الإنسان حين يظلم نفسه

مكتب الشيخ حسن الصفار

قال تعالى في محكم كتابه الحكيم:

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[1] .

حبُ الإنسانِ لذاته غريزةٌ أساس تُعدّ أصلاً لسائر الغرائز الإنسانيّة الأخرى، وبهذه الغريزة يقوم الإنسان بحماية نفسه، فيدفع عنها الأضرار، ويحميها من الأخطار، ويبحث عن مصالحها، ويدفع المفاسد عنها، وهذا ما أقرّته جميع الشرائع السماويّة والقوانين البشريّة؛ كما لا تختص هذه الغريزة بالإنسان، بل زوّد الله كلّ الكائنات الحيّة بغريزة الدفاع عن ذاتها، كلّ بحسب استعداداته التي منحتها له الخليقة.

 وفي نفس الوقت الذي تواجه فيه الذاتُ البشريّة الأخطارَ التي تقف أمامها، نلاحظ إغفالها لخطرٍ يمكن عَدّه من أهم مصادر الظلم والعدوان بالنسبة إليها، وهو: نفس الذات الإنسانيّة؛ إذ إن هذه النفس تظلم الإنسان في كثير من الأحيان، وهذا ما أشارت إليه النصوص القرآنيّة والروائيّة؛ حيث نلاحظ إن مضمونها عموماً يخاطب الإنسان قائلاً له: أيها الإنسان الذي تُعبئ كلّ قواك من أجل دفع وردع أي عدوان خارجيّ ينتابك، ما بالك تخنع أمام ظلم ذاتك لك واعتدائها عليك؟

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[2] .

﴿فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[3] .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ... [4] .

وورد عن رسول الله أنه قال: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)[5] .

وعن أمير المؤمنين علي : (نفسك أقرب أعدائك)[6] .

كيف يظلم الإنسان نفسه؟

وقد يسأل سائل: عن كيفيّة ظلم الإنسان لنفسه، وهل يمكن أن يحصل ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، ونحن نعرف إن الظلم يحصل من الإنسان للغير فقط؟

والجواب: يمكن أن نذكر ثلاثة مصاديق لظلم الإنسان لنفسه وهي عبارة عن:

1ـ إطلاق العنان للرغبات

لا شكّ إن للإنسان رغبات متعدّدة كامنة فيه، ولابد من استيفاء استحقاقاتها في إطار حدودٍ وسقوفٍ حدّدها الشرع والعقل، لكن فتح المجال أمام هذه الرغبات دون قيود وشروط هو إيذاء للنفس، وظلم لها، رغم السعادة الظاهريّة التي قد يحسّ بها الإنسان.

والمؤسف إن البعض ممن يطلقون العنان لأنفسهم في عموم الميادين الغرائزيّة البشريّة، نجدهم لا يلتفتون إلى ذلك، ولعل نظرة يسيرة إلى الغريزة الماديّة، وإطلاق العنان لها من قبل البعض، كفيلة بإيضاح هذا الأمر؛ فإن من يتجاوز القيود والسقوف الغذائيّة مثلاً يفضي به إلى ظهور أزمات صحيّة كثيرة، ترافقه طيلة حياته، وربما تقضي عليها مبكراً، ومن هنا أكّدت النصوص الدينيّة على ضرورة الالتزام بالضوابط والقيود في استيفاء حقوق هذه الغريزة؛ كقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا[7]  ، وآية ذلك هي صحة الإنسان وسلامة بدنه.

وتشير الإحصائيات إن نسبة الإصابة بالسكري في المملكة العربيّة السعوديّة في عام 1985 هي 5%، أمّا في عام 2014 فقد ارتفعت النسبة إلى: 24%، وهي نسبة عالية جداً؛ أي ما يربو على ثلاثة ملايين شخص مصابين بهذا المرض، وكذا الأمر في مرض السمنة؛ حيث إن الجلوس واختزان السعرات الحراريّة في الجسم يتحوّل إلى امراض فتّاكة في الجسم الإنساني.

ولا يقتصر الأمر على غريزة الطعام، بل يشمل ذلك غريزة الجنس أيضاً؛ فمن حقّ الإنسان أن يمارس الجنس، شريطة أن يأخذ القيود والضوابط الشرعيّة والأخلاقيّة بعين الاعتبار، ومن دون ذلك ستصبح هذه الغريزة وبالاً ونكداً عليه؛ حيث الأمراض الجنسيّة التي تأتي عن طريق التواصل الجنسي غير المنضبط الذي يعدُّ من أبرز أسباب الإصابة، فقد كثرت هذه الأمراض في الآونة الأخيرة كما تشير الاحصائيات حيث بلغ عدد المصابين بالايدز في العالم أكثر من 36 مليوناً، يموت منهم سنوياً أكثر من 720 ألف.

