الخطبة الثانية: التفكيك بين الرأي وقائله

ضغط الشهوة وقوة الإرادة

الخطبة الأولى: ضغط الشهوة وقوة الإرادة

﴿وَاللَّـهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا.[سورة النساء، الآيتان: 27و28].

إنّ وجود الشهوات والغرائز في نفس الإنسان يُعَدّ محركًا أساسيًّا لنشاطه وفاعليته في هذه الحياة. ولولا وجود الغرائز والشهوات لما اندفع الإنسان يكابد الأهوال في كلّ اتجاه، فحبّ الإنسان لذاته وسعيه للتملك، وتطلعه للرقي والتقدم، ووجود الرغبة والشهوة لديه، هو ما يدفعه لهذه الفاعلية والنشاط الذي يقوم به في هذه الحياة.

وفي الوقت نفسه تُعَدّ هذه الغرائز والشهوات ساحة امتحان للإنسان، وميدان اختباره، ذلك أنّ الإنسان يقف بين اتجاهين، بين كبت هذه الشهوات، وهو ما يمكن أن يشلّ حياته، وبين إطلاق العنان لها فيخرج عن حدود إنسانيته، وينحرف عن طريق الكمال، حتى يصبح كسائر البهائم التي تعيش غرائزها وشهواتها.

لقد كرّم الله سبحانه الإنسان بأنْ زرع فيه الطموح والتطلع نحو الكمال، ولا يستطيع أن يبلغ مراقي الكمال إلّا إذا استطاع أن يضبط غرائزه وشهواته، وهنا الابتلاء والامتحان في هذه الحياة.

تنمية وتصليب الإرادة

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى الشرائع السماوية لكي تساعد الإنسان على تلمّس حالة الانضباط. بحيث يمارس حياته بفاعلية، ويستجيب للرغبات والشهوات الموجودة في نفسه، من أجل إعمار الحياة، لكنه في الوقت نفسه لا يكون منساقًا مع الشهوات والرغبات على حساب كماله وسموّه الإنساني، من هنا يحتاج الإنسان إلى التزام الشرائع السماوية، كما يحتاج إلى الوعي والإرادة، اللذين يساعدانه على الانضباط.

وعلى امتداد تاريخ البشرية، كانت هناك جهات شغلها الشاغل تحريض الشهوات والغرائز في نفس الإنسان. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَاللَّـهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، فالله سبحانه يريد للناس التوبة، فيما تعمل بعض الاتجاهات على الدفع بالناس ليميلوا نحو الشهوات والغرائز ميلًا عظيمًا. إنّ للإنسان أن يمارس غريزته وشهوته ولكن ضمن حدود، فإذا ما انحرف وتجاوز تلك الحدود ومال ميلًا عظيمًا، على حد تعبير الآية الكريمة، فذلك ليس في مصلحته ولا يخدم إنسانيته. وعلاوة على التحريض الخارجي للإنسان باتجاه الانغماس في الشهوات، يساعد على ذلك وجود حالة الضعف الذاتي عند الإنسان، وقد وصف الله هذه الحالة بقوله سبحانه: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا، والضعف المشار إليه في الآية، هو الضعف أمام الشهوات والغرائز، والمطلوب في مقابل هذا الضعف، التحلّي بالوعي والتسلح بالإرادة، وإلّا فسيكون الإنسان ضحية لضعفه الطبيعي أمام شهواته وأهوائه.

التحريض على الشهوات تجارة

ويبدو أنّ الجهات التي تدفع بالبشر نحو الغرق في الشهوات والغرائز، تعيش اليوم عصرها الذهبي. فهؤلاء الذي وصفتهم الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، يعيشون قمة نشوتهم في زمننا الراهن، فالجهات التي تحرك الأهواء والشهوات عند الناس، باتت تستفيد من التطور العلمي، والتقدم التكنولوجي، عبر مختلف الوسائل المتاحة، من أجل أن تحرك الشهوات والأهواء عند الجمهور، وعلى أوسع نطاق ممكن. ويدفعهم بهذا الاتّجاه سببان:

الأول: أنّ هؤلاء أنفسهم ممن يتبعون الشهوات، ويريدون أن تتوفر لهم الأجواء لممارسة أهوائهم ورغباتهم، وكلما اتّسعت الفرص أمامهم فهذا يصبّ في صالح ميولهم الغرائزية.

