الإنسان كائن مسؤول

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: الإنسان كائن مسؤول

قال زين العابدين عليّ بن الحسين في رسالة الحقوق: «وأمّا حقّ نفسك عليك فأنْ تستوفيَها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك حقّه وإلى سمعك حقّه، وإلى بصرك حقّه، وإلى يدك حقّها، وإلى رجلك حقّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقّه وتستعين بالله على ذلك»[1] .

لقد حمّل الله سبحانه وتعالى الإنسان مسؤوليات كبيرة وكلّفه الاضطلاع بها. ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى حين منح الإنسان نعمة الوجود، وجعل تحت تصرفه مختلف القدرات والإمكانات، فإنه سبحانه قد وضعه في موقع الاختبار، ليتحمّل المسؤولية تجاه وجوده، وتجاه ما منحه الله تعالى من قدرات، فالله سبحانه لم يخلق الإنسان عبثًا، وإنما خلقه كائنًا مسؤولًا، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[سورة المؤمنون، الآية: 115]. وذلك يشير إلى أن الإنسان إنما خلق ليتحمّل المسؤولية في هذه الحياة.

بالعقل نتحمّل المسؤوليات

إنّ مجال تشخيص المسؤولية المنوطة بالفرد هو العقل، فيما تنحرف بالإنسان رغباته وشهواته لصالح اللذات العاجلة، فالإنسان غالبًا ما يجد نفسه أمام مفترق طرق، بين مواقف تدفعه إليها شهواته، ومواقف أخرى يتبنّاها عقله، ويشير إليها وجدانه وإدراكه، وذلك لأن الشهوات والرغبات تمثل ضغوطًا كبيرة على الفرد، ولذلك نجده غالبًا ما ينزلق باتجاه الموقف المنبعث من الرغبات والشهوات.

من هنا جاءت الرسالات السماوية وبعث الله الأنبياء انتصارًا لموقف العقل، في مقابل ضغط الرغبات والشهوات على الإنسان. فالشرائع الإلهية متّسقة تمامًا مع العقل، بل إنّ هذه الشرائع إنما هي الوجه الآخر للعقل، يقول الإمام موسى الكاظم: «إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة. وأما الباطنة فالعقول»[2] ، وكلا الحجتين تقولان: أيّها الإنسان؛ لا تنسَ أنك كائن مسؤول، وأن عليك التصرف بمنتهى المسؤولية، وأنك ستحاسب أمام خالقك سبحانه وتعالى.

رسالة الحقوق تذكير بالمسؤولية

وقد لفت الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين إلى جملة من المسؤوليات المنوطة بالإنسان في رسالته المعروفة برسالة الحقوق. إنّ هذه الرسالة العظيمة التي تركها الإمام تلفت نظر الإنسان على نحو خاص إلى مسؤولياته في هذه الحياة، تجاه وجوده، وتجاه ما وهبه الله سبحانه، وما وضع تحت تصرفه من إمكانات وقدرات جسمانية. جعل سبحانه للإنسان حرية التصرف فيها لكن تحت طائلة المسؤولية. ومن ذلك المحافظة على سلامة هذه الأعضاء، فلا يجوز للإنسان شرعًا أن يُعرّض حياته للخطر، ولا أن يُعرّض عضوًا من أعضائه أو جهازًا من أجهزة جسمه للتلف، إذ ليس للإنسان الحرية المطلقة في التصرف في هذه الأعضاء بشكل يعرضها للتلف، هذا أولًا. أما ثانيًا، فالإنسان مسؤول عن حسن استخدامه لأجهزة وأعضاء جسمه، فلا ينبغي استخدامها في الموارد الخطأ، التي تضرّ بالإنسان نفسه، أو تضرّ بالآخرين.