وحذّرت جمعيّة أواصر الخيريّة المواطنين المسافرين خارج المملكة العربيّة السعوديّة من سماسرة الجنس الذين يستقبلونهم في المطارات والفنادق المختلفة ويدفعونهم نحو الممارسة غير المنضبطة باسم الزواج والتي قد تسبب لهم أمراضاً فتّاكة تودي بحياتهم في نهاية المطاف[8] .

ويشير تقرير صادر عن وزارة الصحة السعودية أن العدد التراكمي لكافة الحالات المكتشفة بهذا المرض في السعودية منذ بداية عام 1984 وحتى نهاية عام 2012، بلغ 18762 حالة، كما تم اكتشاف 1233 حالة جديدة مصابة بفيروس الإيدز عام 2012. [9] 

2ـ تحجيم الاهتمام النفسي  بالماديّات

لا شكّ إن الإنسان يختلف عن باقي الكائنات الحيّة في قيمته المعنويّة العالية؛ حيث لم يُخلق من تراب خالص، وإنما نفخ فيه خالقه الجبّار من روحه بعد أن أحسن صنعه وصنيعته، من هنا فهو يمتلك أفقاً معنويّاً يتطلّع من خلاله إلى دارٍ أخرى غير داره الدنياويّة، وهذا يدعوه إلى الحفاظ على البعد المعنوي والاستجابة له وتنميته، لا أن يترك ذاته منغمسةً في البعد الماديّ الخالص.

لكن المؤسف إن البعض يذهب صوب الماديّات، محجّماً لذاته في الطعام والجنس والممتلكات، ويحرم نفسه من المكاسب المعنويّة الهائلة التي كانت تتوفّر له لولا ابتعاده عنها وإهماله لها، على أن الشارع المقدّس لا يقف أمام المكاسب الماديّة وتحصيلها، لكنّه يدعو الإنسان إلى عدم تحجيم نفسه في إطارها؛ فأين الإنسان من المنجزات المعنويّة؟ وأين هو من التقدّم في ذلك العالم الذي سينتقل إليه؟

ولا شكّ إن أفق العلم والمعرفة، هو من التوجّهات المعنويّة، التي ينبغي على الإنسان أن ينحو نحوها، ويميل إليها، ومن يحرم نفسه من هذه المتعة العظيمة، والمكسب الجليل، فسوف يظلم نفسه دون شكّ وريب.

أجل؛ على الإنسان أن يلتفت إلى هذه الميزة التي ميّزته عن سائر المخلوقات، وعلى الإنسان أن يخصّص وقتاً لطلب العلم والمعرفة، كما يخصّص ساعات لتلك الأمور الماديّة؛ فقد ذمّت النصوص الدين حالة الركود في طلب العلم، والانكفاء على النفس، والعيش بجهالتها.

قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْماً‏[10] .

وروي عن الرسول الله القول: « كُلُّ يَوْمٍ لا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي مِنَ اللَّهِ فَلا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمَ»[11] .

وليس العلم والمعرفة هي الأمور المعنويّة الوحيدة التي ينبغي على الإنسان تهيئة النفس لطلبها، والالتذاذ بها؛ فإن لذة مناجاته تعالى، والاتصال به، لذّة عظيمة، خصوصاً في أيام الله المباركة، والتي حثّت النصوص الدينيّة على استثمارها بالعبادة والنسك؛ حيث يشعر الإنسان المنفتح على خالقه باللذة والسعادة والسرور، وهو يناجيه في آناء الليل وأطراف النهار، وهذا ما نجد مظهره على لسان النبي الأكرم حينما كان يطلب من مؤذنه بلال أن يريحه بالصلاة، فورد عنه : (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها)[12] .

كما إن تجسيد القيم الأخلاقيّة والتمثّل بها يعدّ من أرقى اللذائذ المعنويّة الكبيرة؛ فحينما يكون الإنسان مصدراً لرسم البسمة على شفاه الأيتام؛ وإدخال السرور على قلوب المكروبين والمحزونين؛ والفرج على المهمومين... أقول حينما يكون الإنسان كذلك فلا شكّ أنّه سيحصل على أفضل السعادات المعنويّة.

