ثقافة الاحترام

 

يودّ الإنسان أن تُحترم شخصيته من قبل الآخرين، وأن تُراعى مشاعره وأحاسيسه، وألّا يُساء إلى مقدساته ورموزه.

وذلك حقّ مشروع ينطلق من حبّ الإنسان لذاته، وحرصه على كرامته، واهتمامه بانتمائه الاجتماعي.

لكن تحقيقه يتطلب من الإنسان أن يتعامل مع الآخرين على هذا الأساس، فيحترم شخصياتهم، ويراعي مشاعرهم، ولا يسيء إلى مقدساتهم ورموزهم.

لأنه إذا أهان الآخرين وأساء إلى رموزهم، لا بُدّ أن يتوقع منهم ردّ الفعل المشابه، ولا يستهين بقدرتهم على الردّ ولو كان يراهم في موقع ضعف، فإن الضعيف قد يصبح قوياً، وخاصة في هذا العصر الذي انتشرت فيه وسائل القوة المالية والتكنولوجية بعد أن كانت محتكرة، وزادت فيه ثقة الناس بذواتهم الفردية والجمعية.

كما أن من يهين أحداً فإنه يسهم في نشر هذا الخلق السيئ وتطبيع الجرأة على ارتكابه، مما قد يجعله أحد ضحاياه.

  • إذا أهنْتَ تُهان

وقد أشارت النصوص الدينية إلى هذه الحقيقة، ضمن تحذيرها ونهيها عن إهانة الآخرين والإساءة إليهم.

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [سورة الأنعام، الآية: 108].

وتتضمن الآية نهياً صريحاً للمسلمين عن سبّ الأصنام وعبدتها، حتى لا يتجرؤوا على سبّ الله تعالى، فكلّ مجتمع له رموزه التي يقدسها كما تشير الآية الكريمة: ﴿كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي جعلنا من طبيعة كلّ أمة أن ترى منهجها مقدساً، حقاً كان أم باطلاً.

وهذا مبدأ تقرره الآية الكريمة للالتزام به في مختلف مواقع الصراع الاجتماعي، دينيًّا كان أو فكرياً أو سياسياً، بأن لا ينزلق الناس في صراعاتهم إلى الأساليب القذرة، كتبادل السبّ والشتم.

قال القرطبي في تفسيره: >قال العلماء: حكمها باقٍ في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسبّ الاسلام، أو النبي ، أو الله عزّ وجلّ، فلا يحلّ لمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية<[1].

وقال الطباطبائي: >الآية تذكر أدباً دينيًّا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني، وتتوقى ساحتها أن تتلوث بدرن الإهانة و الإزراء، بشنيع القول والسب و الشتم والسخرية ونحوها، فإنّ الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعديًا إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسبّ لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة، فلو سبّ المؤمنون آلهة المشركين، حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسبّ ما له عندهم كرامة الألوهية، وهو الله عزّ اسمه، ففي سبّ آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه<[2].

وفي هذا السياق يأتي ما رواه الإمام محمد الباقر عن رسول الله أنه قال: >لعن الله من لعن أبويه. فقال رجل: يا رسول الله، أيوجد رجل يلعن أبويه؟ فقال : نعم، يلعنُ آباء الرجال وأمهاتهم فيلعنون أبويه<[3].

ومثله في صحيح البخاري: عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه<[4].

وورد عن أمير المؤمنين علي في وصيته لابنه الحسن أنه قال: >يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ<[5].

إلى جانب النصوص الدينية هناك مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان التي تشكّل في مجملها خلاصة للفكر الاجتماعي، وتعبّر عن الضمير الإنساني، وهي تؤكد رعاية حقوق الإنسان الماديّة والمعنوية.

ومن أواخر هذه المواثيق ما أقرّته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) من تأسيس (ثقافة الاحترام) وهو قرار قدّمه واقترحه مندوب بلادنا (المملكة العربية السعودية) الدكتور زياد الدريس، واستطاع حشد دعم كافٍ من الأعضاء للتصويت عليه هذا العام 2016م، في الدورة التاسعة والتسعين بعد المئة، بعد سنة ونصف من النقاش في ثلاث دورات لمجلس المنظمة.

ويدعو القرار إلى الارتقاء بمساهمات المنظمة الدولية لتعزيز ثقافة الاحترام المتبادل.

وقال الدكتور الدريس: إنه في أعقاب حادثة (شارلي ايبدو) تصاعد الحديث والجدل في شأن التلاقي بين ثنائية (حرية التعبير) و(الرموز الدينية)، وتكمن المشكلة في أن الغرب يستخف بتقديس الرموز الدينية، وبمبدأ التقديس عموماً، لكنه يقوم واعياً أو غير واعٍ بتقديس حرية التعبير، من ذلك الإطار بنعت فكرة أن الاحترام المتبادل هو السبيل الوحيد لخلق التوازن بين هاتيك الثنائية المتنازعة.

وأضاف في كلمته أمام المجلس: نحن اليوم نؤسّس لمبدأ جديد في اليونسكو عنوانه: ثقافة الاحترام. حضرت وشاعت هنا خلال العقود الماضية مبادئ عدة، مثل: التسامح، التفاهم، الحوار، السلام. لكن هذه المرة الأولى التي نضع فيها (الاحترام) على طاولة النقاش والاستخدام، ضمن أدوات التداول في اختلافاتنا الطبيعية التي تندرج تحت التنوع الثقافي للبشر. من الاحترام أن لا نسيء أو نشتم الآخرين تحت أيِّ ذريعة أو سبب، فحتى لو لم يكن الآخر مستحقاً للاحترام، فإنني سأمتنع عن شتمه احتراماً لنفسي ولقيمي التي نشأت عليها[6].