لقد تناولت رسالة الحقوق، في جانب منها، وعلى نحو مركز الحقوق الجسمانية المنوطة بالإنسان. فهي توجه الفرد إلى أنّ كلّ عضو من أعضاء جسمه له حقوق عليه، وعليه أن يلتزم هذه الحقوق، تجاه سمعه وبصره وفرجه وبطنه وسائر أطرافه، وذلك ما يعني أنّ على المرء أن يتصرف مع أعضاء جسمه بمنتهى الوعي والمسؤولية، وضمن وثيقة وحقوق واضحة.

في رسالته العظيمة أورد الإمام زين العابدين الحقوق على نحو إجمالي تارة، ثم على نحو تفصيليّ مبيّنًا حقّ كلّ عضو بمفرده، تارة أخرى. فيقول: «وأما حقّ نفسك عليك»، وفي ذلك ذكر للحقوق الواجبة تجاه أصل وجود الانسان بشكل عام، «فأن تستوفيها في طاعة الله»، فالمرء مطالب أن يستوفي هذه الحياة في الطريق الصحيح، وطاعة الله هي الطريق الصحيح للإنسان، ثم يمضي في القول: «فتؤدي إلى لسانك حقّه، وإلى سمعك حقّه، وإلى بصرك حقّه، وإلى يدك حقّها، وإلى رجلك حقّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقّه، وتستعين بالله على ذلك»، وهنا إشارة إلى أنّ أداء هذه الحقوق ليس أمرًا يسيرًا، بل هو مهمة كبيرة تحتاج إلى الاستعانة بالله تعالى، ثم يتحدث عن حقّ كلّ عضو من هذه الأعضاء على نحو التفصيل.

اللا مبالاة والإهمال نقيض المسؤولية

نحن في أمسّ الحاجة إلى قراءة هذه الرسالة العظيمة، والتدبر في مضامينها، وأن نجدّد العهد من خلالها مع أنفسنا في تحمل المسؤولية تجاه وجودنا في هذه الحياة. وأن نأخذ من ذلك درسًا وعبرة في التصرف في سائر ما تحت يدنا من إمكانات. ذلك أن بعض الناس يتصرفون مع الإمكانات التي تحت أيديهم دون اهتمام وبلا مبالاة. فالله سبحانه رزق الإنسان المال والمنزل والمركب ومختلف أنواع الأرزاق والنعم، وأقلّ ما ينبغي للمرء هو التصرف بمسؤولية تجاه هذه النعم، بالمحافظة عليها أولًا، والنأي عن التبذير والإسراف فيها ثانيًا، دون اعتداد وزعم بأنها أموال خاصة، فيبيح لنفسه الإسراف والتبذير فيها، وإنما ينبغي العمل على حمايتها وصيانتها.

هنا تجدر الإشارة، إلى ما يقع فيه بعض الناس من إهمال في تفقد وصيانة ممتلكاتهم. فقد يكون لدى أحدهم بيت أو سيارة، فلا يعتني بصيانة منزله أو سيارته، ونرى لدى هذا الصنف من الناس الإهمال باديًا في تجاهل الأعطال التي تحيط بممتلكاته من كلّ جانب، وهذا هو عين اللامبالاة وقلة الاهتمام بالنعم. في مقابل ما نراه لدى البعض الآخر من الناس من انتظام في تفقد وصيانة أشيائهم وممتلكاتهم، عبر تلمّس مواضع الخلل، وأماكن التلف فيها. ولربما لمس كثيرون ممن عاشوا في مجتمعات أخرى، كيف أنّ جيرانهم غالبًا يهتمون شخصيًّا، بالعناية بحدائق منازلهم وصيانة بيوتهم ومركباتهم، أو يلجؤون إلى شركات الصيانة للقيام بذلك الدور.

إنّ أسوأ تداعيات حالة الإهمال في عناية المرء بما حباه الله من النعم، هو انسحاب حالة الإهمال هذه على مختلف شؤون حياته. فلا يعود يهتم بصحته على غرار عدم اهتمامه بممتلكاته، وهذا خلاف ما هو مطلوب من الإنسان، فالإنسان كائن مسؤول، ينبغي أن يتحمّل المسؤولية كاملة تجاه نفسه وكلّ ما تحت يده وتصرفه.

