الرفق مفتاح النجاح

الشيخ حسن الصفار *

الخطبة الأولى: الرفق مفتاح النجاح

يمثل لين الجانب والسماحة والرفق بالآخرين نقطة جذب واستقطاب فعالة للنفوس والقلوب. فحين يتعامل الانسان مع أخيه الإنسان فهو انما يكون على تماس مباشر مع مشاعر وأحاسيس ذلك الآخر، تلك الأحاسيس التي تمثل في حقيقة الأمر العمق الفعلي لوجود الانسان، الأمر الذي ينبغي أن يحسب له حسابا. ذلك على النقيض تماما من تعامل الإنسان مع الجمادات والكتل المادية الصماء التي لا تتميز بأي قدر وجداني يذكر.

إن مشاعر الانسان وأحاسيسه تستجيب سريعا للغة الاحترام والتقدير، والتعامل بالرفق واللين. في حين ينفر البشر عند مواجهتهم بلغة الاساءة والتعامل الخشن. من هنا إذا أراد المرء أن يستميل الآخرين نحوه فإن أول ما يتوجب منه أن يتعامل معهم التعامل الحسن، وأن يخاطب فيهم مشاعرهم وأحاسيسهم.

في اشارة قرآنية لأفضل اساليب التخاطب مع الآخرين يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، ويقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً. إن تخير أفضل العبارات، وأجمل الكلمات عند مخاطبة الآخرين، هو ما يجعلك أقرب إلى قلوبهم، ويجعلهم أقرب منك. كما ورد عن أمير المؤمنين على (ما من شيء أجلب لقلب الإنسان من لسان)[1] ، ومقتضى القول أن الخطاب الجميل والقول الحسن هو الأكثر قدرة وتأثيرا على اجتذاب قلوب الآخرين.

تؤكد تعاليم الإسلام على جانب الرفق واللين حتى مع المخطئ من الناس. فعوضا عن التعامل مع المخطئ بأسلوب الشدة والفظاظة التي قد تدفعه للإصرار على خطئه، تدعو التعاليم الدينية إلى التعامل مع المخطئ بأسلوب الرفق واللين، أملا في أن يدفعه ذلك لتغيير سلوكه ونظرته تجاهك وتعامله معك، وذلك هو ما أشارت له الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.

وهكذا كان رسول الله والأئمة والصالحون يتعاملون مع الآخرين بسياسة الرفق واللين حتى إذا كان أولئك في موقف الخطأ. ورد في رواية عن أنس بن مالك قال (بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء إعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله : مه مه قال: قال رسول الله : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله عاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا للبول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن[2] ، يقول ذلك الإعرابي : والله لقد أتاني فما أنبني ونهرني وما ضربني)، هذه هي اللغة السليمة وهذا هو النهج النبوي في التخاطب مع الناس، ورد عن رسول الله أنه قال: (إن الرفق لم يوضع في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)[3] ، وعنه (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)[4] ، وورد عنه : (الله يحب الرفق ويعين عليه)[5] ، وقوله:(من يحرم الرفق يحرم الخير كله)[6] .

ولعل أقرب الدوائر التي يتوجب على المرء أن يراعي فيها الرفق والتعامل الحسن هي العائلة. ان على الإنسان أن يكون رفيقا في تعامله مع أسرته وعياله، فإن للرفق داخل العائلة آثاراً عظيمة، فحين يألف أفراد العائلة التعامل الحسن، فإن ذلك سوف ينعكس على صحتهم النفسية، بينما حين تكابد الزوجة القسوة والتعامل الخشن من زوجها، فإن جميع ذلك سوف ينعكس على نفسيتها وطريقة تربيتها للأبناء، والأمر ذاته بالنسبة للأولاد، فإنهم سوف يصابون بالعقد والمشاكل النفسية حينما يعيشون الفظاظة والقساوة داخل البيت من قبل الأبوين. من هنا على المرء أن يلزم جانب الرفق بأبنائه وخاصة الصغار منهم فلا يكون قاسيا عليهم، ولا خشنا في تعامله معهم.

وتحض التعاليم الدينية على تبادل الرفق ولين العريكة في تعاطي الزوجين مع بعضهما. اذ ينبغي أن تكون الزوجة رفيقة بزوجها حتى لا تحول حياة العائلة إلى جحيم، كما ينسحب الأمر ذاته على تعامل الرجل مع زوجته، فقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين أنه قال: (حق الزوجة أن تعلم أن الله تعالى جعلها لك سكنا وأنسا وتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها). وورد عن رسول الله : ( إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق)[7] ، وعن الإمام الصادق : (ما زوي الرفق عن أهل بيت إلا زوي عنهم الخير)[8] .