ومن هذه الإشارات المتقدّمة نفهم: إن الإنسان الذي يهمل كلّ هذه المكاسب المعنويّة، فلا شكّ إنه يظلم نفسه، وهذا ما نبّه إليه الإمام عليّ حيث قال: «إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ أَثْمَاناً فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِالْجَنَّة»[13] ، وليس ذلك دعوة للعزوف عن اللذائذ الماديّة والابتعاد عنها، وإنما هو تشديد على ضرورة أن يكون الاستيفاء في إطار النُصب التي وضعت لها.

3ـ ظلم الآخرين ظلم للنفس

حينما يظلم الإنسان إنساناً آخر، فهو في واقع الأمر قد ظلم نفسه، وبخسها حقّها، وعليه أن يتجنّب ظلم ابناءه أو زوجته أو أقربائه أو موظفيه، أو أيّ شخص آخر، من أجل لذّة زائلة داثرة لا استمرار لها؛ فإنّه بذلك يظلم نفسه ويتجاوز عليها.

وهكذا نعرف إن الانتصار الحقيقيّ هو الانتصار على الذات والنفس، وكما قال الأمير عليّ: «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ، وَالْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوب‏»[14] .

فالظلم ظلمات وتبعاته خطيرة، وأول تبعاته مواجهة تأنيب الضمير، ثم سوء السمعة لدى الآخرين، وقد يقع الإنسان تحت طائلة العقوبة وردّ الفعل ممن أصابه ظلمه، أو يناله البلاء، أما التبعة الأشد فهو العذاب في الآخرة، يقول تعالى :﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً[15]  ، يقول علي:  (وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ)[16] .

وعنه: (وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ)[17] .

الخطبة الثانية: المزايدة في الدين

روى عن رسول الله أنه قال: «وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ»[18] .

التنافس في عمل الخير وطاعة الله تعالى أمرٌ مطلوب في ذاته؛ فقد حثّت الآيات القرآنيّة الكريمة على ذلك في مواطن متعدّدة، وكذا النصوص الروائيّة والأدعية الشريفة؛ حيث دفعت بالإنسان نحو التقدّم في عمل الخير وطاعة الله سبحانه.

قال تعالى: ﴿وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُون‏[19] .

وقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات‏[20] .

كما جاء هذا المعنى في دعاء مكارم الأخلاق للإمام علي بن الحسين حيث قال: «اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَالِ»[21] .

ومن هذه النصوص يظهر: إن على الإنسان أن يكون طموحاً لأن يكون أفضل من الأخرين تديّناً والتزاماً وسبّاقاً إلى الخير وطاعة الربّ.

لكن قد تنبثق للإنسان المؤمن بعض الأمراض التي تعيقه عن إنجاز هذه المهمة بخلوص نيّة وصفاء قلب، من قبيل: «التفاخر بالتديّن وازدراء تديّن الغير»؛ حيث نلاحظ إن البعض يرى في تديّنه الأفضل والأحسن والأنجع، ويكيل التهم لتديّن الآخرين وأديانهم، وما هذه إلا مزايدة باسم الدين.

وقد تحمّلت النصوص الدينيّة مسؤولية ذمّ هذه المزايدة، وتقريع من يمارسها بشدّة وصلابة، وهي نصوص ربما لا تكون صحيحة الأسانيد بآحادها، ولكن من حيث مجموعها ومجملها نراها منسجمة مع قيم الدين ومقاصده ومفاهيمه، نظير ما ورد عنه أنه قال: (وَيْلٌ لِلْمُتَأَلِّينَ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ , وَفُلَانٌ فِي النَّارِ).

والذي يُعني من التألّي على الله هو: إن الإنسان يُصدر حكماً  على المستقبل الأخروي للآخرين، فيصنّف الناس على أساس قناعاته في: الجنّة والنار، ولا ندري من هو الذي منح له هذا الحقّ في تقرير مصير الآخرين؟!؛ إذ كيف يُسوَّغ له الحكم السلبي على عباد الله خصوصاً من يشاركونه في الدين والعقيدة.

 كما جاء في الرواية عن أبي ذرّ الغفاري: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْماً وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ.

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: مَنْ ذَا الَّذِي تَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَ الْمُتَأَلِّي بِقَوْلِهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ»[22] .

وجاء في حديث آخر عنه: «لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، لَا تَأْلُوا عَلَى اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَأَلَّى عَلَى اللهِ أَكْذَبَهُ اللهُ»[23] .

