التحدي الأكبر مواجهة التطرف الديني

 

قَالَ الإمام عليّ : « أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَيُّهَا النَّاسُ: فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا...»[1] .

مكارم عليّ وفضائله ومواقفه العظيمة لا تُعدّ ولا تُحصى، ولكنه في هذه الخطبة يباهي بموقف معين، هو مواجهته الحاسمة لفتنة الخوارج، بحيث فقأ أي اقتلع عين تلك الفتنة، معتبراً أن الوقوف الصارم بوجهها، وإيقاع الهزيمة بها، ليس شأناً يقدر عليه أي أحد سواه، فقد امتدت ظلمتها وتطاولت، وشبهها بداء الكَلَب وهو داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أُصيب به فَجُنّ ومات إن لم يُبادَر بالدواء.

وحين نتساءل عن السرّ الذي يدعوه إلى توظيف هذا المفهوم في هذه القضية التي حدثت، خصوصاً وإن هناك العديد من الحوادث التي مرّت على عليّ عليه السلام، نظير معركة الجمل وصفين، ولم نرَ منه هذا التوصيف وهذا التوظيف، فلماذا كانت مواجهة الخوارج هو الموقف المتميّز والشاخص الذي يباهي به، وأنه لم يتمكّن منه أحد سواه بل لا يجرؤ أحد على ذلك؟

لعل نظرة فاحصة إلى سيرة أغلب المجتمعات تعطينا إجابة حول هذا التساؤل؛ فإن مواجهة التطرّف والتشدد الدينيّ هو أكثر صعوبة من مواجهة أيّ خطر آخر، فإن الخطر حينما يكون خارجيّاً تكون مهمة الوقوف أمامه ومواجهته ليست بالعسيرة، كما لا تكون المشكلة عسيرة ومتعذرة حينما تدار المواجهة ضدّ أعداء الدين والمذهب، ومن هم منحرفوا السير والسلوك وخارج الدائرة الدينيّة، لكنها تتعسّر بل تتعذّر حينما  ينبري أناسّ من داخل نفس العقيدة والدين، ليقدّموا قراءة متطرفّة لهذه العقيدة والدين، وينظّموا سلوكهم على أساسها، وتكمن خطورة أمثال هذه الحركات في تعاطف الناس واندفاعهم نحوها في احاسيسهم وانفعالاتهم، وحينما يشاهد الناس حرص هؤلاء الظاهريّ على الدين، وتمسّكهم به أكثر من غيرهم كما هو وصف المتطرّف والمتشدّد، سوف تنطلي عليهم الخدعة، وعندما تحصل لهم مواجهة فإنهم يصدرون أحكام التكفير والخروج عن ربقة الإسلام تجاه مناوئيهم بل مخالفيهم، وقد كفّروا علياً الذي لا يشكّ عاقل في نصاعة إسلامه وإيمانه، ومن هنا تضحى مسألة مواجهة التشدّد الديني خطراً أكبر.

قال بعض المحقّقين: «حقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة ـ التي كانت في ظاهرها تيّاراً وطيداً في التديّن - عملٌ في غاية الإعضال ، وكان الإمام عليه السلام يرى أنّ إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته، فقد قال عليه السلام: (إنّي فقأتُ عين الفتنة ، ولم يكن لِيَجْترئ عليها أحدٌ غيري).

إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ؛ القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم، وجرى على ألسنتهم نداء (لا حُكْم إلاّ لله) وهم بِسيَر ربّانيّة الظاهر، عملٌ جدُّ عسير؛ فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة، ويخرّون للأذقان سُجّداً سجدات طويلة، وجباههم ثفنات من كثرة السجود. وكانوا لا يعرفون حدّاً لانتقاد غيرهم، واشتُهروا بوصفهم رجالاً أُولي شأن وقوّة في الدين. لكن وا أسفاه ! إذ كانوا مرضى القلوب، ضيّقي الأفكار، صغار العقول.

من هنا كان الاصطدام بتيّار التعمّق ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلاّ الإمام عليه السلام، وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزماً خاصّاً متميّزاً لم يقدر عليه سوى عليّ عليه السلام. وهذه الكلمة كلمته المشهورة التي نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها لذلك في حربه مع  الناكثين والقاسطين فإنّه ما قال في قتال هاتين الطائفتين: لم يكن ليجترئ عليها أحدٌ غيري، أو:  لولا أنا ما قوتل . . .، بيد أنّه قال ذلك في قتال الخوارج»[2] .