والسبب الآخر، هو السعي نحو الكسب المادي والربح التجاري، فتحريض الشهوات وإثارة الغرائز بات اليوم تجارة تدرّ الأرباح، ومصدرًا كبيرًا من مصادر الدخل، وتحقيق الثراء. ويكفي النظر إلى الكمّ الهائل من المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت، التي بلغ عددها أكثر من أربعة ملايين ومئتي ألف موقع إباحي، ويمثل ما يقرب من 12 بالمئة من مواقع الشبكة العنكبوتية!.

وذكر إحصاء آخر أنّ هناك فيلمًا إباحيًّا جديدًا يجري إنتاجه في الولايات المتحدة وحدها كلّ 39 دقيقة، وهذا بخلاف الأفلام الإباحية التي يجري إنتاجها في أماكن أخرى في العالم. كما تفيد الإحصاءات عن حجم الأموال التي تنفق في هذا المجال، بأنّ هناك ثلاثة ملايين وسبعمائة وخمسين ألف دولار تنفق في كلّ ثانية على المواد الإباحية، ما يشير إلى حجم التجارة المحمومة التي تعمل خلفها جهات تجدّ في نشر أجواء الشهوة والإغراء وتحريض الغرائز.

الاحتماء بالأجواء الصالحة

أمام هذا الكمّ الهائل من وسائل الإغراء يحتاج الإنسان إلى أمرين أساسيين:

أولهما تنمية وتصليب الإرادة الذاتية في نفسه أمام ضغط الشهوات، والأمر الثاني هو التواجد في الأجواء الصالحة، بغرض تخفيف الضغط الغرائزي، ذلك لأنّ الإنسان سيبقى يعيش معركة دائمة داخل نفسه، إذا ما ظلّ يعيش أجواءً ملؤها الإغراء والإثارة، وهو على الأرجح ما سيجعله يضعف وينهار في نهاية المطاف، وهذا عين ما ذكره سبحانه تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا، من هنا على المرء أن يهتمّ كثيرًا بالأجواء التي يعيش فيها، بحيث تسودها الحشمة.

ولعلّ إحدى المشاكل في هذا الصدد هي التساهل في مسألة الاحتشام، بدءًا من داخل الأسرة. متناسين أنّ أجواء الحشمة ينبغي أن تبدأ بالمنزل، فمن الدّارج أن تتصرف الأم أو البنات والأولاد على سجيتهم، دون ملاحظة هذا الجانب، لكونهم يعيشون أجواء المنزل والعائلة، غافلين تمامًا عن أنهم بشر يعتريهم ما يعتري الآخرين. ويكفي الإشارة هنا إلى ما تشير اليه العديد من الدراسات حول أسباب الانحرافات، وخاصة الجنسية منها، نتيجة ضعف أجواء الاحتشام داخل المنزل.

إنّ القرابة العائلية لا تبرر الابتذال والتراخي في التزام الحشمة حتى بين الأخوة والأخوات، بحيث يظهرون أمام بعضهم على نحو الإثارة، سواء في الملبس أو عرض المفاتن، فذلك أمر بالغ السوء والضرر، ويشمل ذلك الأم بطبيعة الحال، وسائر الأقارب، الذين يتواجدون في مكان واحد، إذ ينبغي مراعاة أجواء الاحتشام، لما لفقدانها من تأثير سلبي على الأولاد، حتى وإن لم يكن ملحوظًا عند الآخرين، فأغلب تلك التأثيرات النفسية الطبيعية لا يتحدث عنها الأولاد ولا البنات، لكن ذلك لا ينفي انعكاساتها السلبية.

