البخل عاهة في النفس والسلوك

الشيخ حسن الصفار *

الخطبة الأولى: البخل عاهة في النفس والسلوك

يعد البخل والإمساك عن إنفاق المال في موارده عاهة من العاهات المعيبة للأشخاص.فالأصل أن يكسب الإنسان المال من أجل أن ينفقه على حاجاته ومصالحه، ولكن جمع المال قد يصبح عند البعض من الناس هواية فيحرصون على جمعه ويبخلون عن إنفاقه في موارده، وهذه آفة وعاهة كبيرة تصيب الإنسان. إن ذلك يشبه تماما جمع الطعام دونما هدف، فالإنسان أنما يعد الطعام حتى يأكل منه ويطعم منه الآخرين، أما إذا أصبح مجرد جمع أصناف الطعام–دون أكله- هواية لدى أحد الناس، فإن النتيجة معروفة وهي فساد ذلك الطعام وتلفه وصدور الروائح الكريهة منه، فالطعام في الأصل يعد من أجل أن يؤكل لا أن يجمع ويترك هكذا. وكذلك المال إنما يكسبه الإنسان ويجمعه من أجل أن ينفقه على حاجاته ومصالحه المادية والمعنوية، فإذا لم يصرف منه في هذه الموارد فهذا يعني سوء تعامل مع المال. وهذا ما يطلق عليه البخل، أي الامتناع عن صرف المال في موارده وهذه عاهة من العاهات.

إن البخل خصلة ذميمة تنبع من سوء تفكير عند الإنسان أو لخلل في نفسه. وذلك من خلال الجنوح في التفكير والخشية من الفاقة إذا أنفق من ماله، أو تعتريه حالة الأنانية ولؤم النفس فتمنعه من الإنفاق، ولذلك وردت النصوص الدينية التي تحذر المرء من الوقوع في هذا المطب، أو الإصابة بتلك العاهة، فمن وجد في نفسه شيئا من البخل فعليه أن يراجع هذه النصوص من آيات وأحاديث، وأن يتأمل في سيرة من حوله من الناس، حتى يعالج هذا المرض حتى لو لم يكن سوى في مراحله الدنيا، لأن ذلك معرض للاستفحال تماما كما تستفحل وتزيد أمراض الجسم إذا سكت عنها الإنسان.

ورد عن علي أمير المؤمنين في هذا الصدد القول: (البخل جامع لمساوئ العيوب)[1] ، ويقول (البخل بالموجود سوء ظن بالمعبود)[2] ، وبهذا يشير إلى خلل التفكير الذي يعتري البعض، فالله الذي رزق الإنسان هذا المال سيعطيه غيره ولذلك عليه أن ينفق دون خشية الفقر، وقد ورد في الأثر: (من أيقن بالخلف جاد بالعطية) ، وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضا : (إياكم والبخل فإنها عاهة لا تكون في حر ولا مؤمن إنها خلاف الإيمان)[3]  . والإنسان الحر وفقا للراوية هو الذي له نفس سليمة متحررة من العقد، والمؤمن الذي يهتدي بهدي الإسلام لا يكون بخيلا، ثم يضيف الإمام : (إنها خلاف الإيمان).

وفي كلمة لأمير المؤمنين علي : (عجبت للشقي البخيل يتعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب)[4] ، بمعنى أن البعض يطلب الغنى هربا من الفقر، فإذا ما استغنى من مال الله أمسك عن الإنفاق فحاله سيكون حينها كالفقير الذي ليس لديه ما ينفق. فما الفائدة من الأرقام الفلكية الموجودة في الأرصدة البنكية إذا لم يقم صاحبها الغني بواجب الإنفاق؟، والغريب أن لدى بعض الناس هوساً في النظر نهاية كل شهر لأرقام أرصدته المكدسة في البنوك، تلك الأرصدة التي تستفيد منها البنوك بالمتاجرة بها، فالواحد من هؤلاء يعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء. ويقول الإمام الصادق في هذا المضمار: (حسب البخيل من بخله سوء الظن بربه، من أيقن بالخلف جاد بالعطية)[5] .

