حركات العنف تجارب فاشلة

 

الرغبة الملحّة، والانفعال الشديد، قد يدفعان الانسان لعمل أو ممارسة تضرّه وتؤذيه.

 فقد تغري الإنسان بعض الأفعال والممارسات؛ لأنها تحقق له رغبة عاجلة، أو تشفي له غيظاً وخنقاً بالانتقام من خصم، أو تظهره بمظهر القوي الشجاع، لكنها لا تلبث أن ترديه في المهالك، وتصيبه بأفدح الأضرار والأخطار.

    من هنا تأتي ضرورة استحضار العقل، والتفكير في نتائج ومآلات أيّ عمل يريد الإنسان الإقدام عليه، كما روى الإمام محمد الباقر عن جدّه رسول الله ، أنه قال: (إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ خَيْراً أَوْ رُشْداً اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ يَكُ شَرّاً أَوْ غَيّاً تَرَكْتَهُ)[1].

    ومن أجلى المصاديق والشواهد للموارد التي يجب فيها التأمّل والتفكر والرجوع للعقل، وعدم الاندفاع تحت ضغوط الانفعال والحماس، مسألة استخدام العنف في العمل السياسي، وممارسته في مواجهة الحكومات والسلطات، من أجل تحقيق هدف أو مطلب.

    حيث تسعى بعض الحركات والجماعات السياسية، للضغط على السلطات في بلادها، عن طريق العنف، لإجبارها على التراجع وتقديم التنازلات، والاستجابة للمطالب الشعبية، وذلك بالقيام بعمليات الاغتيال والتصفية، لمسؤولي الدولة، ورجالات الأمن، أو الهجوم على المراكز الحكومية، أو التفجيرات وتخريب المصالح العامة.

   وتواجه الآن معظم البلدان العربية والإسلامية هذا التحدّي الخطير، حيث انتشرت حركات العنف المنتسبة للإسلام، وحولت الحياة في أوطانها جحيماً لا يطاق.

    ولسنا في معرض مناقشة أهداف ومطالب هذه الحركات، وإنها محقة أو باطلة، ولا في معرض التحليل للمبررات التي دفعتها للعنف، وهل هي مبررات قائمة أو مفتعلة؟

      بل ينحصر اهتمامنا في هذه المناقشة، على تقويم نتائج ومآلات هذه الحركات العنفية، هل استطاعت نقل أوطانها ومجتمعاتها لواقع أفضل، أم زادتها سوءًا ودمارًا؟

     وهل تمكنت هذه الحركات من تحقيق الأهداف التي وضعتها، والشعارات البراقة التي  رفعتها، كإقامة حكم الاسلام، وتطبيق العدالة والإصلاح، والتخلص من الهيمنة الاجنبية؟

  • قراءة تجارب العنف

     إنّ على من يتحمّس لهذا الخيار، أن يقرأ تجارب حركات العنف في العالمين العربي والإسلامي، ليرى هل كانت تجارب ناجحة أم فاشلة على الصعيد السّياسي؟

وقد تراجع بعض قيادات هذه الحركات فيما بعد عن توجّهات العنف، تحت ضغط ضربات الأنظمة لهم، وعجزهم عن فرض مطالبهم، حيث حكم على بعضهم بالإعدام، وقضى بعضهم سنوات طويلة في السجون، ونالوا أشدّ ألوان التعذيب والتنكيل، بينما هاجر البعض إلى المنفى.

    كما قام بعضهم بالمراجعة الفكرية والسياسية، ليعترف بخطأ الطريق الذي سلكوه، وسوء الخيار الذي أخذوا به، ونشرت مراجعاتهم عبر وسائل إعلامية ومن خلال كتب ومؤلفات.

وقد توالت موجات المراجعات منذ أن أطلقت الجماعة الإسلامية المصرية، مبادرتها لوقف العنف عام 1998، وأصدرت حتى اللحظة نيفًا وعشرين كتابًا تسير كلّها في اتجاه التحول من العمل العنفي إلى الدعوة السلمية، ومراجعات سيد إمام الشريف، المشهور بالدكتور فضل، التي بدأت عام 2008، وصدرت منها ثلاثة كتب حتى الآن، أولها وثيقة ترشيد العمل الجهادي، وثانيها “التعرية” وآخرها “الصراع في أفغانستان”.

وفي نفس الاتجاه تأتي مراجعات الجماعة الإسلامية الليببية المقاتلة، التي عنونتها بـ "دراسات تصحيحية" التي صدرت عام 2009، ومراجعات بعض قيادات الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر وترحيبهم بقانون الوئام المدني الذي أطلقه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عقب توليه السلطة في يوليو سنة 1999م.

