التضجّر والتذمّر مرضٌ فتاك

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: التضجّر والتذمّر مرضٌ فتاك

عن النبي أنه قال: «يا علي! من استولى عليه الضّجر رحلت عنه الراحة»[1]  .

النفس عرضة للإصابة بالمرض، تمامًا كما يتعرض الجسم للأمراض. بل إن بعض أمراض النفس أشدّ خطرًا على الإنسان من كثير من أمراض الجسم. ومن تلك الأمراض التي تصيب النفس، مرض التضجر والتذمر. والضجر في معناه اللغوي هو القلق والشعور بالغمّ بسبب ضيق النفس، وعادة ما تعتري الإنسان حالة الضيق نتيجة مواجهته مشكلة من نوع ما. وقد درج العرب على وصف المكان الضيق، بالمكان الضجر. إنّ من الطبيعي أن يواجه الإنسان في حياته بعض المشاكل المزعجة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يستجيب لهذه الحالات بالتضجر والتبرم والتذمر، بحيث يبقى أسير هذه الحالة، فحين يسمح الإنسان باستيلاء هذه الحالة على نفسه، فقد تصبح عادة عنده، والأسوأ من ذلك أن تتحول إلى مرض مزمن لديه، فيصاب حينها بالضجر نتيجة أبسط المواقف التي لا تستحق أن يتضجر منها الإنسان، أو يبدي التذمر تجاهها.

تنمية حال الضجر

إنّ هناك من الناس من يرعى وينّمي حالة الضجر في نفسه!. فترى الواحد من هؤلاء بالغ التضجر والانزعاج والتشكي والتذمر، وهذه حالة تكاد تكون شائعة عند كثير من الناس تجاه تصرفات الأطفال مثلًا، فمن طبيعة الطفل البكاء والصراخ، واللعب والعبث بكل ما حوله، غير أنّ بعض الآباء لا يتحملون من أطفالهم هذه الحالة، فتجدهم شديدي التضجر منها، وهذا ما يقودهم إلى التوتر، ويدفعهم إلى إبداء القسوة تجاه أطفالهم أحيانًا. والحال أن هذه حالة طبيعية عند الأطفال، ولا ينبغي أن تضيق نفوسنا بها، حتى إنّ هناك نصوصًا دينية تشير إلى أن بكاء الأطفال هو نوع من الدعاء والاستغفار للوالدين، وبذلك يثيب الله سبحانه وتعالى الوالدين بالمغفرة والثواب الجزيل نظير تحمّلهما وصبرهما على أطفالهما.

وقد تنسحب حالة التوتر والضجر هذه حتى إزاء أبسط المواقف اليومية، عند إشارة المرور مثلًا، ومع تأخر انطلاق السيارة التي أمامنا عند اشتعال الإشارة الخضراء!.

وهكذا ينسحب الأمر على مواقف عديدة من قبيل طول الانتظار للعائلة مثلًا، أو لوجبة طعام من مطعم، فترى الواحد من هؤلاء يغلي في داخله من شدة الضجر. وهذا بالضبط هو ما نصفه بتنمية حالة الضجر في النفوس.

سلبيات وأضرار

حقيقة الأمر، أنّ هناك أخطارًا ومضاعفات مرضية لنمو حالة الضجر والتذمّر عند الإنسان.

ومن أبرز تلك المضاعفات إيذاء النفس، لذلك جاء في وصية النبي الأكرم لعليّ: «يا عليّ، من استولى عليه الضجر رحلت عنه الراحة»، فاستيلاء الضجر هو أمر مساوٍ تماما لذهاب الراحة بحسب الوصية النبوية.

إنّ قضايا الحياة ليست دائمًا طوع يدي الإنسان، وبذلك لا يستحق الأمر أن يؤذي الإنسان نفسه ويحرق أعصابه، ويعيش التشنج والتوتر. ومما يشار إليه في هذا السياق ظهور دراسة علمية عام 2010 أثبت من خلالها الباحثون أن أولئك الذين يشعرون بالضجر والضيق باستمرار، هم أكثر عرضة للوفاة بنسبة الضعف، قياسًا على الآخرين الذين يتحلّون بالهدوء وبرودة الأعصاب في التعامل مع مختلف المواقف، وأكدت الدراسة التي أجريت على سبعة آلاف حالة واستغرقت 25 عامًا، أن معظم الذين يعانون من الملل والضجر والضيق كانت أعمارهم أقصر وحالتهم الصحية أسوأ، سيما لناحية الإصابة بأمراض القلب[2]  .