على الإنسان أن يربّيَ نفسه على تحمل المسؤولية تجاه كلّ ما هو تحت رعايته. وإلى هذا يشير الحديث الشريف عن النبي الأكرم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»[3] ، فالمرء راعٍ على أسرته ومنزله وسائر ممتلكاته، ولأن الإنسان كائن مسؤول، فلا ينبغي بأيِّ حالٍ التساهل والتهاون تجاه هذه المسؤولية، نتيجة المماطلة والتسويف وسرد مختلف الأعذار الفارغة.

إنّ مشكلة الإهمال بالذات هي ما يعاني منها الفرد في المجتمعات المتخلفة، وما نشأت حالة التخلف في هذه المجتمعات في أحد أوجهها، إلّا نتيجة التراكم المضطرد في حالات الإهمال والتقاعس لدى مجموع الأفراد في هذه المجتمعات، وانعدام تحمّل المسؤولية، وقلة اهتمام الأفراد بأنفسهم وبما حولهم.

 

الخطبة الثانية: الظلم المنزلي أفحش الظلم

ورد عن أبي جعفر محمد الباقر قال: «لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله»[4] .

ثمة وصيّة أخلاقية عظيمة أولاها الدّين قدرًا كبيرًا من الأهمية، وهي تلك المتعلقة بالتحذير من ظلم الضعفاء من الناس، وخصوصًا النساء والأطفال، لضعفهم وقلة حيلتهم. وقد كانت آخر وصية أوصى بها الإمام زين العابدين ولدَه الإمام الباقر جاء فيها: «يا بني، إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلّا الله». ولا بُدّ أن لهذه الوصية عند أئمة أهل البيت خصوصية معينة، لجهة عناية كلٍّ منهم بتلقينها للإمام الذي يليه في اللحظات الأخيرة التي يُودّع فيها الدنيا.

لقد حبا الله سبحانه الناس إجمالًا القدرة على الدفاع عن أنفسهم، والانتصار لحقوقهم. وقد ورد في الآية الكريمة ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ[سورة البقرة، الآية: 251]، ومن فضل الله تعالى أن منح الناس القدرات والإمكانات التي يحمون بها ذواتهم، ويدافعون بها عن حقوقهم، وقد شرّع لهم سبحانه الدفاع عن ذواتهم، فقال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ[سورة البقرة، الآية: 194].

لا أسوأ من ظلم الضعيف

لكن هناك فئة من الناس ـ ولأسباب مختلفة ـ ليست لها القدرة على الدفاع عن نفسها. فقد يحصل أن يمنح البعض نفسه الحقّ في الاعتداء على حقوق الغير، نتيجة اختلال في موازين القوة، في الوقت الذي يعجز فيه الطرف المقابل لضعفه وقلة حيلته، عن الدفاع عن نفسه، أمام هذا الظلم والعسف، وهذا تحديدًا ما يُغري الظالمين على المبالغة في ظلم الآخرين. إن ارتكاب الظلم بحدِّ ذاته عمل قبيح، ويكون أشدّ قبحًا إذا ارتكب بحقّ الضعفاء من الناس.

من هنا نجد في النصوص الدينية الوعيد الإلهي لهؤلاء الظلمة، بالانتقام من ظلمهم للضعفاء المظلومين، الذين لم يكن لهم حيلة في الدفاع عن أنفسهم. «إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلّا الله»، وروي عن النبي الأكرم أنه قال: «إنّ العبد إذا ظلم فلم ينتصر، ولم يكن له من ينصره ورفع طرفه إلى السماء، فدعا الله، قال الله: لبيك أنا أنصرك عاجلًا وآجلًا»[5] ، كما ورد في نصٍّ آخر عنه: «إنّ لله يوم ينتصف فيه للمظلوم من الظالم»[6] ، وعنه حاكيًا عن الله تعالى: «لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم، ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم ولأحدٍ من المسلمين عنده مظلمة حتى يأخذها منه»[7]  فهناك انتقام إلهيّ في الآخرة وانتقام في الدنيا، ولربما أوقع الله الانتقامين على الظالم الذي يمارس ظلمه على الناس. وعنه: «اشتد غضب الله على من ظلم من لا يجد ناصرًا غير الله»[8] . وسئل عليّ: أيُّ ذنبٍ أعجل عقوبة لصاحبه؟ فقال: «من ظلم من لا ناصر له إلّا الله»[9] . وعن الإمام الصادق: «ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لا يجد صاحبها عليها عونًا إلّا الله عزّ وجلّ»[10] .