ومن مجموع هذه النصوص نفهم إن التفاخر بالدين أمرٌ محظور ومنبوذ من الناحية الشرعيّة، لكونه من مصاديق الرياء؛ فإن الله لا يقبل من عبده المؤمن ـ مهما كانت درجة تديّنه وعبادته ـ أن يتفاخر محاولاً اكتساب السمعة والفخر بين الناس على أساس عمله الديني؛ فقد جاء في الحديث: «عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ، فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ، وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ.

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟

قَالَ: نَعَمْ... أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ...»[24] .

ومن هنا نجد إن الإمام زين العابدين علي بن الحسين يتضرّع إلى الله كي يجعله في قمّة الالتزام بالقيم والأخلاق، دون أن يسبب له ذلك شعوراً بالتعالي على الآخرين، أو بالتفاخر بينهم، حيث قال في دعاءه: «وَهَبْ لي مَعالِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ»[25] .

ومجمل القول: إن مكمن الداء في أوساطنا هو إن البعض من المتدينين يمنحون لأنفسهم الحقّ في تصنيف الناس، وتوزيع الرتب والمواقع عند الله بوعي أو بدون وعي، وربما يحسبون إن هذا الأمر مهمة قد منحها الله جلّ وتعالى لهم، فيصدرون أحكاماً في نجاة هذا وهلاك ذاك، وفي فساد عقيدة (أ) وصلاح عقيدة (ب)، وما هذه المزايدة إلا واحدة من المساوئ القائمة في حياة المسلمين الدينيّة؛ مع إن الدين بتعاليمه يربّي الإنسان المسلم على حسن الظنّ بإخوانه المسلمين، حتى وإن تملّك درجة أفضل في العلم والمعرفة الدينيّة، إلا أن ذلك لا يدعوه للازدراء بهم، بل يتحمّل مسؤولية رفع مستواهم وإقناعهم بما يملك، لا أن يتعامل معهم بازدراء، ويحكم بخروجهم عن الدين والملّة، لأنهم لا يتفقون معه في رأي جزئي أو مسألة تفصيليّة.

وقد روى: «الصَّبَّاحِ بْنِ سَيَابَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ القَولَ: مَا أَنْتُمْ وَالْبَرَاءَةَ؟ يَبْرَأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهُمْ أَنْفَذُ بَصَراً مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ»[26] .

وليس هذا الداء مقتصراً على هذا العصر، بل نلاحظ جذوره موجودة في عصور الأئمة أيضاً؛ حيث كشفت بعض النصوص الروائيّة عن اختلاف المراتب في أصحاب الرسول والأئمة، وكشفت عن وجود هذه الظاهرة فما بينهم، كما جاء ذلك في روايةٍ: «عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَرَاطِيسِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرْتُ لَهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الشِّيعَةِ وَمِنْ أَقَاوِيلِهِمْ، فَقَالَ يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ:

الْإِيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ لَهُ عَشْرُ مَرَاقِيَ، وَتُرْتَقَى مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ، فَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الْوَاحِدَةِ لِصَاحِبِ الثَّانِيَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‏ءٍ، وَلَا يَقُولَنَّ صَاحِبُ الثَّانِيَةِ لِصَاحِبِ الثَّالِثَةِ لَسْتَ عَلَى شَيْ‏ءٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ.

قَالَ: وَكَانَ سَلْمَانُ فِي الْعَاشِرَةِ، وَأَبُو ذَرٍّ فِي التَّاسِعَةِ، وَالْمِقْدَادُ فِي الثَّامِنَةِ.

يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ: لَا تُسْقِطْ مَنْ هُوَ دُونَكَ فَيُسْقِطَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، إِذَا رَأَيْتَ الَّذِي هُوَ دُونَكَ فَقَدَرْتَ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى دَرَجَتِكَ رَفْعاً رَفِيقاً فَافْعَلْ، وَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُهُ فَتَكْسِرَهُ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَسَرَ مُؤْمِناً فَعَلَيْهِ جَبْرُهُ؛ لِأَنَّكَ إِذَا ذَهَبْتَ تَحْمِلُ الْفَصِيلَ حَمْلَ الْبَازِلِ فَسَخْتَهُ»[27] .