وللبخل نتائج سلبية على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، ومنها:

أولا: القلق النفسي وضيق والمعيشة

إن أول ما يصاب به البخيل جراء بخله هي حالة القلق وضيق المعيشة. فقد ورد عن النبي : (أقل الناس راحة البخيل)[6] . فالبخيل عادة ما يكون في قلق دائم من التعرض لأدنى خسارة قد تؤدي إلى تضاؤل رصيده المالي. بل أكثر من ذلك، فإذا تعرض إلى موقف يتوجب عليه دفع شيء من ماله فتراه يمتقع لونه ويتمنى لو أنه لم يحضر ذلك المكان.وقد تحدثت إحدى الزوجات تشكو بخل زوجها، فكانت تقول بأنه يأتي بعض الأيام متغير المزاج على غير عادته فتسأله عن السبب فيتضح بأن السبب هو أن فقيرا جاءه ذلك اليوم وطلب منه مبلغا من المال، وآخر طالبه بالتبرع من أجل مشروع خيري، فيطيل ذلك البخيل الشكوى من السائلين وجامعي التبرعات الخيرية!. هكذا هو البخيل، فهو في قلق دائم من الخسارة ومن الاضطرار لدفع شيء من ماله.

وورد في السياق ذاته عن الإمام الصادق : (ليست لبخيل راحة)[7] ، ويقول الامام علي : (أبخل الناس من بخل على نفس بماله وخلفه لوارثه)[8] . ومما ينقل في هذا الصدد أن شابًا كان محتاجا إلى مبلغ من أبيه لشراء سيارة، لكن والده، وعلى كثرة ماله، لم يعطه ما طلب، حتى إذا توفي الأب بعد ذلك بأيام قليلة، قال الولد حينها، الآن أستطيع شراء أكثر من سيارة وليست سيارة واحدة فقط، فهل هذا ما يريده الإنسان؟، حقيقة الأمر أن البخيل يبخل على نفسه باليسير فيما يخلف لوارثه الكثير. ولذلك فالبخل يخلق حالة من القلق والضيق في نفس الإنسان.

ثانيا: سوء السمعة

تأتي السمعة السيئة في الوسط الاجتماعي ضمن أبرز الأعراض السلبية للبخل وشح النفس. إذ يخلق كل امرئ صورة ذهنية عن نفسه بين الناس، فيقرأ الناس من حولهم ويقيمون الأفراد بناء على ممارساتهم وإن لم يفصحوا عن تقييماتهم تلك على نحو مباشر، فالكريم يمدحه الناس والبخيل يذمه الآخرون. يروى عن الإمام علي قوله : (البخل عار، بالبخل تكثر المسبة)[9] ، وعن الإمام الرضا : (البخل يمزق العرض ـ أي السمعة ـ)[10] ، ويقول الامام علي : (من بخل بماله ذل ومن بخل بدينه جل)[11] ، فالإنسان الذي لا يفرط في دينه ويمسك عليه يكون جليلاً عزيزاً، بخلاف الذي يمسك ماله فإنه يكون ذليلاً.

ثالثا: النفور الاجتماعي

يلتف الناس حول من يحسن إليهم فيما ينفرون بشدة من البخيل المقتر. فالإنسان الذي يعطيه الله الخير فيوسع على عياله وعلى الناس من حوله فسيجد الترحيب والالتفاف منهم، والعكس بالعكس. وورد عن الامام زين العابدين : (أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله)[12] ، وعن الإمام الرضا : (صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله)[13]  . فينبغي للرجل إذا أعطاه الله الخير أن يوسع على عياله حتى يدعون له بطول البقاء عوضا عن تمني موته. إن أكثر الناس نفورا من البخيل المقتر هم عياله، حتى أنهم يتمنون الخلاص منه سريعا ليتمتعوا بإرثه من بعد وفاته، وإن لم يصرحوا بما في نفوسهم.

وورد عن الامام الصادق : (اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول)[14] ، إن أولى الناس بالنعمة التي حباها الله المرء هم أقرب الناس إليه؛زوجته وأولاده ووالداه ومن يعول، وإلا فما فائدة المال. تردنا بين الفينة والأخرى بعض الشكاوى عبر الهاتف أو البريد الالكتروني من عوائل يشكون من يعولهم وتقتيره عليهم، فنحاول التخفيف عنهم باختلاق الأعذار وضيق ذات اليد لدى الطرف الآخر، ولكن سرعان ما يأتينا الرد بأن لهذا العائل رصيدا كبيرا في البنك وهو قادر على الإنفاق ولا يمنعه من ذلك سوى البخل!.