إن مواجهة التطرّف والتشدّد والغلو من أعظم التحدّيات أمام الأمّة، وها نحن نشاهد ذلك ونراه بين المسلمين، حيث ترفع رايات باسم الإسلام يمارس في ظلها الإرهاب والقتل والذبح وحزّ الرؤوس، ومع هذا نرى تفاعل مشاعر الناس معهم ولهم مؤيدون، ذلك لأن مثل هذه الرايات تدغدغ مشاعر الناس، وتنطلق من عنوان مقدّس بالنسبة إليهم. ولا شكّ إن مواجهة مثل هذا التطرّف هو التحدّي الأكبر الذي ينبغي أن يتحمله المعنيّون، سواء التطرّف في الميدان العمليّ (=الإرهاب) أو في الميدان الفكريّ كما في الحركات المتطرّفة فكريّاً؛ لأن التشدّد والتطرّف يمثّل انحرافاً خطيراً عن منهج الله عزّ اسمه، فإن الله حينما شرّع الدين أراد من الناس الالتزام به كما رسمه، أمّا المتشدّدون والمتطرّفون فيزيدون على ما شرّعه الله تعالى إمّا زيادة فكريّة أو زيادة في الممارسة والعمل، وما هذا إلا تقوّل على الله، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏[3] ، وما الغلو إلا الزيادة في الدين والتشدّد فيه ويعني الافتراء على الله.

مثال ذلك: حينما فرض الله تعالى الصلاة على الناس فقد جاءت فيها شروط وضوابط وعدد محدّد لفرائضها وركعاتها، ولابد من الالتزام بذلك، أمّا الزيادة فيها، وإدعاء إن هذه الزيادة هي أمر تشريعيّ، فهذا ليس إلا افتراء على المشرّع الديّان، نعم من حقّ الإنسان أن يصليّ ما يشاء من النوافل، لكن عليه أن لا يعطي صبغة التشريع الواجب لمثل هذه الصلوات؛ كما فرض الله الصوم أيضاً في إطار حدود وأوقات منضبطة أيضاً فلا ينبغي الإخلال فيها. لذلك حرّم الفقهاء صوم الصمت، بأن يعتبر الصمت عن الكلام جزءاً من الصوم، كما حرموا صوم الوصال، بإضافة صوم الليل إلى النهار، لان  ذلك زيادة على ما شرعه الله.

إن التشدّد على النفس ربما لا يحمل مؤونة زائدة ولا يؤثّر كثيراً على الوضع العام، لكن تسويق هذا التشدّد ومحاولة فرضه على الناس هو الكارثة الأكبر؛ ونلاحظ أن أدعياء التشدّد والإفراط الديني يحملون حملات الويل والثبور على من لم يلتزم بدعواتهم، فيصبح كافراً مشركاً زنديقاً، يبيحون دمه وعرضه وماله، وهنا تتمظهر خطورة التطرّف.

من هنا نجد إن علياً عليه السلام قدّم لنا درساً يطلب من الأمّة فيه عدم السكوت على حالات التطرّف والتشدّد، فإذا شاهدوا تيّاراً يشتغل تحت عنوان التعمّق والتشدّد في الدين ويركّز على مسألة على حساب المسائل الأخرى فهذا خطر كبير على الدين والأمّة، ولابد من الوقوف أمامه، والمشكلة إن هؤلاء يزايدون حتى على قادة الدين والأمّة؛ فبعضهم تتضخم لديه مسألة دينيّة ويرى في نفس الوقت بقية الأعلام والمراجع والمفكرّين لا يشعرون مثله بهذا التضخم المصطنع، فهنا تثور ثائرته، ويشنّ حملات شعواء عليهم، وهذا ما ابتلينا به نحن الشيعة في عصرنا الراهن، فنلاحظ ظهور شخصيات ليس لهم مكانة على المستوى العلمي الحوزويّ يجعلون أنفسهم حكماً في عدالة وعلميّة هذا المرجع من عدمها، وصلاحيّة هذا المفكّر من سقمها، وينال من هذا وذاك، وينتهك حرمات المجتمع ورموز الطائفة، بلا رقيب أو حسيب، وهذه الحالة تُعد طبيعيّة في عرف المتشدّدين.

