مبادرة التذكير ببرّ الوالدين

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: مبادرة التذكير ببرّ الوالدين

﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 51].

الإنسان معرض للنسيان، نتيجة عوارض الانشغال، أو جرّاء الغفلة، أو بسبب الإهمال.

قد يجهل المرء شيئًا فيحتاج إلى التعليم والإرشاد، وقد يعرف شيئًا، ولكن ما كلّ ما يعرفه يكون حاضرًا في ذهنه، وعلى باله دائمًا، فقد ينسى ما قد علم، وقد يهمل شيئًا مع أهميته، نتيجة عدم استحضاره في نفسه، كما قد يتغافل عن بعض الأشياء بسبب انشغالاته المتعددة. ونتيجة عوارض الانشغال أو الإهمال أو الغفلة فهو محتاج إلى التذكير باستمرار.

ويأتي التذكير لغة في مقابل النسيان، وهو بذلك يختلف عن التعليم، فالتعليم يعني تنوير شخص بشيءٍ يجهله، أما التذكير فهو تنوير شخص بشيء يعرفه سلفًا لكنه نساه أو انشغل وغفل عنه.

إنّ المهمة الرئيسة للأنبياء والأئمة والدعاة إلى الخير هي التذكير، ذلك أنّ كثيرًا من القيم التي جاء بها الأنبياء موجودة من حيث الأصل في وجدان وفطرة الإنسان، لكنه يغفل عن ذلك، من هنا تفهم كلمة الإمام عليّ في وصف مهمة الأنبياء حين قال: «وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»[1]  ، القيم موجودة في قلوب الناس، إلّا أنها مدفونة تحت ركام الانشغالات والاهتمامات المختلفة، فيأتي الأنبياء للناس ويثيرون عندهم هذه القيم.

التذكير بقيم الخير

إنّ الإنسان بحاجة دائمة للتذكير بالقيم الفاضلة، وأمور الخير، وخاصة في هذا العصر. ذلك أنّ عصرنا الراهن أكثر العصور التي بات فيها الإنسان غارقًا في الانشغالات والاهتمامات المختلفة، فقد كانت حياة البشر في العصور الماضية أكثر بساطة، والإنسان حينها أقلّ انشغالًا، على النقيض تمامًا من هذا العصر الذي يعجّ بالاهتمامات ضمن أبعاد واتجاهات مختلفة، خاصة فيما يرتبط بالحياة المادية والمصلحية، مما يجعل الانسان أكثر حاجة إلى التذكير بالقيم الفاضلة، وأمور الخير، والتحذير من الأشياء السيئة التي تؤثر على حياته سلبًا.

إنّ من التطورات الإيجابية في المجتمعات المعاصرة، توجهها نحو تخصيص بعض الأزمنة والأنشطة للتذكير ببعض القيم المفيدة، والنافعة للإنسان، ومن ذلك تخصيص يوم للطفولة، يوم للمعلم، يوم الأم ويوم البيئة وغرض ذلك تذكير الإنسان المنشغل اللاهث خلف مصالحه ورغباته، بهذه القيم والأمور الصالحة. مع إطلاق الحملات العامة والمنسقة، من قبيل حملات الاهتمام بالبيئة، وحملات تعزيز العلاقات الإنسانية، وأخرى لمراعاة أنظمة المرور، وجميع هذه الحملات وأمثالها أمور جيّدة بالنظر لحاجة الإنسان إليها.

برّ الوالدين قيمة عليا

إنّ من المفيد جدًّا قيام مؤسسات أهلية تعنى بقضايا الشأن العام على مختلف الصُّعد. وقد سرّني قيام مجموعة أهلية مؤخّرًا في محافظة القطيف معنية بالتذكير بأهمية برّ الوالدين، تلك القيمة الأخلاقية الكبيرة، فبرّ الوالدين قيمة مهمة تنطلق من صميم وجدان الإنسان، فكلّ امرئ يشعر بفضل والديه عليه، من هنا تأتي أهمية التذكير بهذه القيمة الأخلاقية العالية. هذه المبادرة الطيبة التي يقوم عليها بعض المؤمنين في منطقتنا، تأتي بغرض إحياء برنامج سنوي يُعلي من قيمة برّ الوالدين، وقد اختاروا لهذه المناسبة يوم العشرين من شهر جمادى الأولى، المصادف هذا العام لعيد الأم المعلن عالميًّا في 21 مارس من كلّ عام، فالقائمون على المبادرة ارتأوا جعل عيد الأم مناسبة لبرّ الوالدين، عوضًا عن جعله عيدًا للأم فقط.