ومن مضاعفات حالة الضجر، حرمان الإنسان من لذة الاستمتاع بالحياة. فالإنسان المتضجر دائمًا لا يستمتع بحياته، فهو باستمرار يشعر بالأذى والضيق والألم، ومثل هذه الحالة تجعل من مجرد الخروج القصير للاستمتاع مع العائلة عند البعض سببًا إضافيًّا للانزعاج والضيق، نتيجة استيلاء حالة الضجر عليه لأسباب مختلفة، ربما بسبب الانتظار القصير عند إشارة المرور، أو محطة الوقود، أو المطعم!، وينسحب الأمر على بعض المسافرين المتضجرين أيضًا، علمًا بأن غاية سفرهم من حيث الأصل كانت بغرض الاستمتاع!، فإذا بهم يحرقون أعصابهم وأعصاب من حولهم، من هنا يفقد أمثال هؤلاء المتذمّرون حالة الاستمتاع بمباهج الحياة.

ويحضرني في هذا الصدد ما رأيته من أحد الاخوان، وقد كان غارقًا في المشاغل المتعلقة بتعمير منزله الجديد، بشكل جعله يعدّد مختلف المصاعب التي تواجهه مع البناء، بدءًا من مشاكله مع مقاول البناء، وليس انتهاءً بأسعار مواد البناء، والحال أن هذا الأخ كان يفترض به التحمل، بل الاستمتاع بما رزقه الله ومكنه من امتلاك أرض، والشروع في بناء منزل، سيمّا وأن تلك المشاكل التي يسردها هي في أغلبها أمور طبيعية جدًّا، ولا تستحقّ أن يُتلف الإنسان أعصابه بسببها!.

والغريب أن كثيرًا من الناس يفسدون على أنفسهم فرص الاستمتاع بمختلف شؤون حياتهم ومناسباتهم، نتيجة انفلات اعصابهم واستيلاء حالة التذمر والضجر عليهم. ومما يروى عن الإمام الرضا أنه قال: «قال أبي لبعض ولده، إيّاك والكسل والضّجر، فإنهما يمنعانك من حظّك في الدنيا والآخرة»[3]  .

أما ثالث مضاعفات التضجر، فهي تثبيط الإنسان عن الحركة والإنجاز. فالمبتلى بحالة التذمّر والضجر يشعر بالرهبة باستمرار من خوض التجارب والأعمال، وبذلك تصبح حالة التضجر عنده سببًا لتقليل فاعليته. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «إيّاك وخصلتين: الضّجر والكسل، فإنك إنْ ضجرت لم تصبر على حقّ، وإن كسلت لم تؤدِّ حقًّا»[4]  .

وأخيرًا، فإنّ حالة التضجر غالبًا ما تدفع الإنسان لاتخاذ مواقف وردود أفعال سيئة تجاه الآخرين. وبذلك تكون تداعيات هذا الأمر أكثر سوءًا وسلبية.

مشروع المعالجة والخلاص

ولعلّ أول سبل العلاج لحالة التضجر والتذمّر عند الإنسان هو التحلي بالنظرة الواقعية للأمور. فمن الضروري أن يجري المرء التقدير الصحيح لمختلف المواقف، كلٌّ بقدره، فلكلّ مسألة أو قضية امتداداتها الطبيعية ومشاكلها المتوقعة، ويؤدي إدراك هذه البدهية للدخول في مختلف الأعمال مع الإدراك المسبق لطبيعة المشاكل المحيطة بالأمر، سواءً ارتبط ذلك بالدخول في مشروع كبير، أو مواجهة التزام صغير، أو حتى مجرّد مراجعة لإدارة حكومية.