وتأتى ضرورة التزام جانب الرفق في اطار العائلة، وصولا إلى الأصدقاء والزملاء، وما حولنا من الأشياء والكائنات. فقد ورد عن رسول الله (ما اصطحب اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه)[9] ، ورد عن علي : (الرفق بالاتباع من كرم الطباع)[10] ، بل ويتعدى جانب الرفق اطار البشر حتى يصل إلى الحيوان والجمادات، فقد وردت نصوص عديدة بشأن الرفق بالحيوان، وكذلك الأمر بالنسبة للتعامل مع الجمادات، فبعض الناس يتعاملون مع الأشياء تعاملا فضا قاسيا حتى يتعود على هذه الحالة، حتى أنك حين تراه يفتح بابا ويغلقه بقسوة تظن أن بينه وبين الباب عداوة وثأرا.

نتائج الالتزام بالرفق

ثمة نتائج عديدة وآثار تترتب على التزام الإنسان جانب اللين والرفق، ومن ذلك:

أولا: استحقاق الرفق من الله

إذا كان الإنسان رفيقا بالناس فهو أقرب ما يكون لاستحقاق الرفق الإلهي يوم القيامة. فقد يشعر الفرد في الحياة الدنيا بالقوة، لكنه عما قريب سينتقل عن هذا العالم إلى عالم الفناء، فكيف ستكون حياته هناك سواء بمواجهة الملكين في القبر، أو مصيره يوم القيامة. لاشك بأن تعامل المرء مع من حوله في الدنيا سيحدد طريقة التعامل التي سيواجه بها يوم القيامة، فقد ورد عن الإمام زين العابدين أنه قال: (كان آخر ما أوصى به الخضر موسى قال: ما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة)[11] .

ثانيا: الرفق بالآخرين سبيل النجاح

ان التعامل الحسن مع الآخرين والرفق بهم تضع الفرد على سكة النجاح. اذ ان هناك علاقة طردية بين النجاح الشخصي والرفق بالآخرين. قال الإمام الصادق : (من كان رفيقا في أمره نال ما يريد من الناس)[12] ، وعن علي (الرفق مفتاح النجاح)[13] ، وقال: (الرفق يسير الصعاب ويسهل شديد الأسباب)[14] ، وورد عن الإمام الصادق (إن شئت أن تكرم فلن وإن شئت أن تهان فاخشن)[15] .

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للتعامل بحسن الخلق مع كل من حولنا.

الخطبة الثانية: الإعلام الطائفي وتفجير الصراعات

الحديث حول موارد الاختلاف بين البشر أمر مشروع ما دام ضمن الضوابط الأخلاقية، أما الافتراء فهو عدوان. فقد يختلف الناس في عقائدهم وأفكارهم ومصالحهم، فيدفعهم ذلك للنقاش في موارد الاختلاف فيما بينهم، ومن الطبيعي أن يسعى كل طرف للانتصار لرأيه وموقفه، فهذا أمر مبرر ومشروع إذا ما كان ضمن الضوابط العلمية والأخلاقية، إلا ان ذلك الاختلاف لا يسوغ بأي حال مواجهة الآخرين بالافتراءات، ووصفهم بما ليس فيهم، عندها يكون ذلك السلوك مصداقاً لقول الزور. وتبيانا لفداحة قول الزور فقد قرن الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة الاجتناب عن قول الزور بالاجتناب عن الرجس من الأوثان، قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، فكما أن عبادة الأوثان هي مخالفة للحقيقة وانتماء إلى الباطل واعتداء وعدوان على الألوهية الحقة، فإن قول الزور في الناس هو بالمثل مخالفة للحقيقة وعدوان على الناس، ولذلك وردت النصوص الكثيرة التي تحذر الإنسان من قول الزور، فقد ورد في صحيح البخاري عن أنس قال (سئل رسول الله عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، ثم قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قال: قول الزور)[16] ، فأكبر الكبائر وفق الرواية أن يقول الإنسان زورا على الآخرين، ويفتري عليهم، ويصفهم بما ليس فيهم.

ويعرف مصطلح الزور، وفقا لأرباب اللغة، بأنه وصف الشيء على خلاف ما هو به. ويقول الحافظ بن حجر في شرحه على صحيح البخاري (وضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها (شهادة الزور))، وقال آخرون الزور هو الكذب الذي قد سوي وحسِّن في الظاهر ليحسب أنه صدق وهو من قولك زورت الشيء، أي أنه كلام باطل لكنه يطرح بطريقة مضللة.