وجاء عن النبي : (ملعون ملعون من ضيع من يعول)[15] ، فالعيال أمانة في رقبة المرء، والزوجة المسكينة الكادحة تستحق الكثير، وقد كتب أحد الكتاب يقول بأن الزوجة تقوم بأدوار كثيرة بحيث لو استأجر الرجل لكل دور من أدوراها من يقوم بها مقابل المال لكلفه ذلك كثيرًا، ومن ذلك مهمات الطبخ والكنس وإدارة البيت والحمل والرضاع وما شابه. ولذلك على الإنسان أن لا يبخل على عياله.

وورد عن رسول الله : (المؤمن يأكل بشهوة عياله، والمنافق يأكل أهله بشهوته)[16] ، ومعنى ذلك أن المؤمن يأكل مما يشتهي عياله، فيعطيهم وفق رغبتهم، أما المنافق فيبدأ بنفسه ولا عليه من غيره، فالذي يشتهيه هو يفرض على أولاده أن يأكلوا منه، وهذا خطأ كبير، إذ على الإنسان أن يحسب حسابا لرغبات من حوله.

وينسحب موضوع البخل ليشمل التقتير على الأرحام والأقارب أيضاً. فالإنسان إذا أعطاه الله الخير فلا بد وأن ينعكس ذلك على من هم حوله، ومن العجيب جدا أن ترى ثريا وحوله فقراء من أرحامه وأقرب الناس إليه وقد يكون أخوه أحدهم، فكيف يطيب له العيش مرتاحاً وأقرب الناس إليه يعيشون الفقر والحاجة؟، لماذا لا تنفق على هؤلاء، ومن أجل ماذا تجمع الأموال؟، فإذا كنت تخاف الفقر فذلك سوء ظن بالله تعالى.ولذلك ورد عن رسول الله : (البخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار)[17] . ومن الملاحظ أنك تجد في بعض الأحيان مجموعة من الناس تعيش مرتاحة لا لشيء إلا لأن من بينهم واحداً سخياً يلتف الجميع من حوله، فيما يهرب أناس آخرون من البذل والعطاء على من حولهم حتى يصبحوا أبعد ما يكونون عن الناس.

هناك من أهل الخير من ينعكس خيره على من حوله فيبارك الله له في خيره ويجعله أضعافا مضاعفة. ومن المؤكد أن من يعش في الدنيا نافعا للناس فسيجعل الله له في الآخرة مقاما عليا حتى يخاطب الله أمثال هذا يوم القيامة بأن ادخلوا (الجنة) وأدخلوا من شئتم. فالسخي يعيش مرتاحا في دنياه وآخرته، بينما البخيل يعيش شقيا في دنياه وآخرته. ولذلك قال الله تعالى في هذا الشأن في الآية الكريمة ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ويقول : (أبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه)[18] ، فقد أعطاك الله هذا المال والثروة، ولم يفرض عليك سوى أن تنظر آخر السنة إلى الفائض عندك وما يزيد عن حاجتك لتصرف منه 20 % في الموارد العامة. إن هذا القدر من الإنفاق سوف ينعكس على المرء نفسه على نحو مباشر حين يتقوى المجتمع والانتماء العقدي فيه، أما من يبخل بهذا المقدار فهو من أشد الناس بخلا. ويقول علي : (إذا لم يكن لله في عبده حاجة ابتلاه بالبخل)[19]  ، ومعنى ذلك أن من لا قيمة له عند الله، فإن الله يبتليه بالبخل، أي أن هذا العبد
يختار لنفسه هذا الطريق. جاء رجل لرسول الله وقال: (يا رسول الله أي الناس أفضلهم إيمانا؟ قال ص: أبسطهم كفا)[20]  .
إن البخل ينعكس سلبا على علاقة الإنسان مع أقاربه وأرحامه، فليس لبخيل صلة رحم. ويقول الامام الرضا : (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس)[21]  ، ويقول الإمام الصادق : (شاب سخي مرهق في الذنوب أحب إلى الله من شيخ عابد بخيل)[22]  ، والهدية الأخيرة من الامام الرضا فقد دخل عليه مولى له فسأله الامام هل أنفقت اليوم شيئا؟ قال لا، فقال له الامام من أين يخلف الله علينا؟ أنفق ولو درهمًا واحدًا[23]  .