    ويكفي التأمل فيما يجري اليوم على الساحة في أفغانستان والصومال والعراق وسوريا وليبيا، حيث لحق بهذه البلدان دمار كبير، وقتل فيها مئات الألوف من المواطنين، وهجر الملايين ولم يتحقق بعد شيء مما تريده هذه الحركات. فهل يتمنّى عاقل مثل هذه النتائج الفظيعة لبلده؟

      ونسمع الآن استغاثة بعض هذه الحركات بالمجتمع الدولي، أو الولايات المتحدة الأمريكية، لتقف معها في معركتها ضد هذا النظام أو ذاك، ويكررون عتابهم وأسفهم لخذلان المجتمع الدولي وأمريكا لهم، وهل يتوقعون أنّ الآخرين أحرص منهم على أوطانهم وشعوبهم؟ أم لا يعون اهتمام الدول الأخرى أولاً وقبل كلّ شيء بمصالحها وأطماعها؟

  • زعزعة الأمن وإرهاق المجتمع

    إنّ التاريخ السياسي المعاصر لمنطقتنا العربية والإسلامية، حافل بالتجارب الدامية المؤلمة لحركات العنف، إسلامية وغير إسلامية، التي تبرز بوضوح أنها لم تحقق مكسبًا يوازي الخسائر التى لحقت بها وبأوطانها ومجتمعاتها، بل إنّها مارست الانتحار السياسي، وألحقت بذاتها وبأوطانها ومجتمعاتها أفدح الخسائر والأضرار، ومن أسوأها ما يلي:

      1/ زعزعة الأمن والاستقرار وإرهاق كاهل المجتمع، فعنف الحركات تقابله إجراءات عنيفة من قبل الدولة، بدءاً من حواجز التفتيش، إلى المطاردات واقتحام المنازل، وتوسع حملات الاعتقال، وإصدار الأحكام القاسية كالإعدام وسنين السجن الطويلة، وهكذا يدخل المجتمع في دوامة العنف، ويصيب شرره المواطنين الأبرياء فتسفك الدماء، وتهتك الحرمات، وتضيع مكاسب الأوطان.

    وغالبًا ما يمارس المسلحون سلطتهم على المجتمع؛ لأنّ حمل السلاح ينتج غرورًا وطغيانًا، فيستهدفون من يخالفهم في الرأي والتوجّه، ويؤذون من لا يستجيب لطلباتهم، وهذا ما تعانيه المجتمعات التي تنشأ فيها عصابات ومليشيات مسلحة.

   كما أنّ الحركات العنفية غالبًا ما تتصارع وتتحارب فيما بينها كما يحصل الآن في سوريا وكما حصل في أفغانستان والصومال وغيرها، مما يجعل المجتمع ميدانًا للعنف على جبهات متعددة.

يقول الباحث المصري أحمد المسلماني في دراسة له نشرها موقع صحيفة "المصري اليوم"، تحت عنوان "الجهاد ضد الجهاد": (في باكستان وأفغانستان وفى سوريا والعراق.. وقف الإسلاميون ضد الإسلاميين.. قتل المجاهدون المجاهدين.. ووَصَفَتْ أطرافٌ جهادية أطرافًا جهادية أخرى بـ«الخوارج».

واليوم يعيش العالم العربي والإسلامي مشهدًا داميًا في «الحرب الأهلية الجهادية»: تنظيم «القاعدة» ضد تنظيم «داعش»، وشيوخ الجهاد القديم ضدَّ نجوم الجهاد الجديد، وحزب التحرير الإسلامي الذي قضى ستينَ عامًا يدعو للخلافة يعارض تنظيم داعش الذي أعلن الخلافة!

إنّ الصراعات والمزايدات بين الحركات الإسلامية «لا نهائية» وسوف يُصدم القارئ إذا حاول أن يعرف رأى الإسلاميين في الإسلاميين ورأى الجهاديين في الجهاديين.. كلّ فرقةٍ تهاجم غيرها.. وكلّ جماعةٍ تلعنُ أختها!

وتشير بعض الدراسات إلى أنّ حرب المجاهدين ضدّ المجاهدين [في أفغانستان] ما بين عامي 1992 و1996 قد قُتِل فيها أكثر من (50) ألف شخص، وجرى تدمير (70%) من مدينة كابول.. حتى جاءت حركة طالبان فأسقطت جميع الإسلاميين وأنهتْ حُكم المجاهدين!)[2].

  • التشويه والسقوط

    2/ تشويه السمعة والسقوط المعنوي، وخاصة في هذا العصر، حيث تنتظم الشعوب والمجتمعات ضمن رأي عام عالمي رافض للعنف والإرهاب.

  لذلك فإنّ هذه الحركات الإرهابية قد وجهت للإسلام والمسلمين أسوأ صفعة في التاريخ، بأن أصبح الإسلام متّهمًا بالإرهاب، وأصبح وجود المسلمين في أيّ دولة مثيرًا للقلق، وباعثًا للتوجّس، واتخذت معظم الدول إجراءات مشدّدة تجاه كلّ ما يرتبط بالإسلام والمسلمين، كإجراءات السّفر إلى تلك البلدان، وقيام المؤسّسات الإسلامية فيها، وحتى بعض المظاهر الإسلامية كالحجاب، بعد أن كان المسلمون محلّ ترحيب واحترام من قبل جميع الدول والمجتمعات.