إن من الظلم وصف الآخر المختلف فكرياً، أو المغاير دينياً، بما ليس فيه. فإذا ما وصف أحد الآخرين المختلفين عنه في الدين أو المذهب أو الفكر أو الانتماء، بما ليس فيهم، فقد تجنى عليهم وظلمهم، الأمر الذي يجره بطبيعة الحال إلى مستنقع الكذب وفقدان المصداقية في أعين الناس؛ لأنه خالف الحقيقة. كما أن ذلك سيكون سبباً لإغضاب الطرف الآخر، وبالتالي اثارة الضغائن والأحقاد بين الناس.

إن اتهام أي إنسان بما ليس فيه أمر معيب ولا يجوز، كأن تصف أحداً بالسرقة وهو لم يسرق، أو ارتكاب الزنا وهو لم يزن، فهذا ظلم وعدوان، بغض النظر عن دين أو فكر أو اتجاه ذلك الانسان. فأن يسعى المرء لاستعراض أفكاره فهذا أمر مشروع، ولكن أن يصف الآخرين بما ليس فيهم فهذا مصداق لقول الزور.

ولا ينبغي مواجهة الخطأ بالخطأ. ومما جاء في السيرة النبوية في هذا الصدد أن النبي سخط على أحد اصحابه المجاهدين ابان غزوة بدر، لأنه قال كلاما جارحا لأحد المشركين، ووصفه بصفة باطلة. حدث ذلك عندما بعث رسول الله بعض أصحابه، لسؤال بعض الأعراب عن قافلة قريش، فوجدوا أعرابيا فسألوه ولم يجدوا عنده خبرا، ثم قال له الناس، تعال معنا لتسلم على رسول الله فقال الاعرابي أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم، فجاء ثم التفت إلى النبي فقال؛ إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه، فقال سلمة بن سلامة، لا تسأل رسول الله وأقبل علي أنا أخبرك بما في بطن ناقتك، إنك نزوت على ناقتك ففي بطنها منك سخلة، فغضب رسول الله وقال: له مه! أفحشت على الرجل ثم أعرض عن سلمة[17] . لقد أعرض عنه النبي لأنه تحدث بحديث باطل وزور، ومقتضى موقف النبي هو أن استهزاء الاعرابي به لا يبرر مواجهته بما ليس فيه والتهجم عليه بالكلام الفاحش.

ان من أخطر المشكلات هو تحول قول الزور إلى ثقافة عامة تحكم بعض المجتمعات. وذلك بأن تتقاذف مختلف الفئات داخل المجتمعات المتنوعة والمتعددة بالتهم والأوصاف الجارحة ضد بعضها البعض، استنادا إلى أخبار وأباطيل لا أساس لها من الصحة. ان الاختلاف الفكري أو الديني المذهبي أمر طبيعي، وتنوع العقائد قابل للنقاش، وتباين الآراء في تقويم الشخوص وأحداث التاريخ أمر متاح، ولكن جميع ذلك لا يبرر أن يصف بعضنا البعض الآخر بصفات سلوكية ليست فيه فذلك مصداق قول الزور، وسبب لاثارة الأضغان والأحقاد، وهو تجن وظلم على الآخرين. ومن أسف نقول أن سلوكا من هذا القبيل آخذ في التحول إلى ثقافة عامة في أوساط بعض مجتمعاتنا الإسلامية، فكل فئة تنظر إلى الفئة الأخرى من خلال مقولات باطلة أبعد ما تكون عن الصحة، ولكن باتت هذه المفتريات من حكم المسلمات، نظرا لتكرارها وترديدها من جهات تثق بها قطاعات من الناس، كالدعاة وعلماء الدين والمثقفين الذين يفترض فيهم الثقة وأمانة القول، وحين تصدر من هؤلاء مثل هذه الأباطيل فإنما يعني ذلك ممارسة التضليل بحق الناس، والأدهى أننا أصبحنا نواجه في هذا العصر منابع ومنابر إعلامية تثير مثل هذه الثقافة وتشيع قول الزور بين فئات المسلمين.

