الأخلاق بين التأثير والتأثر

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: الأخلاق بين التأثير والتأثر

﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت، الآيتان: 34و35].

إنّ الفطرة تحفز الإنسان على التحلي بالسلوك الأخلاقي النبيل، والعقل يرشده إلى ذات السبيل. فهنالك عمق فطري وعقلي للنبل والأخلاق الإنسانية، يدرك من خلاله الإنسان تلقائيًّا أفضلية السلوك الحسن على السلوك السيئ، فأيما إنسان سوي يدرك حتمًا أفضلية الصدق على الكذب، والعدل على الظلم، والأمانة على الخيانة، والإحسان على الإساءة، فذلك هو الجواب الذي تمليه فطرة الإنسان وعقله، فتقرران بأنّ السلوك النبيل هو الأفضل، وهو المطلوب.

في مقابل ذلك، هناك نزعات داخل نفس الإنسان، تدفعه إلى ارتكاب السلوك السيئ. وهذا هو تفسير جنوح الفرد نحو الانحراف وارتكاب الأخطاء، وتلعب الأجواء الخارجية التي يعيشها الفرد دورًا كبيرًا في الوقوع في الانحراف. كما جاء عن رسول الله أنه قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»[1]  ، فعامل التربية والنشأة، والظروف المحيطة بالإنسان، لها دور كبير في أن يسير باتجاه أحد خيارين اثنين؛ السلوك الحسن، الذي يؤيّده العقل والفطرة، أو السلوك السيئ الذي تدفع اليه النزعات الشهوانية داخل نفس الإنسان.

الانزلاق للخطأ عبر المحاكاة

ويدخل ضمن عوامل جنوح الفرد نحو الأخلاق السيئة، والوقوع في الانحراف، ما يُعبّر عنه بالمحاكاة والعدوى الاجتماعية. وفي معنى المحاكاة أن يرى الفرد أحدًا يمارس سلوكًا ما، فيقوم بتقليده ويعمل عمله، وهكذا تتسرّب بعض الأخلاقيات للفرد عن هذا الطريق، وقد تجري المحاكاة تحت دافع الرغبة والارتياح لعمل الطرف الآخر، فيما يمكن أن يقوم البعض بمحاكاة بعض السلوكيات تحت دافع الانتقام، وهذه ناحية دقيقة مهمة، فقد يتعرض البعض لإساءة أو كلمة نابية، فيقوم بالردّ بالمثل، يرد السبّ بالسبّ، والشتيمة بمثلها، ومع تكرر حالة التقاذف بالألفاظ البذيئة، سيجد أنه قد انساق خلف استخدام الكلمات النابية، التي لم تكن في قاموسه فيما سبق!، وبذلك ينتقل إليه الخلق السيء بالمحاكاة الانتقامية.

ويُحذّر المختصون في التربية الأسرية من تسرّب السلوكيات الخطأ للأطفال عن طريق الأسرة نفسها. فإذا لمس الأبوان بروز حالة من العناد لدى طفلهما، فلا ينبغي أن يبادلاه العناد؛ لأنهما بفعلهما ذاك، يزرعان حالة العناد في نفس الطفل دون أن يشعرا، عند ذلك تتكرس حالة العناد لدى الأبوين، كما تتعزّز الحالة عند الطفل نفسه.

من هنا ينصح المختصون بأن تنأى العائلة عن الردّ على عناد الأطفال بعناد مقابل؛ لأنّ هذا يعني تعزيز السلوكيات السلبية عن طريق العدوى. وهذا ما ينطبق على كافة المجالات، فمن يعتاد على السلوكيات الإيجابية في قيادة السيارة واتباع نظام المرور، بعد سنوات قضاها في دولة متقدمة للدراسة أو العمل، ربما تجده وقد تخلّى عن ذلك الانضباط الذي اعتاد عليه، بعد عودته للبلاد، ويبرر فعله بأن الناس هنا غير متقيدين بنظام المرور! فهو يقلد الآخرين في تجاوزهم لأنظمة المرور، والغريب أنّ أمثال هذا الشخص ربما يمارس تلك السلوكيات الخطأ وهو غير مرتاح؛ لأنه يقوم بالردّ على مخالفات الآخرين بأحد أمرين؛ إمّا بمحاكاة أفعالهم، أو التعرّض للعدوى منهم!