إنّ إحياء مناسبة برّ الوالدين تعدّ مبادرة جيّدة، وقد تمّ الاستعداد لها عبر حملة إعلامية في مختلف المواقع، من خلال إعداد النشرات واللقاءات، من أجل دفع وتشجيع الناس على المساهمة في إنجاح هذه المبادرة، وقد أعلن القائمون عن سلسلة من الفعاليات في هذا الشأن، كما اقترحوا أن يجري على هامش المناسبة الذهاب للمقابر لزيارة الراحلين من الآباء والأمّهات، فبرّ الوالدين يبقى قيمة أخلاقية فاضلة سواء كان في حياة الأبوين أم بعد مماتهما، لذلك فزيارة قبر الوالدين من مظاهر البرّ.

وقد جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[سورة الإسراء، الآيتان: 23-24]، وبالنظر في الآية الكريمة نجد أنّ العبارة الواردة في مطلعها هي «قَضَىٰ» أي إنّ الباري عزّ وجلّ قد حكم وألزم، بأن تكون العبادة له وحده سبحانه، ثم يأتي تاليًا في الدرجة الثانية الإحسان للوالدين. وفي آية أُخرى يضع ربنا سبحانه وتعالى شكر الوالدين بعد شكره مباشرة، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[سورة لقمان، الآية: 14]، فالشكر للوالدين وفقًا للآية الكريمة هو في المرتبة التالية لشكر الله سبحانه وتعالى.

وورد عن رسول الله أنّ رجلًا سأله، يا رسول الله، ما حقّ الوالدين على ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك»[2]  ، وقال: «بِرُّوا آباءكم تَبَرُّكُمْ أبناؤكم»[3]  ، ومضمون قول النبي أن برّ الوالدين قيمة قابلة لترسخ عبر الأجيال متى ما تحولت إلى سلوك اجتماعي عام، وعن أمير المؤمنين عليّ أنه قال: «برّ الوالدين أكبر فريضة»[4]  . وكما سبقت الإشارة، فإنّ قيمة برّ الوالدين ليست مقتصرة في حال الحياة، وإنما تجري حتى بعد الوفاة، فقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه، حيّين أو ميتين، يصلّي عنهما، ويتصدق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك»[5]  .

الوالدان في مرحلة الكبر

وتكتسب قيمة برّ الوالدين أهمية مضاعفة عند بلوغ الوالدين مرحلة الكبر. ذلك أنّ الإنسان عندما يكون طاعنًا في السنّ، قد يتغير مزاجه بدرجة كبيرة، فهو يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية، لذلك ينبغي للأبناء ذكورًا وإناثًا، أن يولوا هذا الأمر أهمية كبيرة، وأن يراعوا آبائهم وأمهاتهم بشدّة في المراحل العمرية المتقدمة، إنّه لا يوجد عمل أهمّ وأفضل وأعظم من العناية بالوالدين الطاعنين في السنّ، وعلى الإنسان أن يعلم أنه كلّما كانت حاجة أحدهما إلى العناية أكبر، فإنّ في ذلك فرصة عظيمة منحها الله تعالى إيّاه لنيل المزيد من رضاه، ونيل المزيد من التوفيق، ولعلّها تكون أكبر فرصة يحصل عليها، حتى وإنْ شعر باستثقال الأمر أحيانًا، ذلك أنه لا يوجد مجال ولا فرصة لكسب الثواب، ونيل رضا الله، والحصول على التوفيق الإلهي أفضل من هذا السبيل، حتى إنّ الأمر يستحق أن يفرغ الإنسان نفسه لخدمة والديه ما أمكنه ذلك.