ينبغي للإنسان أن يمارس عادة الإنفاق في سبيل الله على نحو يومي.ولذلك فمن المستغرب ردة فعل بعض الناس حين يعرض عليهم طلب الدعم والمساهمة في مشروع خيري، فيكرر القول بأنه سبق له المساهمة في مشروع خيري مشابه قبل ذلك!. ينبغي للإنسان أن يعود نفسه على الإنفاق يوميا على مصالح الدين والمجتمع والجيران والأقرباء وأن ينأى بنفسه عن أساليب التهرب من الإنفاق. قال الامام علي : (كثرة العلل آية البخل)[24]  ، وعنه : (البخيل متحجج بالتعاليل والمعاذير)[25]  . كما ورد في الأثر أن على الإنسان أن يتعوذ بالله من البخل، ولذلك على الإنسان أن يربي نفسه على الإنفاق في كل يوم وأن يكون واثقا من عطاء الله تعالى.

نسأل الله أن يبعدنا عن البخل والرذائل وأن يجملنا بمكارم الأخلاق.

الخطبة الثانية: الرهان على وعي الشعوب وحركة التاريخ

تبدو ثقافة الأمل والتفاؤل حاجة ماسة على مستوى الأفراد والمجتمعات على حد سواء. فالإنسان الواعي ينظر للحياة برؤية واقعية، والمزاجي يؤثر واقعه الآني على رؤيته للحياة. إن بروز المشاكل والصعوبات من نواميس الحياة، فالواعي هو من ينظر إلى الحياة برؤية صحيحة سليمة يدرك بها الواقع على حقيقته، ولذلك حين يعيش حياة طيبة رغيدة فتجده يحمد الله سبحانه وتعالى ويستثمر تلك الحالة المتقدمة، وإذا ما أصابته مشكلة وعثرة أو واجهه تحد، فإنه أيضا يتسلح بالثقة والأمل والتفاؤل، ولا يترك لليأس والقنوط طريقا إلى قلبه حتى لا تتعثر مسيرته في هذه الحياة.

إن الله تعالى يصف في الآية الكريمة الحالة الطبيعية للإنسان بالقول ﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ، أي أن الإنسان لا يكل ولا يمل من طلب الخير دائما وأبدًا، وكأن الحياة كلها يجب أن تكون هكذا بدون منغصات، ومن الطبيعي أن يطلب ذلك، والخير بمعنى الأشياء الايجابية في حياته، ولكن في مقابل ذلك على المرء أن يتوقع إمكانية أن يمسه الشر في بعض الأحيان ﴿ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ ، لكنه مع ذلك سرعان ما يصيبه اليأس والإحباط إزاء مشكلة ما عرضت له، ولعل أسوأ ما يمكن أن يصيب المرء هي حالة باليأس التي يمكن أن تنتابه تجاه أي مشكلة تواجهه في هذه الحياة.

ينبغي للمرء أن لا يصاب بالغرور إذا غمرته النعمة، متوهما استمرارها دونما شكر وتنمية ورعاية. فالمال والصحة وكل نعمة هي عرضة للزوال، يقول أمير المؤمنين علي : (لا تيأس من الزمان إذا منع، ولا تثق به إذا أعطى وكن منه على أعظم الحذر) [26] ، وعنه : (قتل القنوط صاحبه)[27]   أي أن القنوط يشل حركة الشخص ويحد من نشاطه، لأن الإنسان إذا لم يتحرك فهو عرضة لخيبة الأمل، وإنما ينشط بالتفاؤل، من هنا جاء التركيز الديني على أهمية الأمل والثقة بالله تعالى. وورد عن علي : (تفأل بالخير تنجح)[28]  . إن على المرء أن يتحلى بالتفاؤل بالخير حتى يدرك النجاح.