هناك مصداقان لظلم الضعفاء تتحدث عنهما النصوص الدينية، هما: المصداق العام الذي ينطبق على ظلم الشعوب المقهورة، والمصداق الخاصّ هو العنف الأسري. والأخير هو ما يرتكبه الأفراد على نحو شخصيٍّ تجاه الأضعف منهم داخل المنزل وبين أفراد الأسرة.

الشعوب المقهورة

وينطبق المصداق العام لظلم الضعفاء، على ظلم واضطهاد الحكام المتجبرين للشعوب. وعلى الأخصّ حين تواجه تلك الشعوب التجاهل من قبل الرأي العام العالمي، سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الرأي العام العالمي ليس منصفًا باستمرار، ولاعتبارات سياسية ومصالح حيوية واختلال ميزان القوى، يجري غضّ الطرف عن ظلامات بعض الشعوب. لذلك نجد ماثلًا أمامنا كيف تعاني بعض الشعوب من الظلم الكبير الواقع عليها من حكوماتها، دون أن يناصرها أو يدافع عنها أحد.

إنّ على هذه الشعوب أن تعلم أن الله تعالى سينتصر لها، وأنّ عليها أن تثق بنفسها على نحو أكبر، وألّا يعتريها الانكسار في داخلها؛ لأنّ هذا الظلم الممارس بحقّها لا يمكن أن يدوم، وفي المقابل عليها أن تستنفر طاقتها للانتصار لحقوقها والانتقام من ظالميها، حتى مع اختلال موازين القوى لغير صالحها.

ونذكر في هذا السّياق معاناة شعوب ثلاثة، هي: الشعب العراقي، والشعب الفلسطيني، وأقلّية الروهينغا المسلمة في بورما. فلقد عاث حزب البعث العراقي وعلى رأسه الطاغية المقبور صدام حسين في الشعب فسادًا وظلمًا وجورًا طوال ثلاثة عقود. كم قتل من الناس، وكم فتك بعوائل وأسرٍ علمية شريفة، وكم مارس الظلم والجور، في حين كان العالم ساكتًا عن ظلمه وجوره، بل كانوا يصفّقون له، وكان يعتبر زعيمًا بطلًا في أعين الكثيرين، لكن رأينا ورأى العالم كيف انتقم الله من هذا الطّاغية شرّ انتقام.

وعلى غرار ذلك ما يجري من تجاهل عالمي لمأساة الشعب الفلسطيني. خصوصًا في ظلّ المحاباة الدولية لإسرائيل، التي تمارس عدوانها على هذا الشعب، وتقضم المزيد من أراضيه المحتلة، من خلال زرع المستوطنات، وهدم المنازل، وتجريف المزارع، في ظلّ تواطئ القوى الكبرى مع هذا الكيان الغاصب. لقد ناضل الشعب الفلسطيني طويلًا، وقدم من دماء أبنائه الكثير، فيما لا تزال السجون الإسرائيلية تعجّ بالمعتقلين الفلسطينيين، الذين مرّت عليهم سنوات طوال، ويبقى أن على هذا الشعب ألّا يفقد الثقة بذاته، وأن يُبقي معنوياته عالية، ذلك أنّ الله تعالى قد وعد جميع المظلومين بأن ينتصر لهم، عاجلًا أم آجلًا.