من هنا ينبغي أن تسود الأجواء المحتشمة باستمرار، سيما أثناء الاجتماعات العائلية الموسعة، التي يحضرها سائر الأقرباء من الأخوال والخالات، والأعمام والعمّات، وأبناؤهم وبناتهم. أضف إلى ذلك النأي عن الانسياق خلف بعض العادات الدخيلة، من قبيل السماح بدخول العريس إلى قاعات الأفراح النسائية يرافقه بعض الرجال، فهذا أمر مرفوض لما له من تأثيرات سلبية كبيرة ووقوع في المحرمات والآثام.

الحذر من مواقع التواصل الاجتماعي

وينبغي للإنسان أن يتعاطى مع وسائل الإعلام على نحو حذر. فلربما دفعت المرء نفسه إلى النظر والبحث عمّا يثير الغرائز عبر مختلف الوسائل، تساعده في ذلك وساوس الشيطان، التي ربما استدرجه بذريعة حبّ الاستطلاع، كما لو أنّ هذا الإنسان محصّن وبعيد عن التأثر بما سيراه في تلك المواقع والقنوات.

كثيرًا ما وصلتنا الشكاوى من وقوع فتيات في براثن الرذيلة نتيجة الانسياق خلف محاولات الاستدراج، والأمر نفسه يحدث مع شباب أوقعوا أنفسهم في علاقات مشبوهة تحت مزاعم إرشاد وهداية الفتيات، علاقات ظنّوا أول الأمر أنها ستكون بريئة إلّا أنها قادتهم إلى الرذيلة، وهذا من خداع وأحابيل الشيطان التي حذّرنا الله منها بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، فعلى الإنسان أن يكون حذرًا فلا يخدع نفسه ولا ينخدع.

إنّ هناك نصوصًا دينية كثيرة تؤكّد بشدة ضرورة أن يشحذ الإنسان إرادته أمام شهواته. فقد ورد: «إِنَّمَا سُمِّيَ الهوى هَوًى، لأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ» [1] ، وعن الإمام عليّ أنه قال: «الشهوات مصائد الشيطان»[2]  ، سواء في استماع صوت لا يحلّ الاستماع اليه، أو النظر إلى صورة لا ينبغي النظر إليها، أو الوقوع في مراسلات تقود إلى الرذيلة، أو مشاهدة فيلم يدفع للانحراف، فهذه بأجمعها أول مصائد الشيطان، ولا يعلم إلّا الله عواقب ذلك. وعنه أنه قال: «من تسرّع إلى الشهوات تسرّعت إليه الآفات»[3]  ، كما ورد عن النبي أنه قال: «رُبّ شهوة ساعة تورث حزنًا طويلًا»[4]  ، فربما لم تدم الشهوة إلّا برهة من الزمن إلّا أنها ربما أوقعت المرء في هوة سحيقة ومأزق كبير، وعن أمير المؤمنين أنه قال: «غالب الشهوة قبل قوة ضراوتها فإنها إنْ قويت عليك ملكتك واستقادتك ولم تقدر على مقاومتها»[5]  .

 

الخطبة الثانية: التفكيك بين الرأي وقائله

جاء عن رسول الله أنّه قال: «اِقبل الحقّ ممن أتاك به، صغيرًا أو كبيرًا، وإنْ كان بغيضًا، واردُدِ الباطل على من جاء به من صغير أو كبير وإن كان حبيبًا»[6]  .

ثمة معايير عقلية واضحة ينبغي أن يركن إليها الإنسان لقبول الآراء الأخرى أو رفضها. كما أنّ لديه معايير مصلحية وذوقية إزاء الأمور المادية، فعلى أساسها يقبل أشياء ويرفض أخرى، سواء عند الإقدام على شراء سلعة، أو تناول طعام، فالمرء عندما يقدم على أيِّ خيار يرتبط بشأن من شؤونه المادية، فإنّه يقيس ذلك بمعادلات مصلحية أو ذوقية يعتمدها. وذلك يجري مع قضايا الرأي والفكر، إذ ينبغي أن تكون للإنسان معايير عقلية تحدّد مدى القبول والرفض لمختلف الآراء، لا أنْ يخضع الأمر للميول المزاجية. ذلك أن تبني رأيًا معيّنًا تجاه أيِّ فكرة أو قضية من القضايا، ينبغي أن يأتي من خلال الاحتكام للعقل والقيم التي يؤمن بها الإنسان، فذلك هو المحدّد لتبنّي أو رفض الأفكار والآراء الأخرى.