  • الوسط الديني الموبوء

وإذا كان الدين سبّاقاً ورائداً في إقرار مبدأ الاحترام المتبادل، كما رأينا في عدد من النصوص الدينية، فلماذا نجد في الوسط الديني تجاوزاً لهذا المبدأ، عبر تبادل السباب والشتائم واللعن، في مجال الاختلافات الدينية والمذهبية والفكرية، وعبر تعمّد الإساءة من قبل كلّ جهة لرموز ومقدّسات الجهات الأخرى؟

وكان يفترض أن يكون المتدينون أنموذجاً ومثلاً في التزام المبادئ والأخلاق، في اختلافاتهم وتنوعاتهم.

ولعلّ المشكلة تكمن في اعتقاد كلّ فئة دينية أنها تمثل الحقّ المطلق، وأن غيرها باطل محض، ثم الاعتقاد بأنّ دينها يأمر بإهانة أهل الباطل والإساءة إليهم.

وهذا خطأ كبير وافتراء على الدين، وهو مجرد تبرير لنزعة الهيمنة والعدوان، وتوارث الأحقاد والأضغان، كما يقول تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّـهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[سورة الأعراف، الآية: 28].

لأنّ من يراهم الإنسان أهل باطل لا يخرجهم باطلهم عن الانتماء للنوع البشري والصنف الإنساني، ولا يسقط حقوقهم الإنسانية، ومنها حق الاحترام، وقد منح الله تعالى بني البشر حق الكرامة، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وجاء عن رسول الله : >ما شيء أكرم على الله من ابن آدم<[7].

هذا التكريم لا يختص بأهل الحقّ ولا يستثني أهل الباطل، بل يعمّ كل أبناء البشر. يقول السيد الآلوسي البغدادي في تفسيره للآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ أي جعلناهم قاطبة، برّهم وفاجرهم ذوي كرم، أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر[8].

ويقول السيد الطباطبائي: يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغضّ عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحصنة، فالكلام يعمّ المشركين والكفار والفساق.[9]

ورد عن أمير المؤمنين علي في عهده لمالك الأشتر قوله: >وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ ... فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ<[10].

كما أنّ على أهل الحقّ مسؤولية تجاه أهل الباطل، وهي دعوتهم إلى الحقّ، وتشويقهم إلى منهجه، واستقطابهم إلى رحابه، وذلك لا يكون إلّا باتباع الأساليب الجذابة المؤثرة في الطرف الآخر، كما يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[سورة النحل، الآية: 125].

أما إهانة الآخرين، ولعن رموزهم، والإساءة إلى مقدّساتهم، فإنه عامل تنفير وتشويه، وسبب للتوتر والاحتراب، يهدد السلم الاجتماعي، ويمنع التعايش، ويقدم عن الدعوة وأهلها أنموذجاً سيئاً ممقوتاً.

  • تنقية الحالة الدينية

ما أحوجنا كمنتمين للحالة الدينية إلى أن يحترم بعضنا بعضاً، حينما نختلف في مذاهبنا أو أفكارنا أو مرجعياتنا، وما أسوأ ما تعانيه ساحتنا الدينية من صراعات تُستخدم فيها الأساليب القذرة، بإهانة كلّ طرف للآخر، واتهامه في دينه، وإسقاط رموزه وشخصياته، لتكون النتيجة اهتزاز صورة الدين، وزعزعة الثقة بنماذج المتدينين.

من الطبيعي أن تتنوع التوجّهات والآراء في المجتمع الديني، وأن يتعدد المراجع الذين يلتف حولهم المتدينون، ومن حقّ كلّ طرف أن يعبّر عن رأيه وذاته، ضمن إطار الاحترام المتبادل.

أما أن ترى جهة نفسها أنها وحدها تحتكر الحقّ والصواب، وأنّ رموزها ومرجعياتها فقط أهلٌ للقداسة والاحترام، ثم توجّه الإهانة والإساءة إلى سائر الرموز والمرجعيات، وتحظر عليهم التعبير عن آرائهم المختلفة معهم، فإن هذا ما لا يمكن قبوله ولا تحقيقه، لأنّ الأطراف الأخرى مقتنعة أيضاً بصوابية آرائها وتوجّهاتها، ولا ترضى بالإساءة لرموزها ومراجعها، مما يدفعها لمقابلة الإهانة بإهانة، وردّ الإساءة بإساءة، وذلك هو ما تعيشه الحالة الدينية في كثير من الساحات، مما يضرّ بسمعة الدين ومصالح مجتمع المؤمنين.

من هنا تأتي ضرورة تعزيز ثقافة الاحترام، وتنقية الحالة الدينية من هذا الوباء الفتّاك.

* حديث الجمعة 11 صفر 1438ﻫ الموافق 11 نوفمبر 2016م

[1] تفسير القرطبي، ج7، ص41.
[2] السيد محمد حسين الطباطبائي. الميزان في تفسير القرآن، ج7، ص325.
[3] الكافي، ج8، ص71.
[4] صحيح البخاري، ج4، ص81، حديث 5973.
[5] نهج البلاغة، كتاب 31.
[6] جريدة الحياة الصادرة بتاريخ 1/6/2016م.
[7] كنز العمال. ج12، ص192، حديث 34621.
[8] السيد محمد شكري الآلوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن، ج15، ص117.
[9] الميزان في تفسير القرآن، ج13، ص152.
[10] نهج البلاغة. كتاب53.