   وعلى المستوى الداخلي هناك حالة نفور من الدين في بعض أواسط أبناء الأمة، وخاصة من عانى تأثيرات الممارسات الإرهابية، بل حصلت بعض موجات الإلحاد وإن كانت محدودة، لكنها مؤشّر خطير.

     أمّا فكرة الحكم الإسلامي وقيام دولة إسلامية، أو تطبيق الشريعة، وكلّ ما ينطوي ضمن عنوان الإسلام السياسي، فقد أصبح مرفوضًا في قطاع واسع من جماهير الأمة، بسبب هذه النماذج السيئة المنتسبة للدين، بعد أنْ كان أملاً وحلمًا.

   وهكذا فإنّ أيّ معارضة تحمل السلاح وتمارس العنف، فإنّها ستفقد القبول والتأييد من الرأي العام العالمي والمحلي، ومن خارج مجتمعها وداخله، حتى وإن كانت القضية التي تحملها عادلة مشروعة. وستعين على نفسها، وتعطي الفرصة للنظام الذي تعارضه بمحاصرتها، وتشويهها، والتعبئة ضدّها، والعمل على استئصالها.

    بل إنّ بعض الأنظمة قد تستدرج المعارضة وتدفعها للعنف، مما يسهل ويبرر قمعها والقضاء عليها.

   إنّ منهجية العمل السلمي لتحقيق الأهداف السياسية، ونيل المطالب الحقوقية هي المنهجية الأفضل والأسلم عقلاً وشرعًا، حتى وإن استلزمت وقتًا أطول، وكلّفت خسائر وتضحيات، لكن خسائرها لا تقاس بالخسائر الجسيمة لتوجّهات العنف على ممارسيه وعلى المجتمع والوطن.

  • فرص للتدخل الأجنبي

3/ غالبًا ما يكون بروز حركات العنف والإرهاب مبررًا وسببًا للتدخلات الخارجية، كما نرى الآن في سوريا والعراق وليبيا. حيث أتاحت هذه الجماعات المسلحة الفرصة للتدخل المباشر من قبل الأمريكيين والرّوس والأوربيين والدول الإقليمية النافذة. فالأنظمة تستعين بالدول والجهات الأجنبية، والحركات تضطر للارتباط ببعض الدول والجهات لتحصل على الدعم بالمال والسلاح والإعلام، وبذلك يصبح الوطن ساحة للصراع والنفوذ الدولي والإقليمي، على حساب سيادته واستقلاله ومصالحه التنموية.

   هذا ليس مجرّد تحليل أو افتراض، بل هو واقع يتجسّد أمامنا في عدد من الدول المحيطة بنا.

   صحيح أنّ العنف يزعج أيّ سلطة ونظام، وقد يحقق مكسبًا إعلاميًا آنياً، لكن ذلك لا يساوي ولا يوازي كلفته من الأثمان الباهظة، والخسائر الفادحة.

  • تضييع مكاسب المجتمع

    إنّ مجتمعنا في المنطقة راكم سمعة حسنة على المستوى الوطني، بمشاركته في بناء الوطن، ومسيرة التنمية، وبروز كفاءات علمية وإدارية وأدبية من أبنائه، احتلّت مكانة مرموقة حتى على المستوى العالمي.

واتّصف هذا المجتمع بالتسامح وقبول الآخر، وعُرف أبناؤه بالأمانة والإخلاص في أدائهم لوظائفهم ومهامهم، وبحسن الخلق في تعاملهم مع محيطهم الوطني. رغم أنّ هناك أطرافاً وجهات متشدّدة متعصبة، حاولت تهميش هذا المجتمع ومحاصرته من منطلقات طائفية، لكنه استطاع اختراق كثير من هذه المحاولات، وسجل حضورًا وسمعة طيبة لافتة.

    ولا نريد لمجتمعنا أن يخسر هذه المكاسب، وأن تتشوّه سمعته ببعض الممارسات العنفية الإرهابية، التي قد يقوم بها أفراد ضلّوا الطريق، ولعب بعقولهم الشيطان.

    من هنا نعلن شجبنا واستنكارنا لحادث الاعتداء على رجلي الأمن في القطيف صباح يوم الأحد 29 محرم 1438هـ الموافق 30 اكتوبر2016م الذي أودى بحياة أحدهما رحمه الله، وإصابة الآخر منّ الله عليه بالصحة والعافية. كما أدنّا ما سبقه من أحداث مشابهة.

     إننا يجب أن نحذّر ونكرّر التحذير، وأن ننشر الوعي في صفوف أبنائنا، حتى لا ينخدعوا بهذه التوجهات المنحرفة، صان الله مجتمعنا من هذا الوباء، وحمى الله بلادنا وبلاد المسلمين من كلّ شرّ وسوء.

* حديث الجمعة 4 صفر 1438ﻫ الموافق 4 نوفمبر 2016م.
[1] من لا يحضره الفقيه، ج 4 ص410، ح 5894.
[2] http://www.almasryalyoum.com/news/details/477548