إنّ التقدير المسبق، والفهم الواقعي للأمور، يجعل المرء، بطبيعة الحال، أكثر تقبّلًا ومرونة في التعاطي مع المشاكل المحيطة.

وعلى النقيض من ذلك إذا رسم الإنسان أبراجًا من الأوهام النرجسية، إزاء مختلف الأمور المزمع خوضها، فهو بذلك يقدم على الارتطام بعقبات وحواجز لم تكن في حسبانه، عندها سيكون هو الملام نتيجة سوء التقدير عنده!. إنّ النظر للأمور بواقعية يساعد الإنسان على تجاوز حالة الضجر.

والأمر الثاني من سُبُل العلاج لحالة التضجر والتذمر يتمثل في تنمية حالة التحمل عند مواجهة مختلف الظروف. فمن المطلوب باستمرار أن يدرّب الإنسان نفسه ويُعوّدها التحمل والصبر، في مختلف الظروف، وهناك في هذا الصدد جملة من النصوص الدينية التي تأمر الإنسان بالتصبّر والتحلّم، فقد ورد عن أمير المؤمنين قوله: «إنْ لم تكن حليمًا فتحلّم، فإنه قلّ من تشبّه بقوم إلّا أوشك أن يكون منهم»[5]  ، وهذه إشارة إلى إمكانية أن يُغيّر الإنسان طبيعته من خلال المران والتدرّب، بخلاف ما يدّعيه الكثيرون الذين يُبرّرون انفلات أعصابهم، بأنّ هذه هي طبيعتهم!. فالمطلوب أن يتحمّل الإنسان، وأن يُدرّب نفسه، وينمّي في ذاته طبيعة التحمّل، حتى ينأى بنفسه عن حالة التضجر والتذمر الدائمة.

 والأمر الأخير، من سبل العلاج لحالة التضجر والتذمّر، هو إيجاد البرامج البديلة والمساعدة. ومن ذلك ما درج عليه الناس في مجتمعات كثيرة، من حمل الكتب معهم لتمضية أوقاتهم عند لحظات الانتظار، سواء كان ذلك في انتظار الدخول على الطبيب، أو في انتظار الدور في محلّ الحلاقة، أو في انتظار خروج العائلة، فكلّ هذه الظروف متوقعة، لذلك كان من المناسب أن يحسب الإنسان لها حسابًا، ويعدّ لنفسه بديلًا يصرف عنه الملل والضجر في لحظات الانتظار تلك، وقد وفرت الأجهزة الإلكترونية الحديثة كالآيباد والجوال وغيره إمكانات واسعة لتمضية الوقت فيما هو مفيد. وفي هذا السياق ثمة روايات كثيرة تأمر بالانشغال بذكر الله سبحانه وتعالى في لحظات الفراغ، وذلك إدراكًا للشارع المقدّس لخطورة الإصابة بحالة التضجر والتذمر على نفس الإنسان. من هنا، كان لزامًا أن يضع الإنسان لنفسه برامج بديلة مفيدة تساعده على امتصاص حالة التضجر التي ربما نكدت عليه حياته.

 

الخطبة الثانية: الطوائف الدينية والاحترام المتبادل

ورد عن أمير المؤمنين علي في وصية لولده الحسن: «يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَلَا تَقُلْ مَا لا تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَلَا تَقُلْ مَا لا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ» [6] .

إنّ مبدأ حفظ الكرامة وحماية المشاعر هو أمر حاكم على صعيد الأفراد كما الجماعات والطوائف. فالأديان إجمالًا هي نزعة وجدانية عند جميع البشر، الذين قادهم وجدانهم وتفكيرهم، إلى اعتناق عقيدة أو مبدأ يربطهم بقدرة غيبية من خارج عالمهم المادي المحسوس، وذلك من خلال البحث في الأسئلة الكبرى حول سرّ الخلق والوجود، ودواعيه ومبرراته ومن ثم واجباتهم تجاه الخالق، وصولًا إلى مآلات الخلق، وتتحول مجموع الإجابات عن هذه الأسئلة إلى ما يمكن أن يطلق عليه دين عند كلّ جماعة من الجماعات. بطبيعة الحال، هناك الدين الحقّ وهو الإسلام كما نعتقد نحن المسلمون، إلّا أنّ هناك في العالم ما لا يُحصى من الأديان والمذاهب والطوائف الدينية، وكلّ طائفة من هذه الطوائف لديها اعتقاد راسخ بأنها على الدين والمذهب الحقّ. من هنا يأتي السؤال عن كيفية التعامل بين هذه الطوائف الدينية؟