يدرك الجميع حجم الخلاف المذهبي بين المسلمين الشيعة والسنة. فهناك اختلاف عقدي وفقهي واضح بين الجانبين، ولكن أن تتهم هذه الفئة الأخرى بسلوكيات وأعمال ليست فيها، فذلك هو عينه قول الزور. ويزداد المرء أسى حين يرى صدور هذه الأباطيل بحق أتباع المذاهب الأخرى ممن يصنفون أنفسهم بالعلماء والأكاديميين. ومما يحضرني في هذا السياق ما سمعته من أحد القضاة السنة العاملين في منطقتنا، حين جرى الحديث معه حول بعض الاختلاف المذهبي في أحكام الزواج، فاجأني بالقول بأن الشيعة يجيزون الزواج من المرأة المتزوجة!، فقلت له: اتق الله يا شيخ، فلا يوجد دين ولا مذهب ولا نظام في كل المجتمعات البشرية يجيز للمرأة أن تعدد الأزواج. وحين سألته عن مصدر مزاعمه ردَّ بأنه قرأ ذلك في بعض كتبنا، عندها الححت عليه بأن يذكر لي اسم الكتاب، فوعد بأنه سيأتيني به فلم يأت به ولا أظنه سيأتي به إلى يوم القيامة، ذلك لعدم وجود هذا الحكم الباطل في أي كتاب لدى الشيعة، والأمر المثير للاستغراب هنا هو كيف يسمح هذا الشخص لنفسه وهو قاض يعمل في منطقة شيعية، ويعيش مع أهلها، بأن يتهمهم بمثل هذا الأمر الشنيع!.

وأذكر في ذات السياق أنه ألفّ أحد علماء الشام من أهل السنة موسوعة فقهية في الفقه المقارن، وتحدث فيها عن الزواج ومما أورده في موسوعته: أن الفقهاء المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز للمسلم أن يجمع أكثر من أربع زوجات في وقت واحد بالزواج الدائم، مستدركا بأن الشيعة الإمامية انفردوا بالقول بإجازة الجمع حتى تسع نساء! وزعم بأن الشيعة يقرأون الآية الكريمة ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ على أن الواو للجمع، وليست للتخيير. وقد التقيت شخصيا بهذا الشيخ وهو عالم كبير وكتابه مشهور، كما انه استاذ جامعي، فسألته على هامش أحد المؤتمرات عن مصدر كلامه، حول اجازة الشيعة الجمع بين تسع زوجات، خاصة وأن كل تفاسير الشيعة حول الآية الكريمة تؤكد على أن الواو واو التخيير وليست واو الجمع، كما ان جميع كتبنا الفقهية توكد على الأمر ذاته، وليس هناك حتى رأي شاذ حول هذا الزعم الذي أورده، فقال: بلى قرأت ذلك عنكم، فسألته عن مصدر أقواله فوعدني بالاتيان بالمصدر، ثم التقيت به بعد ذلك بسنة، فقال بأنه قرأ عن ذلك في مذكرة جامعية أيام دراسته في الأزهر الشريف، فبالله عليكم هل تعد مذكرة جامعية مجهولة مصدرا علميا يعتمد عليه في الصاق تهمة شنيعة بطائفة اسلامية كاملة!. وتنسحب ذات المشكلة على العديد من الأباطيل كالحديث عن ما يسمونها بليلة الطفية، حيث يتعمد بعض الجهلة اتهام الشيعة بالتجمع ليلة العاشر من المحرم رجالا ونساء ويمارسون الحرام!، فهل يقبل عاقل هذا الكلام، إلا انه تحول مع ذلك إلى ثقافة عامة في أوساط الجهلة، وعززتها بعض المنابر الاعلامية المغرضة، حتى أصبح مجرد نفي هذه التهمة الباطلة أمرا جهيدا!.

ان السماح بوجود هذه المنابر الاعلامية التحريضية هو الذي يتسبب في نشوب وتأجيج الخلافات الطائفية بين الفينة والأخرى. وقد عاشت بلادنا في الأيام الأخيرة مشكلة من هذا النوع، حيث بثت احدى القنوات الفضائية المحلية برنامجا عن طائفة من الطوائف الدينية في المملكة، وهم الإسماعيليون في نجران، والذين يقارب عددهم المليون نسمة بحسب تقديرات، وهم مواطنون يشاركوننا ديننا ووطنا، ويعترفون بأركان الدين، ويختلفون في بعض الأمور العقدية والفقهية مع السنة وكذلك مع الشيعة، وقد عملت هذه القناة الفضائية برنامجا تجاوز العشرين حلقة تعمدوا خلاله نبش الخلافات المذهبية، وتحدثوا بكلام غير مقبول، وقالوا كلاما فاحشًا ضد هذه الطائفة وضد زعيمها الذي يبلغ من العمر نحو التسعين عامًا، حيث قال أحد المتحدثين علنا بما مضمونه أن الإسماعيلية إذا زارهم زعيمهم الديني يقدمون له نساءهم!، وقد أثار هذا غضب الاسماعيليين، ومن حقهم ذلك، فهو طعن في الكرامة والشخصية، فهل يمكن أن يجري مثل ذلك المنكر المدعى في ظل حكومة إسلامية؟ فكيف يتهم رجل كبير، وطائفة بأكملها بهذا الاتهام الشنيع. كما زعم المتحدث أيضا بأن الاسماعيلية إذا قدموا طعاما او شرابا لأهل السنة فإنهم يلوثونه بالبول أو البصاق!. ومن أسف نقول أن هذا الهراء منتشر عبر بعض المنابر ويكاد يشكل ثقافة عامة لدى بعض البسطاء.