إلى المزيد من المؤسّسات الأهلية

إنّ مجتمعاتنا في حاجة ماسّة لقيام المزيد من المؤسسات الأهلية، علاوة على الجمعيات الخيرية والنوادي الرياضية القائمة، تبقى الحاجة ماسّة لوجود مؤسّسات مهتمة بالتوعية ونشر القيم، على غرار قيام مؤسسة تهتم بتوعية وتحذير الشباب عن التورط في العنف، هذه الظاهرة السلبية بالغة السوء، التي بتنا نلمس تداعياتها على نحو متكرر، حيث تُفضي المشاجرات العنيفة بين الشباب عن حالات قتل مروعة، عند نشوب أقلّ خلاف ولأتفه الأسباب!، حتى إنّ مصادر في الدفاع المدني في المنطقة تقول إنّ ثمة انتشارًا لظاهرة حرق السيارات الخاصة، وتعلل المصادر بأنّ أهمّ أسباب هذه الظاهرة هي تصفية الحسابات بين المتخاصمين، حيث تقود الخلافات الشخصية بين الشباب إلى أن يقوم أحدهم بحرق سيارة الآخر!. إنّ من السيئ جدًّا انتشار ظاهرة استخدام العنف بين أبناء المجتمع، وبذلك نحتاج إلى جهود توعوية كبيرة في هذا المجال، بما يشمل تقديم المحاضرات، وتنظيم الندوات واللقاءات، وتوزيع النشرات، واستخدام مختلف وسائل وأساليب التوعية، في سبيل النأي بالشباب عن العنف، لمختلف الأسباب الشخصية أو السياسية، فاستخدام العنف بمجمله أمر سيئ، ونحتاج تبعًا لذلك إلى مؤسّسات تأخذ على عاتقها التوعية حول نبذ العنف الاجتماعي بمختلف مستوياته.

وعلى غرار ذلك يحتاج مجتمعنا أيضًا إلى قيام مؤسّسات إصلاح ذات البين، لمواجهة حالات العنف الأسري. وفي هذا السّياق لا يفوتني الإشادة بمسابقة جمال الأخلاق، تلك المؤسسة التي كان لمنطقتنا سبق الريادة في تأسيسها والانطلاق بعملها، والتي جعلت محور اهتمامها دفع الفتيات للتسابق على الريادة في مجال حسن الأخلاق والتزام القيم الفاضلة، آملين أن تحذو حذوها المبادرة الجديدة «برّ الوالدين»، وأن تصبح المنطقة أنموذجًا لتصدير المبادرات الطيبة والمفيدة.

 

الخطبة الثانية: لماذا تضطهد المرأة في المجتمعات الإسلامية؟

أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال: «قال رسول الله لفاطمة: إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك»[6]  .

وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ كَلامًا وَحَدِيثًا بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَرَحَّبَ بِهَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا فَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَتْ هِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ قَامَتْ إِلَيْهِ مُسْتَقْبِلَةً وَقَبَّلَتْ يَدَهُ»[7]  .

ثمّة حقيقة كاشفة تشير إليها النصوص الدينية والسيرة النبوية حول المرأة، وهي أنّ الأنوثة لا تقعد بالمرأة عن منافسة الرجال أو التفوق عليهم. ولعلّ جملة النصوص الكثيرة التي تتناول سيرة السيدة فاطمة الزهراء إنما تدلّ على أمرين مهمين، يدلّ الأمر الأول على ما لفاطمة الزهراء من مكانة مميزة، وفضلٍ عظيم، يوجب على جميع أبناء الأمة، رجالًا ونساء، محبّتها وتعظيمها والاقتداء بها؛ لأنّ ما ورد بحقّها عن رسول الله ليس منطلقًا عن عاطفة محضة، سيمّا وقد وصفه سبحانه بالقول: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ[سورة النجم، الآيتان: 3-4]، فحينما يتحدث عن ابنته بهذا القدر، إنما يعني تأكيد ما لها من مقام ومكانة يجب أن تحفظها الأمة.

والأمر الثاني الذي تدلّ عليه النصوص، وهو محور حديثنا، إنّ الأنوثة لا تقعد بالمرأة عن منافسة الرجال والتفوق عليهم، فكون المرأة أنثى لا يعني بأيِّ حالٍ أنها في مرتبة أدنى، وإنما بإمكانها أن تصل إلى أعلى الرتب. فالأنوثة ليست مرتبة دونية، والذكورة ليست بحدِّ ذاتها مرتبة عالية، بقدر ما هناك معايير ومقاييس إذا توفرت في إنسان، رجلًا كان أم امرأة، فبإمكانه أن يشقّ الطريق نحو الفضل والعظمة، والمكانة العالية عند الله وعند الناس.