لعلّ من أبرز المشكلات التي تواجه الأفراد والجماعات على حدٍّ سواء، هو الانسياق خلف تبرير العدوان الذي يرتكبونه بحقّ الآخرين. فالبعض يدّعي لنفسه التميز، ويعطي لنفسه الحقّ في الإساءة للآخرين تعسّفًا، إلّا أنه يرفض في الوقت عينه أن يتصرّف الآخرون معه على ذات المنوال، وهذا ما يُعدّ دلالة الجهل، وغياب الإنصاف، فالإنسان العاقل، ينبغي أن يعرف أن عليه أن يحفظ حقوق الآخرين حتى يحفظ الآخرون حقوقه، فالاعتداء على الغير سيعطي المعتدى عليه الحقّ في ردّ الاعتداء، وهذا أمر مشروع؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ[سورة البقرة، الآية: 194].

وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أَمَّهُ»[7]  ، ذلك لأنّ طبيعة التشاتم بين الأفراد تقود إلى النيل من آباء وأسلاف بعضهم بعضًا، وبهذا يقدّم التوجيه النبوي سبيلًا نموذجيًّا لكيفية حفظ وحماية الإنسان لمشاعره وكرامته الشخصية، من خلال حماية كرامة الآخرين ومشاعرهم.

أحقّية المعتقد لا تبرّر العدوان

إنّ من الخطأ الفادح أن يقود اعتقاد جماعة ما بحقانية العقيدة الخاصة بهم وبطلان عقائد الآخرين، إلى العدوان وممارسة الإكراه الديني بحقّ الناس. فهذه النزعة الخاطئة لدى البعض في ادّعاء الحقّ المطلق، تدفعهم لممارسة الإكراه وفرض العقيدة الخاصة بهم فرضًا على الآخرين، وذلك بخلاف التعليمات الإلهية في نبذ الإكراه الديني حيث يقول عزّ وجلّ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [سورة البقرة، الآية: 256]، ويقول سبحانه في آية أخرى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 99] وهذا ما يُقرّر عدم جواز فرض الدين والمعتقد على الآخرين.

إلا أنّ هناك مع ذلك مشكلة أخرى تتفرع عن النزعة والشعور بالحقانية الدينية المطلقة، وهي ما يمكن أن نصفها بمشكلة التسلّط على الآخرين طوائف واتجاهات، فأصحاب هذه النزعة التسلطية تذهب بهم بعيدًا في ممارسة التسلط، ومصادرة حقوق الآخرين، تحت عناوين الأحقيّة الدينية، والزعم بفساد عقائد الآخرين.

 وبعد أن عاشت البشرية صراعًا دينيًّا مريرًا بين أتباع الأديان والمذاهب، على مدى القرون الماضية، بلغت البشرية في العصر الراهن حالة من النضج، تتمثل في المجتمعات المتقدمة. فقد آمنت هذه المجتمعات بالتعددية الدينية، وحرية المعتقد، فتجاوزت بذلك مشكلة النزاع الديني والطائفي.

المواطنة وثقافة التسامح

أما السبيل الذي انتهجته البلدان الحديثة، في تجاوز النزاع الديني والطائفي، فكان بانتهاج أمرين؛ أولهما: قيام دولة المواطنة، والثاني: إشاعة التسامح واحترام التعددية الدينية. فالحكومات الحديثة اعتمدت التعاطي مع الناس بصفتهم مواطنين فحسب، بغضّ النظر عن أديانهم، ومذاهبهم، ومعتقداتهم، أو أيّ اعتبارات أخرى، فالقاسم المشترك بين الجميع أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.