أتذكر بأني تحدثت في إحدى خطب الجمعة قبل نحو سنة عن مسألة التفاؤل والأمل التي ينبغي أن لا نتخلى عنها في كل الأحوال، وكان أحد الحاضرين يعاني من مصاعب نتيجة الديون والمشاكل العائلية التي بلغت أروقة المحاكم، فبادر هذا الأخ بمراسلتي قائلا: كأنك تقرأ ما أعيش فيه، لكنه ذكر بأن معاناته التي يعيشها هي أكبر بكثير من الحديث المطروح في الخطبة، موضحا في رسائله جانبا من معاناته، وبعد مرور سنة وعدة شهور على تلك الحادثة، علمت من ذلك الأخ بأن مشكلته انتهت وأصبحت مجرد ذكرى من الذكريات والحمد لله.

ولعل من طبيعة الحياة أن بعض المشاكل تحتاج إلى وقت ولا تلبث أن تنتهي مع مرور الزمن. وهناك قصة طريفة في هذا السياق مفادها أن هناك حاكمًا كان يهيم بحمار له، فأراد من حوله أن يورطوا أحد الأشخاص مع الحاكم، فقالوا للحاكم بأن حمارك العزيز عليك هذا تنقصه القدرة على الكلام، وفلان من الناس يستطيع أن يستنطقه ويعلمه الكلام، فطلب الحاكم ذلك الشخص وأمره بأن يعلم الحمار النطق، وإلا فسوف يقطع عنقه، فوجد الرجل نفسه في ورطة، ثم قال: لا بأس بذلك ولكن بشرط أن تعطيني مهلة عشر سنوات، وحين استكثر الحاكم المدة احتج الرجل مخاطبا الحاكم؛بأن الطفل يحتاج وقتًا للنطق فيكف بالحمار؟، وحين وافق الحاكم وخرج الرجل من عنده لامه بعض الناس لتوريط نفسه في استنطاق الحمار، فقال الرجل؛ لقد طلبت من الحاكم عشر سنوات لأداء المهمة وهذه فترة طويلة، فإما أن يموت الحاكم، أو يموت حماره، أو أموت أنا، وهنا تنتهي المشكلة. فالرجل كان يتكئ في ذلك على عنصر الزمن في الخروج من هذه المشكلة.

المجتمعات تحتاج إلى ثقافة الأمل

وعلى غرار ما سبق تحتاج المجتمعات كذلك إلى ثقافة الأمل والتفاؤل. نحن نعيش اليوم ربيع الثورات العربية، ومن غير المتوقع أن يتغير واقع الشعوب دون مشاكل، ولا تحدث التغيرات السياسية الكبرى دونما عقبات. ذلك لأن من طبيعة المرحلة الانتقالية في حياة الشعوب أن تصاحبها مصاعب، ناهيك عن التراث التاريخي المثقل من خلفنا، فالمشكلة التي نعيشها اليوم لا ترتبط بالحكام المستبدين الموجودين اليوم، أو الذين تمت الإطاحة بهم مؤخرا ، وإنما تعود جذور المشكلة إلى التاريخ الإسلامي والعربي المثقل بإرث الاستبداد والفساد، ولعل ذلك ما ندركه عند الاطلاع على التاريخ الأموي والعباسي والعثماني. لقد أصبح ذلك الإرث الثقيل راسخا يلقى بظلاله على النفوس والعادات والتقاليد والحياة العامة. من هنا إذا أرادت شعوبنا أن تعيش كسائر الشعوب لتختار لنفسها حكما ديمقراطيا وانتقالاً سلمياً للسلطة وسيادة القانون، فإن ذلك لن يكون في سنة أو سنتين، فتجارب الشعوب التي تعيش الحرية والتقدم، كالشعوب الأوروبية على سبيل المثال، استغرقت عقوداً من الزمن ودفعت ضريبة وثمنا باهظاً للانتقال والتحول مروراً بالحروب الطويلة والاعتقالات والإعدامات والمشاكل التي لا حصر ولا عد لها إلى أن تغيرت حياتهم.

أن ما تشهده البلاد العربية اليوم من مشاكل في ليبيا والعراق واليمن ومصر إنما هي مشاكل متوقعة. ندرك جيدا أن بعض هذه المشاكل مختلقة، بالتأكيد أعداء هذه الشعوب لا يريدون لها أن تتغير على نحو هادئ، وهم بذلك إنما يضعون العقبات أمامها عبر اصطناع المشاكل. كما أن هناك عاملا آخر يدفع لبروز المشاكل ويتمثل في الإرث التاريخي والتركة الثقيلة، ولذلك على الشعوب العربية أن لا تتأثر بالأعلام الذي يريد أن يقذف في النفوس اليأس والإحباط، فهذه المشاكل طبيعية تطرأ خلال المراحل الانتقالية في حياة الأمم.

