا المتسلط على الحكم ما دام قد تصدى له، وأعلن نفسه خليفة على المسلمين، وحسب القاعدة الشعبية عندنا (اللي ياخذ أمي يصير عمي)، وكأن الأمر قدر لا يمكن الفرار منه، وتبريرهم لهذا الأمر أن مقاومة هذا المتغلب سوف تسبب إراقة دماء، ونشوب فتنة في أوساط الأمة، فقد تكون النتيجة لا تتناسب مع الثمن الباهظ الذي سيكلف الأمة جراء مقاومته.

منذ حكم الدولة الأموية والأمة الإسلامية تعاني من الاستبداد. فهناك حاكم مستبد يسطو على السلطة ويسيطر على مقاليد الحكم وشؤون البلاد

وعاشت الأمة طيلة هذه القرون في ظل هذه النظرية. ولكن بعد سقوط الخلافة الإسلامية ونشوء حكومات قطرية في كل بلد، وظهور أيديولوجيات دخيلة على الدين الإسلامي، ولأن شرعية ولاية المتغلب تعتمد في قبولها على شرط أساس وهو محافظة المتغلب على مظاهر الدين، وأن لا يصدر منه كفر صراح، من هنا بدأ يتشكل عند الإسلاميين وعي جديد خاصة مع بداية القرن العشرين الميلادي المنصرم، حيث ولّد الاستعمار أيديولوجيات جديدة من قومية وشيوعية واشتراكية وتوجهات مختلفة، فبدأ الإسلاميون يناقشون مسألة تدخلهم في السلطة السياسية، وأن لا يتركوا الساحة شاغرة أمام من يفسد الدين والعقيدة. فقد رأى البعض الاستمرار على سيرة السلف على طريقة (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ)، وبعض آخر قال لا ينبغي لنا السكوت، ونحن نرى الفساد والظلم والاحتلال والاستعمار الأجنبي، وهنا تكونت الحركات أو الجماعات الإسلامية، مثل الجماعة الإسلامية في باكستان، والأخوان المسلمون في مصر، وحزب التحرير في بلاد الشام، ولاحقًا تكون عند الشيعة في العراق بعض الأحزاب والحركات. لكن هذه الحركات ووجهت بالقمع، ولم تتح لها فرصة المشاركة في الشأن السياسي، حتى في البلاد التي كانت عندها حرية تي?وین الأحزاب مثل مصر كانت تمانع نشوء الأحزاب الإسلامية وتسعى لقمعها.

كان للتعامل السيئ مع هذه الأحزاب الإسلامية انعكاس سلبي، أدّى إلى التطرف، والدخول في أتون العنف والصراعات التي حصلت في البلاد العربية والإسلامية. وعاش المسلمون طوال القرن المنصرم ضمن هذا الكر والفر بين الإسلاميين وبين عدد من الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية.

ومنذ العقود الأخيرة للقرن المنصرم بدءًا من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما أعقبها من تغيرات في الشؤون العربية والإسلامية، تبلورت الحركات الإسلامية، حتى جاء ما يسمى الآن بالربيع العربي. ورأينا كيف أن الأحزاب الإسلامية بدأت تشارك في الشأن السياسي، كما رأينا سابقًا في تركيا، والآن في تونس ومصر وليبيا والمغرب، وفي بلاد أخرى، وسوف نرى مشاركة الحركات الإسلامية في كل بلد تتاح فيه  فرصة المشاركة، لأنهم يمثلون ويحملون الراية التي تؤمن بها جماهير الأمة.

الأحزاب الإسلامية والتجربة الجديدة:

بُعد الأحزاب الإسلامية عن السياسة في السابق، وقربهم منها الآن، يضعهم أمام تحد كبير، وهو كيف يتم التصرف أمام الواقع وتطبيق النظريات التي استقوها من الفكر الإسلامي؟ إنهم أمام تجربة جديدة، وتحدياتها كبيرة، ومن الطبيعي أن تنعكس ضعفًا في الأداء، ولكن لابد من إتاحة الفرصة لهم حتى تتبلور أفكارهم وتنضج تجربتهم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: "من قلّت تجربته خدع". ويقول: "كفى بالتجارب مؤدبًا".