والأمر الثاني الذي وضع حدًّا لمشكلة النزاع الديني والطائفي، هي شيوع حالة التسامح الديني، واحترام التعددية، بدءًا من التنشئة العائلية، التي تربي الطفل على الإيمان بهذه المسألة، فلا يرى الطفل بعدها غضاضة في أن يؤمن بأيّ معتقد، وأن يكون جاره أو صديقه مؤمنًا بعقيدة مغايرة، وأنه في الوقت الذي يتربى على الإيمان بحقانية عقيدته، فإنه ينشأ على القبول بحقّ الآخر أيضًا في الإيمان ذاته والقناعة نفسها، وعلى غرار ذلك تجري المناهج الدراسية في تربية وتعليم الطلاب على احترام آراء وقناعات الآخرين، وأنّ الناس أحرار في اختيار مذاهبهم وأديانهم.

وعلاوة على ما سبق يعمل الإعلام والثقافة الاجتماعية العامة على تعزيز هذا التوجه، فإذا ما برزت جماعة عنصرية تثير الكراهية بين أطياف المجتمع، فإنها سرعان ما تجابه بشدّة على كلّ المستويات القانونية والإعلامية والسياسية، لما لهذه النزعة من مخاطر على السِّلم الأهلي الاجتماعي. وعلى هذا النحو تجاوزت المجتمعات الحديثة النزاع الديني، وصار الناس يتعايشون على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، حتى إنّ الزائر للبلدان الحديثة يرى انتشار المعابد الخاصة بالديانات المختلفة في الحيّ السكنيّ الواحد، فلا غرابة في أن تجد مسجد المسلمين بجوار الكنيسة المسيحية، وبجوارهما الكنيس اليهودي أو المعبد الهندوسي، وكلٌّ يمارس عباداته وطقوسه على النحو الذي يراه.

التسامح منهج الإسلام

إنّ المسلمين هم أجدر الناس بالتسامح الديني؛ لأنّ الدين الإسلامي يربي أتباعه على احترام الآخرين، وحسن التعامل معهم، على اختلاف أديانهم وعقائدهم. وقد ورد في أوائل الآيات القرآنية التي نزلت على نبينا من سورة الكافرون ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، وورد في آية أخرى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، فحفظ الكرامة وفقًا للآية الكريمة حقّ مطلق لجميع البشر على اختلاف ألوانهم وأديانهم، وجاء في آية ثالثة: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وورد في آية رابعة ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[سورة الممتحنة، الآية: 8]. إنّ جميع هذه الآيات المحكمة والواضحة، علاوة على سيرة النبي الأكرم وسيرة الأئمة من أهل البيت والأولياء والصالحين، تؤكّد بمجموعها وجوب الاحترام المتبادل مع أتباع الديانات الأخرى، حتى مع الاعتقاد بأنّ الإسلام هو الدين الحقّ، وأنّ الأديان الأخرى هي أديان باطلة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ[سورة آل عمران، الآية: 85]، غير أنّ هذا الاعتقاد لا يبرّر بأيِّ حالٍ الإساءة والعدوان على حقوق الآخرين.

ثقافة تعصّبية بغيضة

ومن أسفٍ نقول، إنّ المسلمين باتوا اليوم ضحية لثقافة تعصّبية مقيتة انتشرت في أوساطهم، تقوم على الكراهية والحقد، وتدفع نحو العدوان على الآخرين المختلفين دينيًّا أو مذهبيًّا. فلا زالت أوطاننا وشعوبنا تدفع ثمنًا باهظًا لهذه الحالة غير السّوية، التي غالبًا ما تطفو على السطح في أوقات المناسبات التي تحتفل بها مختلف الطوائف الدينية، فلكلّ أتباع عقيدة شعائرهم وطقوسهم الدينية الخاصة، التي يحتفلون بها على طريقتهم، غير أنّ هذه الاحتفالات الخاصة عند الأمم والطوائف، لا تروق لبعض الفئات الدينية المتعصبة، فيقابلون هذه الاحتفالات بالغضب!، والسؤال الذي ينبغي أن يتوجّه لهذه الفئات المتعصبة، هو: ما شأنكم والآخرين؟ فهؤلاء الناس يحتفلون بما يعتقدون أنه النّسك الصحيح في عقيدتهم التي يتعبّدون الله بها، فما مبرّر غضب وانزعاج هؤلاء المتعصبين؟