إن على الشعوب العربية التي لم تنجح ثوراتها حتى الآن أن تتحلى بالتفاؤل والأمل لأنها تسير مع حركة التاريخ. نحن نراهن بعد الله تعالى على أمرين: وعي الشعوب وحركة التاريخ. لقد وعت الشعوب، وحينما يتبدل الوعي عند الناس فإن ذلك ينعكس على سلوكهم وحياتهم عاجلاً أم آجلاً لأن الله تعالى يقول ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ، فإذا ما تغيرت الأفكار والنفسيات فمن الطبيعي أن تتغير أوضاع الناس.لقد بتنا نرى اليوم بأن الشعوب بدأت تعي واقعها وتقارن نفسها ببقية الشعوب المتقدمة وتتساءل عن حقوقها المفتقدة، بل تعدت مرحلة التساؤل إلى السعي والعمل من أجل الوصول إلى واقع تلك الشعوب المتقدمة بمختلف الوسائل السلمية، ونراهن على تنامي هذا الوعي. وإن كان هناك من يخشى تراجع الأوضاع إلى نقطة الصفر لدى الشعوب، فإن هذا غير وارد، فلا يمكن أن ترجع الأمور إلى سابق عهدها لأن الناس أبصرت واقعها وبدأت ترى الحقائق كما هي.

وإلى جانب الرهان على وعي الشعوب يمكن الرهان كذلك على حركة التاريخ.فطبيعة السيرورة التاريخية تمضي قدما باتجاه تحرر الإنسانية من الاستبداد السياسي، فقد كانت البشرية تعاني في يوم من الأيام من تفشي العبودية وتجارة الرقيق فتجاوزت مسيرة البشرية هذا المشكلة كما تجاوزت حالة الإقطاع، وحالة الاستعمار، وشعوبنا تشهد في هذه المرحلة تجاوز حالة الاستبداد السياسي التي تجاوزتها أغلب الشعوب على الكرة الأرضية، ولم يبق سوى المنطقة العربية والإسلامية التي باتت تشكل حكوماتها المستبدة قلعة الممانعة أمام مسيرة الحرية والتطوير، لكنهم لن يصمدوا طويلا. إن حركة التاريخ تسير باتجاه التحرر، ولذلك ينبغي أن تمتلئ نفوسنا بالثقة والاطمئنان في أن يكون مستقبل الشعوب العربية خيراً من حاضرها وماضيها إن شاء الله، شريطة الفاعلية والالتزام بضوابط التغيير والتطوير.

نسأل الله تعالى أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين.

للمشاهدة:

الخطبة الأولى: البخل عاهة في النفس والسلوك

الخطبة الثانية: الرهان على وعي الشعوب وحركة التاريخ

خطبة الجمعة بتاريخ11 ربيع الأول 1433هـ الموافق 3 فبراير 2012م
[1]  بحار الأنوار ج70 ص307
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم
[3]  بحار الأنوار ج75 ص346
[4]  بحار الأنوار ج69 ص199
[5]  بحار الأنوار ج70 ص304
[6]  بحار الأنوار ج70 ص300
[7]  بحار الأنوار ج70 ص303
[8]  غرر الحكم ودرر الكلم
[9]  غرر الحكم ودرر الكلم
[10]  بحار الأنوار ج75 ص357
[11]  غرر الحكم ودرر الكلم
[12]  الكافي ج4 ص11
[13]  الكافي ج4 ص11
[14]  الكافي ج4 ص11
[15]  الكافي ج4 ص12
[16]  وسائل الشيعة ج21 ص542
[17]  بحار الأنوار ج70 ص308
[18]  بحار الأنوار ج70 ص300
[19]  الكافي ج4ص44
[20]  الكافي ج4 ص40
[21]  الكافي ج4 ص40
[22]  الكافي ج4 ص41
[23]  الكافي ج4 ص44
[24]  بحار الأنوار ج 74ص209
[25]  غرر الحكم ودرر الكلم
[26]  غرر الحكم ودرر الكلم
[27]  غرر الحكم ودر الكلم
[28]  غرر الحكم ودرر الكلم