مطلوب من الحكومات في البلاد العربية والإسلامية أن تتيح الفرصة لهذه الأحزاب لممارسة نشاطها السياسي والمشاركة في الحكم، حتى تؤهلهم أكثر، وتخفف من الحدية والتطرف الذي أصبح مظهرًا لبعضها، جراء ما واجهوه من قمع، وما تلقوه من أفكار. لأن أي إنسان قبل خوض غمار أي عمل ما يفكر بطريقة معينة، وإذا دخل في خضم العمل فعلًا تغيرت وجهة نظره وتكشفت له أمور أخرى لم تخطر بباله.

أما من ناحية الأحزاب الإسلامية فمطلوب منها أمران:

الأول: أن تأخذ بمبدأ القبول بالآخر والتعايش معه، حيث أن مشكلة أكثر الإسلاميين في الماضي كانوا يرون أنهم من يمثل الإسلام الصحيح، وغيرهم في شرك وضلال، وهذه الحالة تجعل الأمة تعيش في حالة تجاذبات وصراعات داخلية. ولابد لهذه الأحزاب من القبول بالحكم الديمقراطي لمشاركة القوى الأخرى الرأي السياسي، والابتعاد عن الرأي الأحادي. إن أحدًا من الأحزاب لا يقبل منك أن تلغي رأيه، ولا يمكن لحزب أن يعمل بمعزل عن الآخرين، كما أن في المشاركة يتبين صوابية رأي من آخر، ويمكن تصحيح الأفكار والتوجهات. والنموذج الذي يقدمه حزب العدالة والتنمية في تركيا مثال جيد للأحزاب الإسلامية، فقد استطاعوا أن يثبتوا كفاءتهم وجدارتهم.

الثاني: أن تجتهد في فهم الواقع المعاش. فهذا الفقه المتوارث عند المسلمين سنة وشيعة كان نتاج بيئة معينة، ومنه ما لا يتناسب مع هذا العصر، وهذا من فوائد فتح باب الاجتهاد، الذي يعني أن الفقيه غير ملزم بآراء الفقهاء السابقين، فكل عصر له طبيعته وأحداثه، فلابد من تجديد النظر وأخذ الواقع بعين الاعتبار.

وقد رأينا أحزابًا أخذت بلغة الماضي فحولت الإسلام والمسلمين إلى ما يشبه النكتة أو المسخرة أمام العالم، لأنها تريد أن تطبق آراءً كانت سائدة في القرون الماضية،  كما هو الحال عند طالبان والأعمال التي قامت بها في أفغانستان. وللآن نجد بعض الإسلاميين من يحمل مفاهيم سابقة تجاوزها الزمن ويريد أن يطبقها في هذا العصر، كما تحدث أخيراً أحد أبرز القيادات السلفية في مصر عن رؤيته لحل مشكلة الفقر في مصر والمتمثلة في القيام بغزوات الجهاد إلى أمريكا وأوروبا ومن خلالها سوف يكون هناك سلب وسبي للنساء والرجال والأولاد ومن خلال بيعهم تكون هناك عوائد مالية والتي هي أفضل من عوائد التجارة بالبضائع الأمريكية والأجنبية!

وبالرغم من هذا الفكر الموجود عند بعض قيادات هذه الأحزاب إلا أنها قوة لا يمكن إلغاؤها، ولا تشكل خطرًا وقلقًا كبيرًا ما داموا غير منفردين بالحكم، فالتجربة سوف تصقل أفكارهم وتشذبها. هذا ما ينبغي أن نراهن عليه إضافة إلى وجود حركات إسلامية أكثر تفهمًا للواقع والعصر.

نرجو أن تكون هذه المرحلة مرحلة مباركة ونافعة للدين والأمة.

للمشاهدة

الخطبة الأولى: الوفاء قمة الأخلاق

الخطبة الثانية: الإسلاميون والتجربة السياسية

الجمعة 20/1/1433هـ الموافق 16/12/2011م