سيّما وأن الله تعالى يقول: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ[سورة الحج، الآية: 67]، والمنسك هو طريقة العبادة، والتعاليم الرّبانية هنا واضحة وضوح الشمس، بالنأي تمامًا عن النزاع في أمر العبادة التي يتعبد بها الآخرون ربهم وخالقهم. ومن اللافت أنّ الله سبحانه وتعالى عندما يأتي على ذكر أماكن العبادة لدى الأديان الأخرى فإنه يذكر الأماكن تلك إلى جانب ذكر مساجد المسلمين، فقد ورد في الكريمة: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا[سورة الحج، الآية: 40]، وقد نصّ معظم المفسرين على أنّ الضمير في كلمة «فيها» يعود على جميع أماكن العبادة، وبعبارة أخرى، أنّ ذكر اسم الله كثيرًا، هو سمة لجميع أماكن العبادة، من صوامع وبيع وصلوات ومساجد، وليست سمة مقتصرة على المساجد فحسب. إلّا أنّه ومع وضوح هذا التوجيه القرآني البيِّن، إلّا أنّنا لا نزال نواجه شيوع التعصّب في أوساط المسلمين.

حقُّ ممارسة الشعائر الدينية

وباستعراض عام، نجد المسلمين الشيعة لديهم احتفالاتهم وشعائرهم الخاصة، سواء في عاشوراء، أو زيارة الأربعين وغيرها. ليس مهمًّا إنْ توافق معهم الآخرون في ذلك أو اختلفوا، فحقّ الاختلاف مكفول، لكن ذلك لا يعني بأيّ حالٍ أن يعطيَ أيّ طرف لنفسه حقّ ارتكاب العدوان تجاه الشيعة، كما لا يحقّ لأيِّ طرف تعبئة الشارع ضدهم، لمجرد عدم الرضا عن شعائرهم!. إنّ ما نجده على أرض الواقع من ارتكاب الفظائع ضدّ مسيرات العزاء، ومواكب الزائرين المتوجهة لزيارة الأماكن المقدسة، هو نتيجة طبيعية لممارسات وتحريض التوجهات المتعصّبة، التي تقوم على التعبئة الطائفية، وبثّ الكراهية الدينية بين الناس، على أساس ديني ومذهبي. إنّ الإحصاءات الرسمية تشير إلى أنّ هناك 400 مسلم شيعي قضوا في جرائم طائفية خلال العام الفائت في باكستان بخلاف مئات الجرحى، وأنّ أغلب تلك الهجمات جرت على هامش الاحتفالات الدينية، أمّا في العراق فهناك أَضعاف هذا الرقم من الضحايا.

وعلى غرار ذلك، يحتفل المسيحيون بمناسباتهم الدينية وأبرزها احتفالات أعياد الميلاد. فهم يحتفلون بمولد نبيٍّ من أنبياء الله العظام، عيسى بن مريم، الذي نؤمن به كما نؤمن بالأنبياء جميعًا، وبنصّ الآية الكريمة ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ، وهناك سورة كاملة باسم مريم، ورد فيها ذكر المسيح عيسى بن مريم مرارًا، فما الضّير في أن يحتفل المسيحيون بأعياد ميلاد النبي عيسى، ولماذا تقوم قيامة بعض الناس إنْ شاهدوا هذه الاحتفالات، ولماذا تستهدف كنائسهم، كما حصل في بغداد مؤخّرًا، وراح ضحية ذلك 14 قتيلًا وأكثر من ثلاثين جريحًا، وهم جميعًا مواطنون عراقيون، فبأيِّ حقٍّ يُستهدفون؟

فتاوى التحريض على الكراهية

إنّ أبرز مسبّب لارتكاب الفظائع بحقّ أتباع المذاهب والأديان المختلفة هو شيوع الثقافة التي تنكر على الآخر الحقّ في اعتناق دينه وعقيدته، والاحتفاء بمناسباته وشعائره.