ولم تكتفِ النصوص الدينيّة بشجب هذه الظاهرة ونقدها، بل طرحت حلولاً لتجاوزها من خلال بيان كيفيّة التعامل مع الذي لا يتفق مع الإنسان في شيء من القضايا الدينيّة، فجاءت ثلاثة مقاييس:

الأوّل: احتمالات الخطأ والصواب

فما هو الضمان بصحّة الرأي الذي يختاره الإنسان وسقم رأي غيره، فربما يكون الأمر بالعكس تماماً؛ إذ لا يمكن للإنسان العادي أن يدعي العصمة في آراءه على الإطلاق، بل هي مسائل اجتهاديّة سواء أكانت في القضايا الفكريّة أو الفقهيّة، والمجتهد بطبيعته قد يختلف في رأيه عن المجتهد الآخر، ومن يطمئن بمجتهد معيّن فيأخذ رأيه الفقهي أو الفكري فهو معذور عند الله، لكونه أخذ برأي مجتهد، أو إنه اجتهد، حينما تكون له القدرة على ذلك، فلا يُسوّغ الحكم القطعي بصواب الرأي وخطأ خيار الآخر؛ فنحن من الذاهبين إلى «التخطئة» التي تعني عدم إمكانيّة ادعاء الجزم بالوصول إلى الحكم الواقعيّ الحقيقي على الإطلاق؛ حيث إن كلّ مسألة تحتمل الخطأ والصواب سوى الضروريّات المتفق عليها.

وكم من فكرة تنازع الناس عليها، واختلفوا فيما بينهم حولها، لكن وبعد مرور فترة من الزمن تغيّرت الأمور، وساد رأي غير الرأي الذي كان سائداً في الماضي؛ ومع كون الأمر كذلك فلا ينبغي على الإنسان أن يتهم الآخرين في دينهم لكونهم يمتلكون رأياً آخر.

الثاني: احتمال القبول وعدم القبول

يجتهد المؤمن في تبني ما يعتقد أنه حق، وفي العمل بما يوصله إلى رضا الرب تعالى، لكنه لا يستطيع إحراز قبول عمله من قبل الله تعالى، فهو يتهم نفسه بالتقصير دائماً، ويشعر بالخوف والوجل من عدم تحقق موجبات قبول الله تعالى لعمله، فكيف يصح لمؤمن أن يجزم بأن ما يمارسه من تدين هو المقبول عند الله، وأن تدين غيره المختلف معه غير مقبول؟ فقد يكون عمل الآخر مقبولاً، وعملك غير مقبول.

ومن هنا جاءت النصوص الدينيّة الكثيرة الناصّة على عدم إخراج الإنسان المؤمن نفسه عن حدّ التقصير، فيظلّ متردّداً في قبول عمله وعدم قبوله؛ فإن القبول وعدمه ليس من صلاحيات الفرد الحكم فيه وتقرير المصير، جاء في الرواية: «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ:عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسىٰ، قَالَ: قَالَ لِبَعْضِ وُلْدِهِ: يَا بُنَيَّ عَلَيْكَ بِالْجِدِّ، لَا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنْ حَدِّ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ اللّٰهَ لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ»[28] .‌

روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن محمد بن فضيل بن غزوان قال: قيل لعلي: كم تتصدق؟ كم تخرج مالك؟ ألا تمسك؟ قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضاً واحداً لأمسكت، ولكني والله ما أدري، أقبل الله مني سبحانه شيئاً أم لا[29] .

الثالث: احتمالات حسن العاقبة وسوئها

فمن هو الإنسان الذي يضمن حسن عاقبته وسوء عاقبة الشخص الذي يتنازع معه، وعلى كلّ إنسان أن يدعو الله بحسن العاقبة، ولكن يبقى احتمال سوئها قائماً.

ورد عن رسول الله: >إن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة <[30] .

كلّ ما تقدّم يكشف لنا عن ضرورة عدم إعجاب الإنسان بتديّنه عموماً، سواء أكان على المستوى العقدي أو على المستوي السلوكي، وهذا لا يمنع من إبداء الرأي والدفاع عنه، ولكن من الخطأ تجهيل الآخرين وازدرائهم، وتحمّل مسؤولية تصنيفهم وإثابتهم ومعاقبتهم؛ إذ نصّت الآيات القرآنيّة على أن الحساب على الدين والعمل شأن إلهيّ خالص، قال تعالى:

﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ[31] .

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ[32] .