المرأة قد تفوق الرجل

إنَّ آيات الكتاب الكريم تشير بوضوح إلى أن المرأة مؤهلة كما الرجل إلى بلوغ درجات الكمال. فكونها امرأة لا يعني أنّها أقلّ من أن ترتقي وتتقدم وتزداد تميزًا، فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»[8]  ، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، فالتقوى هي المقياس بحسب الآية الكريمة وليست الذكورة أو الأنوثة، وتبعًا لذلك أيمّا امرأة كانت أكثر تقًى فستكون أكثر فضلًا بطبيعة الحال.

وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ[سورة آل عمران، الآية: 195]، فلا فرق عند الله بين الرجل والمرأة، روحًا وعقلًا وسلوكًا. وليس هناك مجال من المجالات يتميّز الرجال بالسباق فيه على النساء، فكلّ الميادين مفتوحة أمام المرأة، تمامًا كما هي مفتوحة أمام الرجل، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[سورة الأحزاب، الآية:35]، فالميادين كلّها مفتوحة أمام المرأة لكي تنافس وتتقدّم وتتفوق وترتقي.

لا نزال ننتقص المرأة

إنَّ واقع المجتمعات الإسلامية اليوم صادم إلى حدٍّ كبير على صعيد قضايا المرأة. حتى إنّ المرء ليستغرب من هذه المجتمعات التي تدين بالإسلام الذي يحدّد رؤيته للمرأة على النحو السّالف الذكر، إلّا أنّ المرأة ظلت تعاني الاضطهاد والإجحاف والتنكر لحقوقها في الكثير من المجتمعات المسلمة، حتى إنّ بعضهم لا يزالون إلى اليوم يعدون المرأة في مرتبة أدنى، فإذا جاء ذكر النساء على لسانه، استدرك مخاطبًا مستمعيه بعبارة: كرمكم الله!.

إنّ هذا السلوك ينبئ عن وجود ذهنية لاواعية عند الكثيرين، مضمونها دونية وانحطاط منزلة المرأة قياسًا على الرجل، وخاصة في بلادنا، حيث استغرقنا زمنًا طويلًا وجهدًا مضنيًا حتى يقبل البعض بتعليم المرأة، والغريب أنّ هؤلاء الناس الذين يقول نبيهم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»[9]  ، يرفضون أن تتعلم المرأة، ويتطلب الأمر معاناة طويلة حتى تفتتح مدارس لتعليم البنات، كما نحتاج إلى جهود مضنية حتى تقبل المرأة عضوًا في مجلس الشورى، مع أنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرح هو عن سبب عدم تعيين المرأة عضوًا في الشورى لا العكس، وكذلك الحال مع انتخاب المرأة في المجالس البلدية، والأمر نفسه يجرى مع انتخابها في غرف التجارة، وكذلك في كل المواقع، إذ لا مانع دينيًّا يحظر على المرأة المشاركة، أوَلم تكن المرأة عبر التاريخ الإسلامي شريكة كاملة مع الرجل المسلم في كلّ الميادين والمجالات؟. ويبدو أنّنا سنحتاج إلى زمن حتى يقرّ للمرأة بقيادة السيارة، خلافًا لكلّ بلدان العالم، كما سنستغرق زمنًا آخر حتى تصبح المرأة عندنا وزيرة أو سفيرة، وغير ذلك من المواقع المتقدمة التي تمكن المرأة من تحمل مسؤولياتها السياسية والاجتماعية.

إنّ جميع ما سبق في كفّة، وما تعانيه المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية من سوء المعاملة في كفة أخرى. فعلى الرغم مما يكرره العلماء والدعاة صبح مساء حول تكريم الإسلام للمرأة، إلّا أنّ الكلام شيء وما يجري على أرض الواقع شيء آخر، ولو شئنا الإشارة إلى مورد واحد فقط من موارد كثيرة على هذا الصعيد، فيكفينا الإشارة إلى مسألة العضل الشائعة في مجتمعاتنا، فكثيرًا ما تورد التقارير أخبار فتيات بلغن سنّ الرشد، ويتطلّعن إلى الزواج، وغالبًا ما يطرق أبوابهن الخطّاب واحدًا تلوا الآخر طلبًا للزواج، لكن جميع آمالهنّ تتحطم نتيجة رفض آبائهنّ غير المبرر!.