وينسحب الأمر ذاته على الأقلّية المسلمة في دولة بورما والمعروفة بأقلية الروهينغا. هذه الأقلّية المسلمة التي تتعرض منذ سنوات إلى حملات الإبادة المنظمة، والتهجير القسري، دون أن يلتفت لمعاناتها أحدٌ في هذا العالم، سيما والأمة الإسلامية ليست في مستوى من الاستعداد بحيث تدافع عن هذا الشعب المظلوم، فيما القوى الدولية ليست لها مصالح تدفعها للتدخل أو الاهتمام بتلك المنطقة، بل الحاصل أنّ هناك تواطؤًا دوليًّا مع ما يجري هناك، فيما عدا بعض بيانات الإدانة الخجولة. غير أنّ ثقتنا وإيماننا المطلق، هو أن الله سبحانه وتعالى لن يخلف وعده، وسينتقم لجميع المظلومين، إنْ عاجلًا أم آجلًا.

وعلى الشعوب التي تعاني هيمنة وظلم الحكومات الاستبدادية ألّا يتسرّب إليها الانكسار أو اليأس والهزيمة. ذلك أنّ حركة التاريخ تسير مع حقّ الشعوب وتحرّرها من عالم الاستبداد والظلم.

العنف الأسري

أما المصداق الخاصّ للظلم، فهو العنف الأسريّ. وهو ما ينطبق على الأوضاع الشخصية للأفراد، وجنوحهم لظلم الأضعف منهم داخل المنزل، وبين أفراد الأسرة أو الخدم. فهذا النوع من الظلم، هو الآخر مصداق جليّ لظلم الضعيف، وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلّا الله.

وقد بلغ من أهمية هذا الموضوع أنْ حدّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يومًا لمناهضة العنف ضد المرأة، وهو الخامس والعشرين من نوفمبر من كلّ عام، استشعارًا لأهمية هذه المشكلة وانعكاساتها المدمّرة على النساء والأطفال في مختلف دول العالم. إذْ إنّ ضحايا هذا العنف ربما كانوا أطفالًا صغارًا ممن أودعهم الله أمانة عند أبويهم، الذين يفترض بهم حمايتهم، وتنشئتهم، والاهتمام بهم، غير أنّ ما يجري أحيانًا هو العكس تمامًا، حيث حالات الظلم والعدوان، فمن لهذا الطفل الضعيف الذي يتعرّض للظلم داخل أسرته؟ ومن للمرأة التي تُظلم على يد زوجها؟ وخاصة إذا كانت الأعراف والتقاليد تقف إلى جانب الزوج، ويزيد من ذلك سوءًا غياب القوانين التي تحمي النساء والأطفال من مثل هذا العنف والعدوان. كما ينطبق ذلك على خدم المنازل الذين يعيشون حالة من الضعف ويقع عليهم ظلم كبير، في كثير من الأحيان. من هنا يعتبر العنف الأسري هو الأكثر قسوة على الضحايا؛ لأنّ هذا العنف صادر عن الجهة التي يفترض بها توفير الرعاية لهؤلاء الضحايا، فإذا هي تتحول إلى مصدر شقاء لهم.

قوانين الحماية ضد العنف الأسري

ولحسن الحظ فإنّ البشرية شرعت في وضع قوانين الحماية ضد العنف الأسري. فقد سنّت بلدان كثيرة قوانين صارمة ضد العنف الأسري، تنتصر للضعفاء من النساء والأطفال، الذين يُظلمون ويُستضعفون داخل أسرهم، وفي الحضن الذي يجب أن يوفر لهم الرعاية والشفقة والحنان. ومن المناسب التنويه هنا، إلى أنّ بلادنا بدأت مؤخرًا في وضع قانون للحماية من العنف الأسري، مكون من 17 مادة، وبضمنها عقوبة الحبس والغرامة على مرتكبي العنف الجسدي والنفسي داخل الأسرة.

نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى نشر الوعي والثقافة العامة في أوساط المجتمع، حتى يرتدع الناس عن ظلم بعضهم بعضًا، خاصة تجاه الضعفاء منهم. إنّ من المؤسف أن نجد هذه الممارسات الظالمة بحقّ الضعفاء في مجتمعات إسلامية محافظة!. وفي هذا الشأن يذكر تقرير صادر عن وزارة العدل السعودية، أن المحاكم العامة في المملكة تلقت العام الماضي 454 قضية عنف ضد المرأة[11] ، وورد عن مستشار البرامج الاجتماعية في الوزارة أنّ هناك حالات عنف كثيرة قد تبقى داخل المنازل ولا تصل للقضاء، وأنّ ما يصل إلى أروقة المحاكم هو الشيء القليل، وسبب ذلك هو قلة الحيلة لدى ضحايا العنف من النساء والأطفال، علاوة على ما ينتابهم من مخاوف اجتماعية إزاء تشويه السمعة، والتعرض للتشهير، والاتهام بنشر غسيل منازلهم، فيتحملون نتيجة ذلك ما يتعرضون له من ظلم داخل المنزل.

إنّ من المهم أن يدرك مرتكبو العنف الأسري ضد الضعفاء من النساء والأطفال، أن الله تعالى لهم بالمرصاد. فهذا الأب أو الأم، الزوج أو الزوجة، اللذان يمارس أحدهما الظلم على الآخر، أو تجاه الأطفال، ينبغي أن يدركوا أن الله سبحانه وتعالى يتوعّدهم بالانتقام، فهذا الطفل المعنّف لا يستطيع أن ينتصر لنفسه، ولكن الله تعالى ينتصر له، وينتقم من ظالميه. ينبغي أن يفهم الجميع أن مجرد رفع الصوت على نحو مخيف في وجه هؤلاء الضعفاء هو أمر يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة، فضلًا عن سائر أنواع العنف!.

من هنا، فإنّ على المرء أن يتقي الله في تعامله مع زوجته وأبنائه، وأن يضع في اعتباره دائمًا أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه ليس في يوم القيامة فحسب، وإنما قد تبدأ عواقب الظلم الأسري من داخل القبر وفي عالم البرزخ، وفق ما تشير له بعض النصوص، فقد روي عن النبي الأكرم حينما شيّع أحد أصحابه، وتفاءل له المسلمون بالجنة، حتى قالت أمّه: يا سعد، هنيئًا لك الجنة، فخاطبها: «يا أمّ سعد، مَهْ! لا تجزمي على ربك، فإن سعدًا قد أصابته ضمّة»، أي ضغطة في قبره، وأوضح سبب هذه الضمّة «إنّه كان في خلقه مع أهله سوء»[12] .

*خطبتي الجمعة 26 محرم 1435ﻫ الموافق30 نوفمبر 2013م
[1]الحسن بن علي بن شعبة الحراني. تحف العقول، الطبعة الخامسة 1974م، (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات)، ص185.
[2]ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص٣٨٦، وصية الإمام الكاظم لهشام.
[3]صحيح البخاري، ج ١ص213، حديث 893.

[4]مُحَمَّد بن يعقوب الكُلَيْني، الكافي، ج2، ص331، حديث 5.

[5]كنز العمال، ج ٣ ص٥٠٧، حديث 7684.
[6]بحار الأنوار، ج ٢٨ ص٧٨، حديث 38.
[7]الكافي، ج ٨ ص١٠٦.
[8]كنز العمال، ج ٣ ص500، حديث 7605.
[9]الاختصاص، الشيخ المفيد، ص٢٣٤.
[10]وسائل الشيعة، ج ١٦ص٤٦، باب تحريم الظلم، حديث 1.
[11]صحيفة البلاد السعودية الصادرة بتاريخ 21 شوال 1434ﻫ.
[12]بحار الأنوار، ج ٢٢ ص١٠٧، حديث 67.