وأخيراً نقف مع المحاورة التي جرت بين محمد بن مسلم الزهريّ وبين الإمام عليّ بين الحسين؛ حينما دخل الزهريّ مهموماً كئيباً عليه فبادره الإمام بالسؤال عن السرّ الذي يقف وراء همّه وكآبته وغمّه، فيبدي له الزهري انزعاجه من الطماعين والحسّاد ممن أحسن إليه، وهكذا يستمر الحديث بينهما حتى يقول له الإمام:

«إِنْ عَرَضَ لَكَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ بِأَنَّ لَكَ فَضْلًا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَانْظُرْ إِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقَنِي بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَقُلْ قَدْ سَبَقْتُهُ بِالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ وَإِنْ كَانَ تِرْبَكَ فَقُلْ أَنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ ذَنْبِي وَفِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِهِ فَمَا لِي أَدَعُ يَقِينِي لِشَكِّي»[33] .

أجل؛ هكذا تربي النصوص الدينيّة الإنسان المؤمن في التعامل مع أقرانه المؤمنين، وتطلب منه عدم الإعجاب بالنفس والمزايدة باسم الدين، هذه الظاهرة التي تُعدّ من أخطر الأمراض في ساحتنا الدينيّة، وينبغي على الناس أن يحسنوا الظن ببعضهم بعضاً، وأن يديروا ما يختلفون عليه من أمور فقهيّة أو فكريّة بالحوار وضمن الضوابط العلميّة والأخلاقيّة.

خطبة الجمعة 8 شعبان 1435هـ الموافق6 يونيو2014م
[1] سورة يونس، الآية: 44.
[2] سورة يونس، الآية: 44.
[3] سورة التوبة، الآية: 70.
[4] سورة النساء، الآية: 97.
[5] بحار الأنوار. ج67، ص74.
[6] عبد الواحد الآمدي التميمي. غرر الحكم ودرر الكلم، الطبعة الأولى1407ه، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات)، ص295، حكمة 8.
[7] سورة الأعراف: الآية 31.
[8] جريدة الرياض. الأربعاء 6 شعبان 1435 هـ - 4 يونيو 2014م - العدد 16781 , صفحة رقم ( 48 ).
[9] موقع الجزيرة نت. السبت 27/1/1435هـ- الموافق30/11/2013م.
http://www.aljazeera.net/news/pages/533b9666-9997-43fc-9df4-15923d0e4033
[10] سورة طه، الآية: 114.
[11] الهندي، الفاضل، كنز العمّال: ج10، ص136.
[12] كنز العمال. ج7، ص274، حديث18946.
[13] غرر الحكم ودرر الكلم. ص219، حكمة97.
[14] نهج البلاغة: ص533.
[15] سورة الفرقان، الآية: 19.
[16] نهج البلاغة كتاب53.
[17] نهج البلاغة. خطبة 176.
[18] كنز العمال: ج 3، ص559 , حديث 7902.
[19] سورة المطففون، الآية: 26.
[20] سورة البقرة، الآية: 148.
[21] الصحيفة السجّاديّة: ص92.
[22] وسائل الشيعة. ج15، ص336؛ وصحيح مسلم. حديث 2621.
[23] الطبراني، المعجم الكبير: ج8، ص229.
[24] الإمام أحمد، مسند أحمد: ج28، ص346.
[24] الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق: ص92.
[26] الكليني، الكافي: ج2، ص45.
[27] الصدوق، الخصال: 2، ص448.
[28] الكليني، الكافي: ج4، ص185.
[29] شرح نهج البلاغة. ج2، الطبعة الأولى1407ه، (بيروت: دار الجيل)، ص202.
[30] كنز العمال. ج1، ص121.
[31] سورة الشعراء، الآية: 112.
[32] سورة الغاشية، الآية: 26.
[33] الطبرسي، الاحتجاج: ج2، ص320.
[18] كنز العمال: ج 3، ص559 , حديث 7902.
[19] سورة المطففون، الآية: 26.
[20] سورة البقرة، الآية: 148.
[21] الصحيفة السجّاديّة: ص92.
[22] وسائل الشيعة. ج15، ص336؛ وصحيح مسلم. حديث 2621.
[23] الطبراني، المعجم الكبير: ج8، ص229.
[24] الإمام أحمد، مسند أحمد: ج28، ص346.
[24] الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق: ص92.
[26] الكليني، الكافي: ج2، ص45.
[27] الصدوق، الخصال: 2، ص448.
[28] الكليني، الكافي: ج4، ص185.
[29] شرح نهج البلاغة. ج2، الطبعة الأولى1407ه، (بيروت: دار الجيل)، ص202.
[30] كنز العمال. ج1، ص121.
[31] سورة الشعراء، الآية: 112.
[32] سورة الغاشية، الآية: 26.
[33] الطبرسي، الاحتجاج: ج2، ص320.