ولطالما حذّر المنهج القرآني من الوقوع في براثن العدوى السيئة، أو محاكاة أعمال المسيئين. فهناك توجيهات متتابعة بأن يظلّ المرء واعيًا لهذه المسألة، فإذا ما عمد أحدهم للتصرف والتلفظ عليك على نحو سيئ، فالحذر الحذر من الردّ عليه بذات الأسلوب؛ لأنك بذلك تخضع إلى تأثيره، بدلًا من أن تكون أنت المؤثر فيه، ولا ينبغي بأيِّ حالٍ السماح لذلك الطرف بنقل أخلاقه السيئة إليك، في حال أنّ المطلوب أن تؤثر أنت فيه وأن تنقل أخلاقك الحسنة إليه.

مواجهة السيئة بالحسنة

من هنا جاءت الوصايا الإسلامية للفرد المسلم بألّا يواجه السيئة بمثلها، حتى مع حقّه في ردّ الاعتداء، غير أنه من ناحية قيمية وأخرى تربوية، يوجّه الإسلام إلى النأي بالمسلم عن التأثر بأخلاق السوء، عن طريق المحاكاة الانتقامية؛ لأنه سيتأثر بالأخلاق السيئة لغريمه من حيث يشعر أو لا يشعر. لذلك تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.

إنّ الحسنة هي الأفضل، وهي السبيل الصحيح. فإذا واجه المرء سلوكًا سيئًا، فليحذر من الانجرار والوقوع في منحدر السوء.

وهنا قد يتساءل البعض عن أفضل سبل المواجهة، بين الردّ بالمثل وبالطريقة السيئة نفسها، وبين أن يردع الطرف الآخر بسبل أخرى، كأن يلجأ لانتزاع حقّه بالطرق القانونية مثلًا، فهو بذلك يمارس الردع، وينتزع حقّه، دون التلوث بسلوكيات الآخر عبر تقاذف السُّباب والشتائم. ينبغي ألّا يقع الفرد المسلم في فخ الأخلاق السيئة الذي ربما نصبه الآخرون، من هنا يأتي تأكيد الآية الكريمة: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ومضمون ذلك أن يلجأ المرء للبحث عن أفضل السبل الحسنة لدفع الإساءة. إنّ ردّ الاساءة بالتي هي أحسن ربما يساعد في تغيير الطرف المسيء إلى الأحسن، فعوضا أن يتشبه المحسن بالمسيء، ينبغي دفع الأخير للتشبه بالأول، لذلك تقول الآية الكريمة:﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وتلك إشارة عميقة إلى إمكانية أن تتغير الصفة السيئة عند الآخر نحو الأحسن.

لا شك بأنّ كبح الأعصاب، ولجم الرغبة في الانتقام خاصة في حال الخلاف الشديد تُعَدّ مسألة صعبة. والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحالة بوضوح، حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، بمعنى أنّ السيطرة على النفس ليست متاحة إلّا لمن لديه نصيب عظيم من الأخلاق والقيم.

ثمّة نصوص دينية كثيرة تشجع على التزام أعظم الأخلاقيات، والنأي عن الانسياق خلف السلوكيات السيئة للآخرين. فقد وورد عن النبي أنه قال: «ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟، العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك» [2] ، وورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين أنه قال: «وَسَدِّدْنِي لاَِنْ أعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ»[3]  ، حيث تأتي مواجهة الغش بالنصح لا بغش مماثل، ويمضى الإمام في دعائه بالقول: «وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ وأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ». إنّ البعض يتعامل مع الأخلاق على نحو التجارة، فيعطي من أعطاه، ويصل من يصله، وهذا عين ما نصفه بالمنحى التجاري في التعامل مع الناس، في مقابل ذلك هناك من لا يزحزحه شيء عن التعامل مع الآخرين على نحو قيمي، يريد أن تتكرس في نفسه الحالة القيمية والأخلاقية، ولا يزحزحه عنها أحد، فلا يردّ على السُّباب بالمثل، بل يستحضر قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.