لا تكن إمّعة

إنّ هنالك صنفًا من الناس يتنكّر لعقله ويرتضي أن يكون إمّعة. فالآخرون ينتجون الرأي وما عليه سوى الاتّباع، وأولئك يصطنعون الفكرة والموقف وهو يتلقفها، دون أن يعمل عقله فيما إذا كانت الفكرة صحيحة أم لا؟ وهل ذلك الرأي صائب أم غير ذلك؟ إنّ التعاليم الربانية تأمر الإنسان بالتفكير وإعمال العقل، ودراسة الموقف والفكرة، حيث يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فالمؤمن العاقل يستمع ويفكر، ثم يقرر اتّباع الأحسن، تمامًا كما يتعامل مع أيِّ سلعة تجارية، حيث يقوم بالمفاضلة بين السلع تبعًا لمعاييره الخاصة المتعلقة بميزانيته المالية وذوقه ورغبته. ذلك الأمر نفسه ينطبق تمامًا في مجال الرأي والفكر بالنظر لاعتبارات القيم والمعايير العقلية.

انظر إلى ما قال

وهناك مسألة في غاية الأهمية والدقة تتعلق بضرورة التفكيك بين الرأي وصاحبه، وبين الفكرة وقائلها. فهنالك رأي وشخص يطرح هذا الرأي، وهناك فكرة وشخص أنتج هذه الفكرة، هنا ينبغي للمرء أنْ يفكّك بين العنصرين، فلا يجعل علاقته بصاحب الفكرة ذات تأثير على موقفه من الفكرة نفسها، كما لا ينبغي أن يكون موقفه من الفكرة مؤثّرًا على علاقته بصاحب الفكرة.

هنا ينبغي التفكيك بين الأمرين. حينما يستمع المرء رأيًا عليه أن يفكّر مليًّا، قبل اتخاذ أيِّ موقف تجاه ذلك الرأي، بغض النظر عن مدى قرب أو بعد صاحب هذا الرأي منه، كأن يكون شخصًا حبيبًا إليه، موثوقًا عنده مثلًا، لكنه في نهاية المطاف ليس معصومًا عن الخطأ، لذلك يمكن أن يعتري فكرته الخطأ، وقد يجانب رأيه الصواب، ولا ينبغي قبول رأي الشخص؛ لأننا نحبّه وحسب، أو نأخذ برأيه بالنظر لعلاقتنا وانتمائنا إليه، بقدر ما ينبغي العودة والاحتكام إلى العقل.

إنّ من الضروري دائمًا تقليب الرأي والتفكير بجدّية في مدى صوابية أم خطأ الأقوال التي تصلنا. فقد يكون صاحب الفكرة طرفًا غير محبوب، لكن ذلك لا يلغي صواب أقواله بالمطلق، وقد ورد في الحديث عن النبي أنه قال: «اقبل الحقّ ممن أتاك به، صغيرًا أو كبيرًا، وإنْ كان بغيضًا»، فقبول القول وفق حديث النبي غير منوط بمدى الحبّ أو البغض لقائله، بقدر ما هو منوط بمدى صواب أو خطأ ذلك القول. وفي مقابل ذلك، ينبغي رفض الرأي إذا كان خطأ، حتى لو كان صادرًا عمّن نحب، فلا يصح بأيِّ حالٍ اتّباع تلك الفكرة والأخذ بالقول الخطأ لمجرد محبّتنا لقائله.

الحكمة ضالة المؤمن

كما أنّ الموافقة في الدين أو المذهب ليست معيارًا لقبول أو رفض الآراء الأخرى على نحو عام. فلو قال شخص ما، مختلف في الدين أو المذهب، قولًا صائبًا، أو فكرة سليمة، فلا بُدّ من الأخذ بها. وقد جاء في الحديث عن النبي أنه قال: «خذ الحكمة ولا يضرّك من أيِّ وعاء خرجت»[7]  .