ولعلّ إطلالة سريعة على صحفنا السعودية هذه الأيام ترينا جدلًا كثيًرا ومعركة كلامية طويلة، بشأن ما إذا كان من الجائز شرعًا تهنئة المسيحيين بأعيادهم ومناسباتهم!، وقد ورد في استفتاء شرعي مرسل لجهة دينية في المملكة، يستفسر عن حكم الإسلام في تهنئة النصارى بأعيادهم، وبرّر السائل سؤاله بوجود جارٍ نصراني يقطن بجوار منزل خاله، وأنّ الأخير يقوم بتهنئة النصراني في الأفراح والأعياد المسيحية، فيبادله النصراني بالتهنئة في الأعياد والمناسبات الإسلامية، فجاء جواب الاستفتاء من مؤسسة دينية معتمدة، بأنه «لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاونًا على الإثم وقد نهينا عنه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، كما أنّ فيه تودّدًا إليهم وطلبًا لمحبتهم وإشعارًا بالرضا عنهم وعن شعائرهم وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار العداوة لهم وتبيّن بغضهم؛ لأنّهم يحادّون الله جلّ وعلا ويشركون معه غيره ويجعلون له صاحبة» [8] !.

فبأيِّ عقلية يفكّر هؤلاء المفتون، وفي أيِّ عصرٍ يعيشون؟ فلو كان هذا التعصّب صادرًا عن شخص غير مسؤول لهان الأمر، أمّا أن يصدر عن مؤسسة رسمية معتمدة، فمن أين لنا أن نقبل هذا؟ أوَليس هذا الفكر هو الذي يؤسس لاستهداف الكنائس، ويطلق حالة النزاع والاحتراب الديني؟

في مقابل ذلك نجد أنّ العلماء الواعين المتبصّرين بمفاهيم الدين لا يقبلون حالة النزاع والاحتراب الديني مطلقًا. وقد وجدنا ذلك متمثلًا في مواقف دار الافتاء في مصر وفي فتاوى المراجع الدينية في العراق. فقد سئل المرجع الديني السيد علي السيستاني عن حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم كعيد رأس السنة، فأجاب «يجوز تهنئة الكتابيين من يهود ومسيحيين وغيرهم، وكذلك غير الكتابيين من الكفار، بالمناسبات التي يحتفلون بها أمثال: عيد رأس السنة الميلادية، وعيد ميلاد السيد المسيح، وعيد الفصح»[9]  .

نحن بحاجة ماسّة إلى هذه الثقافة المنبثقة من محكمات القرآن الكريم، حول احترام الآخرين، من أتباع الديانات والعقائد المختلفة. أمّا النصوص الواردة في التراث التي تنحو خلاف هذا المنحى، فإمّا هي نصوص غير ثابتة، موضوعة ومختلقة، أو جاءت ضمن بيئة وزمن معيّن، أو طرأت إساءة الفهم والتفسير لهذه النصوص، في حين نعيش اليوم عصرًا يفرض علينا التزام الاحترام المتبادل بين بني البشر، والنأي عن بثّ الكراهية، وإثارة الأحقاد بين الناس.

* خطبتي الجمعة 24 صفر 1435ﻫ الموافق 28 ديسمبر 2013م
[1] جامع أحاديث الشيعة، ج ١٤ ص ٧٨.
[2] http://www.telegraph.co.uk/health/healthnews/7187812/You-really-can-be-bored-to-death-study-shows.html
[3] وسائل الشيعة، ج ١٦ ص٢٣.
[4] من لا يحضره الفقيه، ج٤ ص٣٥٥.
[5] نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 207.
[6] نهج البلاغة، الكتب والرسائل، رقم (31) ومن وصية له للحسن بن علي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
[7]البخاري، كتاب الأدب، باب لا يسبّ الرجل والديه، حديث ‏5973.
[8] فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقم (11168)، http://www.alifta.net/fatawa/fatawaDetails.aspx?BookID=3&View=Page&PageNo=4&PageID=991&languagename=
[9] الفقه للمغتربين، عبد الهادي السيد التقي الحكيم، وفقًا لفتاوى سماحة آية الله العظمى الحاج السيد علي الحسيني السيستاني، ص220، مسألة 308.