الفتاة بين الاحترام والتهميش

الشيخ حسن الصفار *

خلق الله سبحانه وتعالى المرأة لتقوم بأدوار إنسانية عظيمة فهي شريكة الرجل في إعمار الكون وغدارة الحياة،. وقد أعدها الخالق سبحانه للعب دور الأمومة، بدءا من الحمل والحضانة وانتهاء بالتنشئة. وتحتاج هذه المهمة إلى مؤهلات بيولوجية ونفسية خاصة، وإلى مخزونٍ كبيرٍ من العاطفة والمشاعر المرهفة لتعينها في القيام بواجباتها، إن تميز المرأة بقدر كبير من العاطفة لا يمثل عيبا فيها بأي حال من الأحوال، كما قد يظن بعض الناس خطأ، فلولا هذا المخزون العاطفي لما طاقت الحمل تسعة أشهر، ولما صبرت على آلام الولادة، وتعب الرضاعة، ومعاناة التنشئة. ينبغي النظر في حقيقة الأمر إلى هذه القدرات باعتبارها مؤهلات ونعم منّ الله بها على الأنثى لتمارس دورها العظيم في هذه الحياة.

إن تميز المرأة بفيض عاطفي لا يتناقض وامتلاكها القدرات العقلية المتميزة. فالمرأة كالرجل في سائر المقومات، لكنها تمتاز عليه بهذا الثراء العاطفي الذي جبلت عليه للقيام بأدوارها الحيوية الكبيرة. من هنا ينبغي على المحيط العائلي، وخصوصا الآباء والأزواج، أن يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار، فيتعاملون مع البنت بقدر كبير من الرعاية والاهتمام، لغرض اشباع عاطفتها، ذلك لأن البنت ستكون أقرب للإصابة بالأزمات النفسية، والمشاكل السلوكية، إذا ما عانت من جوع وفراغ عاطفيين في محيطها العائلي، الأمر الذي سوف ينعكس سلبا على دورها التربوي مع زوجها وأبنائها.

ثمة الكثير من النصوص الدينية التي تشدد على أهمية التعامل الرقيق مع البنات. فقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: (رفقاً بالقوارير)[1]  ، ومضمون ذلك ضرورة ايلاء المرأة أقصى قدر من المراعاة، وينطوي الحديث على تشبيه لطيف، كما لو كان المرء يحمل القوارير الزجاجية والخزفية بعناية خشية سقوطها وتعرضها للكسر والتحطم، بخلاف اذا ما حمل شيئا خشنا وثقيلا كالخشب والحجارة فهي أبعد ما تكون عن خطر التعرض للكسر بسهولة. ان التعامل مع النساء ينبغي أن يكون في غاية الرفق، ذلك إن مشاعر المرأة أقرب ما تكون للانكسار ازاء التعامل الخشن، وفي حال اهمالها والتعامل الجاف معها. ان ذات الأمر ينسحب كذلك على الزوجة، فحينما تنكسر مشاعرها وأحاسيسها فسيكون لهذا أثر سلبي عليها وعلى دورها العائلي والاجتماعي، الأمر الذي يدعونا لتذكر هذا النص الديني (رفقا بالقوارير) ووضعه باستمرار نصب أعيننا.

وفي نص آخر عن علي : (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة)[2]  ، والقهرمان هو الشخص الموكل بجباية أموال الخراج من الناس، فمثل هذا الشخص غالبا ما تتسم علاقته بالناس وعلاقة الناس به بالشدة والنزعة للتحدي، ان هذا النص يريد أن يقول بأن علاقتك أيها الرجل مع زوجتك لا ينبغي أن تكون قائمة على أساس المناكفة والتحدي، بل على العكس من ذلك تماما، فهي ريحانة ينبغي التعامل معها بلطف.

وفي حديث ثالث روي عن النبي : (من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور فإن من فرح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل)[3]  ، وجوهر هذا التصرف يشير إلى أهمية مراعاة المشاعر والأحاسيس للبنات تحديدا. جل هذه النصوص تنزع في حقيقة الأمر نحو التأكيد على التعامل اللين مع البنات.

في سياق مواز ينبغي أن نضع بعين الاعتبار أننا نعيش اليوم عصر انطلاق الحريات الفردية والعامة لدى أغلب شعوب المعمورة، وباتت مسألة حق اتخاذ القرارات الشخصية جزءا لا يتجزأ من شخصية الفرد، لا فرق في ذلك ذكرا كان أم أنثى. فقد بات الشاب والشابة يريان في نفسيهما القدرة التامة على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهما، ولذلك تجد الواحد منهما يرفض التهميش، سيّان في ذلك على المستوى الفردي او الجمعي. من هذه الزاوية يمكن فهم تطلع الشعوب إلى المشاركة السياسية في ادارة أوطانها، ولذات السبب غدى من الصعب أقناع النساء اللاتي يمثلن نصف المجتمع بأن لا حق لهن في اتخاذ القرارات التي ترتبط بمستقبلهن.