ان المنابر الاعلامية مطالبة بتسليط الضوء نحو معالجة المشكلات المجتمعية. لكن هذه المنابر وعوضا عن التوجه نحو الدفع باتجاه التنمية، ومعالجة البطالة، والتخلف العلمي، فإنها تنزع نحو التعدي على كرامة الناس، حتى أضحى حال الناس المطعونين في كراماتهم مصداقا للمثل الشعبي (جوع وضرب جموع)، فماذا تنتظر من أناس يعيشون هذه الحالة، حيث تتعرض فئات كبيرة من المواطنين للإذلال والتجريح في كراماتهم وسلوكهم، وأخلاقهم وأعراضهم، في مصداق واضح لقول الزور الذي نهى الله عنه.

المطلوب هو تشريع قانون يجرم الحض على الكراهية وإثارة الفتنة بين الناس. ونعود لنؤكد مجددا على ما قلناه سابقا، بأن مثل هذه التجاوزات لا يمكن أن تحل إلا بوجود قانون صريح يجرم الحض على الكراهية وإثارة الفتنة بين الناس، ذلك أنه لا تكفي المعالجات المؤقتة لاستئصال هذا النوع من التعديات، كما حصل من ايقاف مؤقت لعمل تلك القناة لمدة شهر، اذ سرعان ما سيتكرر ذات التجاوز عبر برنامج آخر أو منبر مختلف.

لابد من تجريم هذا المنحى لأن نتائجه خطيرة على الوطن. فبالرغم من التغيرات والتطورات التي تمر على المجتمعات العربية والإسلامية في هذه الآونة، إلا أن هناك ثمة تيار متشدد يدفع باتجاه اشعال الفتن في كل بقعة من بقاع العالم، والاصطدام مع كل الطوائف والفئات، وهذا بالتأكيد ليس في مصلحة الوطن ولا الدين. لا ينبغي أن يترك هذا التيار المتشدد يشعل في الأرض فتنًأ، فلا بد من وضع حد لمثل هذه التجاوزات بحق الأشخاص والفئات، ولا يفوتنا هنا أن ننصح أنفسنا والناس بأن لا ينزلقوا إلى منزلقات الفتنة والطائفية، فهذا ما يريده الأعداء.

إننا نعرب عن تضامننا مع إخواننا في نجران ضد هذه الاساءة لمعتقداتهم ودينهم ولزعاماتهم، كما نتضامن مع كل فئة من فئات المواطنين بل كل مواطن يتعرض للإهانة والإذلال والتشكيك في دينه وعرضه وسلوكه بغير حق. آملين بأن تتظافر الجهود لوضع حد لهذا المنحى المتشدد الذي أمعن في اساءته للناس.

للمشاهدة:

الخطبة الأولى: الرفق مفتاح النجاح

الخطبة الثانية: الإعلام الطائفي وتفجير الصراعات

* خطبة الجمعة بتاريخ 7 جمادى الأولى1433هـ الموافق 30 مارس2012م
[1]  غرر الحكم ودرر الكلم
[2]  صحيح مسلم، ص165، حديث 285.
[3]  الكافي. ج2 ص119.
[4]  صحيح البخاري. كتاب الأدب، ج4، ص92، حديث6024.
[5]  الكافي. ج2، ص120.
[6]  الكافي. ج2 ص119
[7]  مسند أحمد بن حنبل. ج6، ص71.
[8]  الكافي. ج2، ص119.
[9]  الكافي. ج2، ص120
[10]  غرر الحكم ودرر الكلم
[11]  وسائل الشيعة. ج16، ص163.
[12]  الكافي. ج2، ص119.
[13]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[14]  غرر الحكم ودرر الكلم.
[15]  الكافي. ج1، ص27.
[16]  صحيح البخاري، كتاب الأدب، ج4، ص82، حديث5977.
[17]  السيرة النبوية لابن هشام، ج2 ص446.