وهناك من يفتقد القدرة على السيطرة على نزعاته، فيظن بأنْ لا ردّ للإساءة إلّا بإساءة مقابلة. وهو لا يدري أنه بذلك يتخلى عن خلقه وشيمه. وعلى هذا النحو، هل يجوز أن يردّ على الإرهابي الذي يفجر الأبرياء بردٍّ مماثل! وهل إذا مارس أحدهم الشتيمة يقابل على ذات النحو! وهل يواجه من يكفر المؤمنين بالتكفير المعاكس!، إن جميع هذه السلوكيات السالفة خطأ جملة وتفصيلًا، وهي أبعد ما تكون عن المنهج القرآني الصحيح. ونستحضر هنا موقف أمير المؤمنين حينما عمد جيش معاوية إلى منع الماء عن جيشه في واقعة صفين، ثم استولى جيش الإمام على المشرعة، فقال أصحاب الإمام حينها، يا أمير المؤمنين: نمنعهم من الماء كما منعونا، وتقتلهم بسيف العطش، ولكنه رفض ذلك وقال: «خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء»[4]  ، وجاء في شرح النهج: «خلّوا بينهم وبينه، لا أفعل ما فعله الجاهلون»[5]   وكأن لسان حاله يقول لو فعلنا كما فعلوا فما الفرق بيننا وبينهم؟، ويقول الشاعر[6]  :

فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا      وكلّ إناء بالذي فيه ينضح

فينبغي للمؤمن أن ينضح أخلاقًا طيبة، كلامًا وأسلوبًا، فأن يشتمك أو يكفرك الآخرون ليس مبرّرًا لأنْ تنحدر بأخلاقك نحو ممارسة ذات السلوكيات الخطأ، فهذا خلاف ما يأمر به الله تعالى، وهذا ما ينطبق على كافة الدوائر المحيطة بالإنسان من عائلته وزملائه وأصدقائه. إنّ على المرء أن يكون حذرًا يقظًا، وأن يفكر مليًّا في مساعدة الطرف المخطئ، على تجاوز خطئه، لا أن يسلك الطريق الخطأ نفسه، وذلك ما يحتاج إلى وعي وإرادة وصبر ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.

 

الخطبة الثانية: الغرب وتجارة الحروب

ورد عن عمران بن حصين أن النبي: «نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلاحِ فِي الْفِتْنَةِ»[7]  .

إنّ وجود السلاح ضرورة في حياة البشر من أجل الدفاع عن النفس، لكنه قد يتحول إلى أداة للعدوان وإشعال الحروب. لذلك لا يجوز ولا يصح من الناحية الشرعية والعقلية أن تكون هناك تغذية وتشجيع للحروب، عبر نشر وبيع السلاح في أوقات النزاع. وقد روى عمران بن حصين عن رسول الله أنه نهى عن بيع السلاح في زمن الفتن، وهذا أمر شرعي وعقلي؛ لأنّ التزويد بالسلاح في حال الفتن يعني التشجيع على الحروب، والمشاركة في سفك الدماء، وإيذاء الناس، فمن الطبيعي أن تكون تلك التجارة من المكاسب المحرمة، وبصورة أوضح يَعتبر الفقه الإسلامي أنّ من المحرم شرعًا بيع السلاح في زمن الفتنة على من يستخدمه في العدوان.

أعضاء مجلس الأمن تجار السلاح

لعلّ أكبر مفارقة في عالمنا الراهن، هي أنّ أكبر مصنّعي ومسوّقي السلاح الأشد فتكًا في العالم، هي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، المنوط بها حفظ الأمن والسلم الدوليين!. فالأمم المتحدة كما هو معلوم تمثل المؤسسة العالمية الأكبر التي تضم ممثلين عن كلّ دول العالم، غير أنّ تصويت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا يُعَدّ ملزمًا، بخلاف أعضاء مجلس الأمن الدولي، وهو أبرز المجالس الرئيسة المكونة للأمم المتحدة، فهذا المجلس الذي يضمّ خمسة أعضاء دائمين هم؛ أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، ويملك كلّ واحد منهم حق النقض «الفيتو»، إضافة إلى عشرة أعضاء غير دائمين لا يملكون حقّ النقض. إنّ هؤلاء الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس الذي تأسّس بغرض حفظ الأمن والسلم الدوليين، يقفون على سلم دول العالم الأكثر تصنيعًا وتسويقًا لأشدّ أنواع الأسلحة الفتاكة التي تبيد البشر وتقضي على الحجر!.