وقد اتصلت على مكتبنا بالأمس فتاة تشتكي أهلها الذين يرفضون تزويجها رغم طلب يدها من قبل خمسة وعشرين شابًّا خاطبًا!، وتقول في شكواها أنّ تدخلات العائلة في هذا الشّأن أفسدت عليها حياتها، فإذا وافق أبوها على خاطب رفضته أمها، وإذا واقفت أمها رفضه أخوها أو خالتها أو عمتها، وهكذا بلغت سنّ الثلاثين من العمر وهي على هذا الحال البائس!. هذا التصرف من العائلة مرفوض جملة وتفصيلًا، فما هكذا ينبغي أن نتعامل مع بناتنا.

العضل جريمة كبرى

هنا ينبغي الإشارة إلى أنّ جميع الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية يرفضون عضل البنات. وفي هذا الصدد يمكن القول إنّ هناك نقاشًا واختلافًا بين الفقهاء حول مدى حاجة الفتاة البكر إلى إذن وليّها حينما تكون بالغًا رشيدًا وفق التعبير الفقهي، إلّا أنّ كلّ الفقهاء من السنة والشيعة لا يقبلون العضل، فإذا ما تقدم للفتاة خاطب كفؤ فلا يجوز للأب أن يمنعها من الزواج، وإذا منعها فإنّ الحاكم الشرعي له أن يرفع الولاية عن الأب ويزوج البنت، فالعضل محرّم شرعًا وعلى نحو قطعي.

والأسوأ من ذلك هو ما يتداول من أسباب تدفع البعض لعضل البنات، التي تعود في بعض الأحيان لأسباب مالية، فقد تكون البنت موظفة وتستلم راتبًا جيّدًا، فيرفض الأب تزويجها طمعًا في مرتبها!، وقد واجهنا مثل هذه الحالة تمامًا عندما تدخلنا مع أحد الآباء لاستشراف سبب رفضه تزويج ابنته، فقد أوضح أنّ سبب رفضه هو أنّ الشابّ الخاطب طامع في راتب ابنته، والحقيقة أنّ الأب نفسه هو الطامع في راتب البنت لا الخاطب.

وقد أوردت الصحف أيضًا أنّ من ضمن أسباب العضل الذي يمارسه بعض الأشقاء هو وجود إرثٍ كبير لدى أخته، فيرفض تزويجها تحت ذريعة عدم انتقال الإرث إلى تصرف زوجها!، فولاية الأخ على الأخت في النكاح قائمة في الفقه السني كما هو معروف، بخلاف الفقه الشيعي الذي لا يرى ولاية للأخ على أخته، وقد نشرت الصحف مؤخّرًا خبرًا مستغربًا حول رفض محامٍ تزويج ثمانٍ من أخواته، ستّ منهن غير شقيقات، وقد تجاوز بعضهن سنّ الأربعين، هذا وهو محامٍ يعرف القوانين وعلى اطّلاع على حقوق الإنسان[10]  !. فكيف يقبل مجتمع يدين بالإسلام، أن يحدث فيه هذا الأمر.

من هنا ينبغي أن يكون الاحتفاء بالسيدة فاطمة الزهراء مناسبة لمعالجة حقوق المرأة، ومنها مشكلة عضل البنات!. فلا يكفي في ذكرى الزهراء أن نتحدث عن فضائلها ومكانتها، فهذا أمر نؤمن به ونعتقده سلفًا، لكن ما يلزمنا إلى جانب الحديث عن فضائلها وسيرتها ومصائبها، هو أن نتحدث عمّا نستفيده من سيرتها، وأن نتعلم كيف تعامل معها أبوها، وكيف تعامل معها زوجها، وكيف كانت مكانتها المحترمة في محيطها، فذلك ما ينبغي أن نتناوله حتى نأخذ من حياتها دروسًا نحتاجها في حسن التعامل مع المرأة؛ الأم والأخت والبنت.

الجمعة 13 جمادى الأولى 1435ﻫ الموافق 15 مارس 2014م
[1] نهج البلاغة، خطبة رقم (1).
[2] سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب برّ الوالدين، حديث رقم 3662.
[3] المستدرك على الصحيحين، ج٤ ص١٥٤.
[4] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، الصفحة ١٩٥.
[5] الكافي، ج٢ ص١٥٩.
[6] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج3، ص167، حديث 4730.
[7] المصدر السابق، ص174، حديث 4753/351.
[8] سنن الترمذي، الترمذي، ج١ ص90، حديث 113.
[9] صحيح سنن ابن ماجه، ج1 ص92، حديث 184/223.
[10] صحيفة الاقتصادية، السبت 16 ذو القعدة 1431ﻫ. الموافق 23 أكتوبر 2010م، العدد 6221.