فالمناط هنا هو البحث عن الحكمة، والحكمة في اللغة من الإحكام والإتقان، أيّ يكون الرأي محكمًا ومتقنًا. وورد عن الإمام عليّ أنه قال: «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك، تكون أحقّ بها وأهلها»[8]  ، فلو كان عند المشرك رأي ناضج فلا مانع من الأخذ منه، وورد عنه: «الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»[9]  ، وفي نصٍّ آخر عنه: «خذ الحكمة ممن أتاك بها، وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال»[10]  .

وتُجمع النصوص الدينية على أهمية التعاطي باستمرار مع الفكرة مجرّدة، وتقييم مدى نضجها وصحتها، بغضّ النظر عن قائلها. جاء في الرواية عن أهل البيت عن عيسى بن مريم أنه قال: «خذوا الحقّ من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحقّ، كونوا نقّاد الكلام»[11]  .

كم هي رائعة هذه الكلمة، ومضمونها لو أنّ إنسانًا كان على باطل من الناحية الدينية، لكنه قال فكرة أو رأيًا صحيحًا، فالمتوجب الأخذ بتلك الفكرة وذلك الرأي دون النظر لدينه وتوجّهه. وفي مقابل ذلك لو أطلق شخص متديّن من أهل الحقّ رايًا أو فكرة باطلة ـ وهو ليس معصومًا من الخطأ ـ، إمّا بسبب جهله أو التباس الأمور عليه، أو كان هذا غاية تفكيره ومعرفته، أو ربما طمعًا في مصلحة من خلف تلك الأقوال، هنا ينبغي عدم الأخذ برأيه إطلاقًا، بل المطلوب وفق الرواية الآنفة أن نكون نقّاد الكلام، فهذا ما يريده الإسلام للإنسان المؤمن.

رفض الفكرة دون قائلها

إنّ رفض أيّ فكرة أو رأي معيّن لا ينبغي مطلقًا أن يقود إلى نصب العداوة لصاحب ذلك الرأي. فلو أطلق إنسان رأيًا أو فكرة خطأ وفق تقييمك، فمن حقّك أن ترفض ذلك الرأي، لكن ذلك لا يعني أن تعادي صاحب الرأي، أو تتبنّى موقفًا عنيفًا ضدّ مطلق الفكرة. من الضروري هنا التفكيك بين الفكرة وصاحب الفكرة، فقد يكون رأيه خطأً وقد يكون صوابًا، ولربما غيّر رأيه فيما بعد ليكون مطابقًا لرأيك، أو ربما غيّرت أنت رأيك في مستقبل الأيام حتى وافقته الرأي.

إنّ هنالك صنفًا من الناس ليس بمقدوره التفكيك بين الرأي وصاحبه، ولربما قطع علاقته مع صديقه لمجرد الاختلاف معه في الرأي إزاء قضية من القضايا، أو مسألة من المسائل، إنّ كلّ أحدٍ له كامل الحقّ في أن يقبل أو يرفض رأيًا أو فكرة ما، تبعًا لمعاييره الخاصة، لكن ذلك لا ينبغي أن يترتب عليه اتخاذ مواقف حدّية من أصحاب الآراء الأخرى، فهؤلاء بشر لهم حقوقهم وكرامتهم، هذا أولًا، وثانيًا، تبقى هناك مشتركات كثيرة بين البشر مهما اختلفوا في الرأي إزاء هذه المفردة أو تلك القضية.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى تقسيم المتخصصين في العلوم الدينية لرواة الحديث، بما يصل إلى قبول الرواة حتى من خارج الدائرة المذهبية، والذين ربما يطلقون عليهم فاسدي العقيدة. فعلماء الدين يقسمون الحديث من حيث السند إلى عدة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث موثق، وحديث ضعيف، وعند تناول العلماء للقسم الثالث، أي الحديث الموثق، فهم يعرّفونه بأنه الحديث أو الرواية التي تأتي عن طريق راوٍ من خارج المذهب، أي من أحد المذاهب المخالفة لمذهب أهل البيت، لكن هذا الراوي يعدّونه ثقة، أي لا يكذب فيما يروي، فالعلماء حينئذٍ يقبلون روايته ويعدّون حديثه موثّقًا معتبرًا. فكون هذا الراوي مختلفًا في المذهب، وهو فاسد العقيدة في نظرهم، لا يعني مقاطعته على نحو تام، وعدم الأخذ بروايته، ولذلك اشتهر عن العلماء قولهم في هذا الصدد ما روي عن الإمام الحسن العسكري أنه قال ـ وقد سئل عن كتب بني فضّال ـ: «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»[12]  ، ومضمون ذلك أن نأخذ الصحيح من روايتهم حتى لو اختلفنا معهم في آرائهم.