ولعل مثال التبريّ من أعداء الله هو المثال الأبرز في محل حديثنا؛ فلا شكّ إن الدين الإسلاميّ حمل في جنباته ضرورة التبّري من أعداء الله، وعلى المسلم أن يمارس هذه المهمة ويعقد القلب عليها، لكن التبّري من أعداء الله ينبغي أن يكون منسجماً مع سياقات الدين الأخرى، وأن لا يطبّق بطريقة تسحق جميع المقاصد الدينيّة الأخرى، كما نلاحظه من قبل البعض؛ فالدين الذي يأمر بالتبريّ يأمر كذلك بالوحدة والألفة والانسجام، ورعاية المصالح، وحقن الدماء، ومراعاة سمعة الدين والمذهب، ولا ينبغي أن يتضخّم موضوع التبّري على حساب المواضيع الأخرى، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: «إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جوانبه»[4] ، ولا ينبغي التركيز على مسألة وإغفال بقيّة المسائل، أو التركيز على جانب وترك الجوانب الأخرى؛ فإن الدين منظومة متكاملة ولابد من أخذ جميعها بنظر الاعتبار حينما يتخذ موقفاً دينيّاً، وكل ما ذكرناه يُعدّ من مشاكل التطرّف الذي نعاني منه والذي تنتهك على أساسه الحرمات.

أن مواجهة المتطرفين تحمل خطورة وليست بإمكان كلّ أحد أن يتصدى لها؛ وذلك لأنهم يدغدغون مشاعر الناس وعواطفهم، فيصطفون خلفهم جرّاء العناوين التي يتحركون من خلالها، كحماية العقيدة، وحفظ الهوية المذهبية، والالتزام بالنص.

من هنا نلاحظ: عِظمْ الأجر الذي يناله العلماء الذين تصدّوا لموجات التطرّف والتشدّد ونالوا ما نالوا في سبيل ذلك؛ فإنهم في ركب عليّ عليه السلام فقد فقأوا عين الفتنة أو حاولوا فقأها.

وقد بدأت بذور نزعة التطرف والتعمق في الدين من عهد رسول الله ، فكانوا يزايدون في التدين حتى على رسول الله ، لذلك حذّر الأمة منهم، وتنبأ بتحولهم إلى تيار خطير على مستقبل الأمة.

فقد جاء في مصادر الحديث أنه: «أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " أَجَلْ ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ ؟ " ، قَالَ : لَمْ أَرَكَ عَدَلْتَ ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : " وَيْحَكَ ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ؟ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ : لا ، دَعُوهُ ؛ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ »[5] .

من هنا نجد أن النبيّ والأئمة واجهوا الغلو والتطرّف بقوّة، وتحدّثوا حول الغلو والتطرّف أكثر مما تكلّموا حول التقصير، فقد روي عن الإمام الصادق قوله: «الينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله»[6] ؛ وهذا يعني إن المغالي أخطر من المقصّر في حقهم عليهم السلام، بخلاف المعادلة السائدة في الوسط الشيعي، والذي تجتاحه حالة استنفار إذا  صدرت من احد كلمة أو فكرة، يستشف منها التشكيك في صحة رواية من روايات الفضائل والمعاجز والمصائب، بينما يتم التغاضي والسكوت عن طرح افكار الغلو والتشدد والتطرف.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: «احْذَرُوا عَلَى شَبَابِكُمْ الْغُلَاةَ لَا يُفْسِدُونَهُمْ، فَإِنَّ الْغُلَاةَ شَرُّ خَلْقِ اللَّه...»[7] ، وتركيز النصّ على الشباب لأنهم يعيشون حالة الحماس والاندفاع، ‏وحينما يأتي هؤلاء المتشدّدون ليطرحوا أفكاراً تتناغم مع اندفاع وحماس هذه الطبقة المجتمعيّة فلا شك بحصول التأثير عليها واستقطابها.

 

خطبة الجمعة بتاريخ 21/9/1435هـ الموافق 18/7/2014م.
[1]  بحار الأنوار: ج72، ص259.
[2]  الريشهري، محمد، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنّة والتأريخ: ج6، ص267.
[3]  سورة النساء، الآية: 171.
[4]  كنز العمال، ص 84، ح 5612.
[5]  تاريخ الطبري ج2 ص 360.
([6] ) بحار الانوار، ج25، ص265، ح6
[7]  الطوسي، الآمالي: ص650.