وهناك في كلّ دولة من هذه الدول جماعات ضغط ولوبيات تدعم تجارة السلاح، التي تُعَدّ التجارة الأكثر ربحًا في العالم، فهناك تأثير كبير لملاك مصانع السلاح على القرار السياسي في هذه الدول، وبما أنّ المطلوب أنْ تستمر هذه المصانع في العمل والإنتاج والمنافسة والتسويق، فلا بُدّ تبعًا لذلك من تأجيج الحروب، وخلق حالات التوتر بين الدول، لتسويق أكبر كمية من الأسلحة، وإلّا، فمن يا ترى سيشتري السلاح!.

الحروب لتسويق السلاح

من هنا تلعب الدول الكبرى دورًا رئيسًا في خلق الظروف والأرضية الملائمة لإنتاج وتسويق الأسلحة. ومن ذلك الدفع بحالة القلق بين الدول إلى أقصاه، كما هو حاصل في منطقتنا العربية والإسلامية، منذ ترسيم الحدود بين دول المنطقة في الحقبة الاستعمارية، فقد ترك المستعمرون خلفهم حدودًا ملغومة، قابلة للتحول إلى مادة للنزاع والخلاف، وظلّوا يعملون بمختلف الطرق على تحريض الدول على بعضها، ويثيرون قلق كلّ جهة من الأخرى. ولأنّ حكّام هذه الدول وسياسييها يعتمدون بصورة كبيرة على المستشارين الأجانب، ويخضعون لتأثير المؤسسات ومراكز الدراسات ووسائل الإعلام الأجنبية، فهم بذلك الأكثر عرضة لحالة القلق التي يختلقها أولئك في كلّ دولة تجاه الدولة الأخرى. فإذا ما تعزّزت حالة الخوف والقلق لدى كلّ دولة فستلجأ بطبيعة الحال نحو شراء واستيراد المزيد من السلاح، لإحداث التوازن مع الأخرى، وهكذا يتسابق الجميع على شراء السلاح، والمستفيد الأول من كلّ ذلك هي مصانع السلاح في الدول الكبرى!

وإذا لم يَفِ تأجيج حالة القلق بالغرض، يجري حينها الدفع بأساليب أخرى باتجاه إشعال الحروب والنزاعات العسكرية لإنعاش الصناعات الحربية في العالم. وتشير التقارير المتداولة حول صناعة السلاح إلى معطيات مثيرة للرعب، حيث يقول أحد المحللين في مجموعة استشارية دولية متخصصة في قضايا السلاح في دراسة له، يقول: «نحن إزاء أكبر انفجار للتجارة العالمية للأسلحة في تاريخ العالم»[8]  .

وللإضاءة على حجم النفوذ الذي تحظى بها لوبيات السلاح في العالم، يمكن النظر إلى فشل مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخّرًا في تمرير تعديل قانون اقتناء السلاح في الولايات المتحدة. وذلك حين طرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما مقترحًا لتعديل القانون، يضع شروطًا محسنة تحدّ من اقتناء السلاح، خصوصًا في أعقاب تكرر حوادث القتل الجماعي في البلاد، إلّا أنّ القانون الذي كان بحاجة إلى ستين صوتًا لتمريره، تعثّر في مجلس الشيوخ، والسبب في ذلك كما بات معروفًا، هي الضغوط التي مارسها لوبي تجارة السلاح في الولايات المتحدة. فهذه اللوبيات ليست معنية بتكرر حالات القتل الجماعي في المدن الأمريكية، بقدر ما يهمّها مقدار الإيرادات المالية المليارية التي تدرّها مصانع السلاح لهم، فإذا كان الحال في أمريكا على هذا النحو، فما بالك بموقف هذه اللوبيات من تجارة السلاح على المستوى الدولي.

أرقام هائلة للسلاح مع فقر الشعوب

إنّ الولايات المتحدة والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن تحوز على أعلى الأرقام في تجارة الأسلحة. وتكشف التقارير الخاصة بتجارة السلاح خلال السنة الماضية، عن معطيات مرعبة حول الإنفاق العسكري، فقد بلغ الإنفاق الأمريكي على السلاح خلال العام الماضي 600 مليار دولار، وجاءت الصين في المرتبة الثانية بإنفاق عسكري بلغ نحو 112 مليار، فيما أنفقت روسيا 86 مليار دولار، وأعقبتها السعودية التي أنفقت نحو 60 مليار دولار، وتلا ذلك بريطانيا بمعدل 57 مليار دولار، ثم فرنسا بمعدل إنفاق تجاوز 52 مليار دولار، فإسرائيل التي أنفقت 18 مليار دولار، وإيران بمعدل 17 مليار دولار. فهناك حركة وسوق مليارية نشطة في مجال تجارة السلاح، في الوقت الذي يعيش العالم أزمات اقتصادية كبيرة، وتعيش شعوب بأكملها تخلّفًا كبيرًا في التنمية، وانعدام أدنى متطلبات الحياة والعيش الكريم، والفقر والجوع والحرمان.