ولعل أحد أهم الحقوق الفردية التي ينبغي احترامها على صعيد الفتيات هو الحق في اختيار شريك الحياة أو الانفصال عنه. ان اتخاذ قرار الموافقة على الزواج يعد قرارا مصيريا للفتاة، فحينما تبلغ البنت مبالغ النساء لاشك في أنها تميل من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية إلى تغليب مصلحتها في الزواج، سيما لجهة الخصوصية المحافظة لمجتمعاتنا، وذلك على النقيض من المجتمعات الأخرى التي تجاوزت نوعا ما هذه المشكلة، حتى غدت الحاجة الأسرية لوجود الزوج في تلك المجتمعات لا تقارن بمثيلتها عندنا، فالمرأة هناك حتى لو لم تتزوج وبقيت عانساً، فإنها تستطيع في تلك المجتمعات أن تسيّر أمور حياتها بنفسها على نحو اعتيادي. في مقابل ذلك تبرز جملة من الصعوبات الهائلة أمام المرأة غير المتزوجة في المجتمعات المحافظة، اذ يصعب عليها عادة أن تسيّر أمورها بدون الرجل، ناهيك عن النظرة الاجتماعية التي تغمز من طرف تأخر الزواج ووقوعها في براثن العنوسة. علما بأن مسألة الزواج هي قسمة ونصيب كما يقال، ولا يعد عدم الزواج بأي حال دليلا على الضعف أو الفشل أو السوء، كما هو شائع في ثقافتنا الاجتماعية سيما في الوسط النسائي.

ثمة عوامل عديدة طرأت على الحياة الاجتماعية فأفرزت ظاهرة العنوسة التي يحق للفتيات أن يخشين الوقوع ضحية لها. لقد أضحت العنوسة شبحا أمام الفتيات، ولذلك فمن حق الفتاة في مجتمعاتنا أن تعيش مخاوف تأخر الزواج حتى لا تقع في ذلك الفخ، حيث يتقدم بها العمر دون أن تجد من يقترن بها، فتخسر بذلك فرصة استكمال حياتها العاطفية والاجتماعية.

إن مشكلة بعض الآباء تكمن في غفلتهم عن مستوى القلق الهائل الذي ينتاب بناتهم ازاء أمر الزواج، ولذلك تجد بعضهم يتشدد في وضع الشروط التعجيزية أمام زواج ابنته، هذه البنت التي ربما ترى نفسها قاب قوسين أو أدنى من شبح العنوسة المخيف. إن من حق البنت أن تخشى تفويت فرصة الزواج، بسبب تعنت الأب في الموافقة على زواجها تحت ذرائع وحجج غير مبررة في الكثير من الأحيان، سيما وقد ناهزت احصائيات العنوسة في المملكة قرابة المليوني عانس، كما تشير إلى ذلك تقارير وزارة التخطيط، ولعل ذلك عائد إلى عوامل عديد طرأت على الحياة الاجتماعية حتى أفرزت هذه الظاهرة. من هنا فمن حق البنت أن تخشى تفويت فرصة الزواج، بسبب تعنت الأب.

إن أخطر ما يمكن أن يحطم حياة البنت هو اتخاذ العائلة قرار تزويجها بالنيابة عنها، وبمنأى عن رأيها!. فحين تشعر الفتاة أنها مهمشة على هذا الصعيد، وأن الرأي المطلق هو للأب أو الأخ، بل وفي بعض الأحيان يكون القرار للخال أو العم، والأكثر من ذلك أن يوافق الجميع ولكن ربما تتعثر الأمور عند بروز تحفظ ما على العريس الجديد طرأ لدى أحد أقاربها!، هذه الفتاة التي ترى نفسها مهمشة في اتخاذ القرار المرتبط بها وبمستقبلها وحياتها، ألا تتحطم نفسيا وتصبح نهبا للعقد النفسية، وينتابها الغضب من المحيط الذي تعيش فيه؟ بل الأخطر من ذلك أن تنسب هذه الحالة إلى الدين، الأمر يمكن أن يقود إلى غضب الفتيات على المجتمع برمته وربما على الدين نفسه.

هناك من الناحية الشرعية ثلاثة أقوال لدى الفقهاء بشأن اتخاذ قرار زواج الفتاة البكر البالغة الرشيدة، نجملها في الآتي:

الرأي الأول: أن القرار بيد ولي البنت ويستحب له استئذانها، ويراه بعض فقهاء الشيعة والشافعية والمالكية من السنة.

الرأي الثاني: أن القرار بيد الفتاة ويستحب لها أن تستأذن أباها ويذهب إليه المشهور من علماء الشيعة، ويوافقهم الأحناف من السنة.

الرأي الثالث: الاشتراك في القرار بين الولي والفتاة، وهو رأي أغلب فقهاء الشيعة المعاصرين، والحنابلة من أهل السنة.