من هنا ينبغي التفكيك بين الرأي وصاحب الرأي. فقد يجري قبول الفكرة، حتى مع رفض منهج صاحبها، كما يمكن رفض الفكرة لكن لا يعني ذلك رفض قائلها ومقاطعته وإسقاطه، سيما والناس في هذا العصر أصبح لديهم انفتاح كبير على مختلف الأفكار والآراء، بخلاف ما كان يجري في الماضي من غياب التعليم وقصور المعرفة، واقتصار الناس على همومهم المعيشية. فقد ارتفعت نسب التعليم، وارتفعت معها اهتمامات الناس ونقاشاتهم في جميع ما يجري حولهم من أحداث وقضايا وآراء، وتبعًا لذلك فاختلاف الرأي بين الناس أمر وارد جدًّا وكثير الحصول.

إدارة الاختلاف في الرأي

غير أنّ الإشكالية الرئيسة عندنا، هي أننا بَعْدُ غير مهيئين لإدارة الاختلاف الفكري في أوساطنا، وهذا ما ينسحب على كلّ المستويات، حتى على صعيد الاختلاف في المجال الرياضي، فلربما برزت مشاكل وقطيعة حادة بين بعض الناس لمجرد تشجيعهم ناديًا رياضيًّا ضدّ آخر!، ناهيك عن الاختلاف حول رأي سياسي أو فكري، وهذا خطأ كبير!. إنّ على المرء أن يفكّك بين الموقف من الرأي والموقف من صاحب الرأي، وبين الموقف من الفكرة وصاحبها، فمهما بلغت حميمية العلاقة والارتباط بصاحب الفكرة، فلا يعني ذلك أن تكون كلّ أفكاره صحيحة، وبالمقابل مها كان شكل الارتباط والعلاقة المتوترة مع صاحب فكرة ما، فذلك لا يعني أنه باطل وشرٌّ مطلق. نحن في أمسّ الحاجة إلى تدريب أنفسنا على القبول بتعددية الآراء واختلاف وجهات النظر، وحسن إدارة الاختلاف، حتى لا يكون ذلك سببًا للقطيعة والنزاع والشقاق، فذلك ما لا يجيزه الشرع ولا يقبله العقل.

الجمعة 28 ربيع الآخر 1435ﻫ الموافق 1 مارس 2014م
[1] تفسير القرطبي، القرطبي، ج١٦ ص١٦٧، عن الشعبي.
[2] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص٦٥.
[3] غرر الحكم ودرر الكلم، ص337، حكمة 484.
[4] الأمالي، الشيخ الطوسي، ص٥٣٣.
[5] غرر الحكم ودرر الكلم، ص268، حكمة5.
[6] كنز العمال، ج١٥ ص٧٩٤، حديث43152.
[7] محمد الريشهري العلم والحكمة في الكتاب والسنة، ص٢٤٥.
[8] الأمالي، الشيخ الطوسي، ص٦٢٥.
[9] نهج البلاغة، قصار الحكم (80).
[10] علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص٢٤١.
[11] بحار الأنوار، ج٢ ص٩٦، حديث39.
[12] بحار الأنوار، ج٢ ص٢٥٣.