إنّ الدول الكبرى تتحمل المسؤولية في تنامي تجارة السلاح على المستوى العالمي. وهذه الدول هي المسؤولة عن إغراء حلفائها على الصرف، وإهدار ثروات الشعوب في شراء الأسلحة، حتى إنّ المرء ليستغرب من بعض الدول التي تراكم السلاح، وسط تساؤل كبير عن الغرض من تكديس هذا السلاح، وفي مقابل من يجري هذا التسلح، اللهم إلّا هدر الثروات!

لا جدّية في معالجة الأزمة السورية

وليس هناك أسوأ من اهدار الثروات على التسلح، إلّا إشعال الحروب والنزاعات والفتن. ولعلّ في الأزمة السورية مثالًا حيًّا على هذا، فهناك بين الحين والآخر تجري الاجتماعات لحلّ النزاع السوري في جنيف، وفي هذه العاصمة أو تلك، والسؤال هنا: من أشعل هذا النزاع أصلًا؟ إنّ القوى العالمية تفتقد الجدية في إخماد النزاعات الدولية والإقليمية، فالأمريكيون الذين كانوا إلى بضعة شهور خلَت يشجّعون على نقل المقاتلين إلى سوريا لمحاربة الدولة هناك، وسعوا في هذا السبيل لدى الحكومة الأردنية والحكومة التركية، ومختلف الدول، عاد الأمريكيون مجدّدًا للطلب من الدول المجاورة لسوريا بأن تمنع انتقال ودخول المقاتلين إلى سوريا، وكأن الأمر برمّته لعبة بأيديهم، بدأوها بالأمس واليوم يعودون عنها!، بعد أن قتلوا العباد وخربوا البلاد وشرّدوا الملايين من ديارهم، حتى بلغ عدد ضحايا الصراع نحو 180 ألف قتيل في السنوات الثلاث الأولى من الصراع، بدرجة جرى فيها تشويه الإنسان السوري، بحيث يحتاج إلى سنوات طويلة للتعافي وتجاوز آثار هذا الصراع.

هكذا يجري العبث بقضايا الشعوب، وهذا يدلّ على ما يعيشه العالم من تضليل ونفاق وازدواجية في المعايير، فالشعارات المرفوعة شيء، والواقع على الأرض شيء آخر، وليس متوقّعًا من هؤلاء المستكبرين غير هذا.

والرهان الوحيد هو على وعي الشعوب. وإذا كان هناك من عتب فهو على الشعوب وخاصة النخب، الذين قبلوا الوقوع في فخ الألاعيب المكشوفة، وورّطوا أنفسهم في النزاعات الدموية، وشاركوا في هذه الحروب وإثارة المشاكل، فذلك ليس مقبولًا مهما كانت المبررات، وبعيدًا عن جدلية المحقّ والمبطل في الأزمة، يبقى هذا النزاع المدمّر ليس من مصلحة أحد، باستثناء تجار الحروب.

الجمعة 14 ربيع الآخر 1435ﻫ الموافق 15 فبراير 2014م
[1] صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (79)، حديث1358.
[2] الكافي، ج 2، ص 107، كتاب الإيمان والكفر، باب العفو/ حديث1.
[3] الصحيفة السجادية، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضيَّ الأفعال، الدعاء (20)، ص94.
[4] بحار الأنوار، ج ٣٢ ، ٤٤٠.
[5] شرح نهج البلاغة، ج ٣ ،٣٣١.
[6] أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي الملقب شهاب الدين المعروف بـ «حيص بيص».
[7] مجمع الزوائد، الهيثمي، ج ٤ ص١٠٨.
[8] صحيفة الاقتصادية، الثلاثاء 16 شعبان 1434ﻫ. الموافق 25 يونيو 2013 العدد 7197.