ينبغي على الاباء في جميع الأحوال أن يأخذوا بعين الاعتبار رأي بناتهم، فقد أصبحن يعشن عصرا مختلفا عن الأزمنة السابقة. ولعل أسوأ ما يمكن أن يحدث أن يتخذ بعض هؤلاء من زواج بناتهم فرصة للضغط على زوجته وعائلته لأغراض آنية ضيقة،وذلك في حالات الخلافات الزوجية أو حدوث الانفصال عن الزوجة، وهذا أمر محرم وجرم كبير، ومن ذلك ما يلجأ له بعض الآباء، حسبما نشر من تقارير صحفية، من رفض تزويج بناتهم الموظفات طمعا في رواتبهن الشهرية، فيتعمد الواحد من هؤلاء وضع العراقيل والعقبات أمام زواج بناته لا لشيء إلا رغبة في الاستفادة من رواتبهن! إن هذا السلوك إجرامي محرم، وللحاكم الشرعي حينها الصلاحية في نزع ولاية أمثال هذا الأب إذا كان متعنتا لأسباب غير مبررة، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن مشكلة أخرى لا تقل تعقيدا، وتكمن في تلكؤ المحاكم الشرعية في الغالب في تطبيق هذا الحكم الشرعي ونزع ولاية أمثال هؤلاء الآباء.

يمكن الاشارة هنا إلى أن جانبا من تشدد الاباء في أمر تزويج بناتهم ربما يعود لخشيتهم عليهن، وعدم ثقتهم في اختيارهن لزوج المستقبل. فيضع الأب اعتبارات عديدة من قبيل وضع الشاب الخاطب وعائلته أو منطقته ووظيفته أو ما شابه، وهنا ننصح الآباء بأن لا يتشددوا في هذا الأمر، ذلك لأننا نعيش اليوم في عصر مختلف، الأمر الذي يتطلب معه اظهار مرونة أكبر، فالبنت اليوم غير البنت بالأمس، فقد باتت البنات أكثر اطلاعا وأكثر معرفة بخلاف الفتيات في الزمن السابق والتي ربما لا تتجاوز معرفتهن أسوار بيوت آبائهن، ولذلك فمن حق البنات في هذا الزمن أن يكون لهن رأيهن في ما يتعلق بمستقبلهن، وخصوصاً في أمر الزواج. وقد أصبحت أخطار التشدد في الموافقة على زواج البنت تشكل تحدياً للأمن الاجتماعي،حيث تحصل حالات الانتحار، أو الهروب من المنزل، أو قيام علاقات غير مشروعة.

ندرك جيدا أن تشدد البعض من الآباء في تزويج بناتهم ربما يعود إلى خشيتهم من فشل الزواج مستقبلا، من هنا نقول ان مسألة تحقق الانسجام أو انعدامه في الحياة الزوجية خاضع لظروف وأسباب عديدة، ففي الكثير من الحالات التي وقفنا عليها نجد أن زواج البنت من قريب لها، والذي ربما يكون متدينا وفيه كل الصفات التي تريدها العائلة، ولكن مع ذلك سرعان ما تنشب المشاكل بأظفارها في حياتهم الزوجية، في مقابل ذلك وجدنا في بعض الأحيان من تتزوج من واحد بعيد عنها، وغير متوقع منه اسعادها فإذا به يحصل العكس تماما.

حقيقة الأمر، هناك ثمة طرق ووسائل لضمان حقوق الفتاة في مقابل احتمال جور الزوج، ومنها أن تشترط في عقد الزواج بأن تكون وكيلة عن زوجها في تطليق نفسها متى شاءت إذا ما أساء معاملتها، فيمكنها حينئذ أن تعمل بهذا الحق.

ونحن نعيش ذكرى وفاة فاطمة الزهراء ، ونستحضر الأحاديث والنصوص في مكانتها عند أبيها، ينبغي أن نراعي بناتنا، وأن نعاملهن بالحسنى، ونساعدهن على النجاح في الحياة الاجتماعية والأسرية.

فقد اخرج الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين عن عائشة أنها قالت: (ما رأيت أحدا كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وآله وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فاخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه).

وروى أيضا: أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها واخذ بيدها فأجلسها في مجلسه وكانت هي إذا دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله قامت إليه مستقبلة وقبلت يده.

 وأخرج أيضا أن النبي قال لفاطمة: فداك أبي وأمي.

 وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة([4] .

إن هذه الأحاديث كما تبرز فضل فاطمة الزهراء ، فإنها توجهنا إلى ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الأب مع ابنته، باغمارها بالمحبة والعطف والاحترام.

نسأل الله أن يقر أعيننا بحياتنا العائلية وأن يصلح لنا ذرياتنا.

للمشاهدة:

الخطبة الأولى: صور من حياة الزهراء

الخطبة الثانية: الفتاة بين الاحترام والتهميش

خطبة الجمعة 14 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 6 أبريل 2012م
[1]  بحار الأنوار. ج16، ص297. وأيضاً مجمع الزوائد للهيثمي، ج8، ص20.
[2]  الكافي. ج5، ص510
[3]  وسائل الشيعة، ج21، ص514.
[4]  مسند احمد بن حنبل، ج5 ص275.