البحث عن عيوب الناس

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: البحث عن عيوب الناس

روي عن الإمام الصادق أنه قال: «إذا رأيتم العبد متفقّدًا لذنوب الناس ناسيًا لذنوبه، فاعلموا أنه قد مُكر به»[1]  .

تحفل الحياة الاجتماعية للناس بأنماط لا حصر لها من السلوكيات الطيبة الصالحة والسلبية المنفرة. وتنحصر مسؤولية الفرد في الاهتمام بما يعنيه من هذه الأعمال والسلوكيات، التي يلحظها ضمن حياته الاجتماعية اليومية، فإذا كانت نزعة الفرد نزعة صالحة وخيرة، فسينصبّ اهتمامه على السلوكيات الخيرة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت نزعاته نزعات سيئة، فسيندفع للاهتمام بما يتلاءم مع تلك النزعة من سلوكيات.

إنّ الإنسان العاقل غالبًا ما يبحث عن الوجه الخيّر وأعمال الصلاح في بيئته الاجتماعية، فيزداد تحفّزًا لتمثل أعمال الخير والسلوك الحسن، وليجسّدها في حياته، في مقابل ذلك يغضّ العاقل الطرف عن الأعمال السيئة عند الآخرين، الموجودة بطبيعة الحال في كلّ مجتمع بشري. وبذلك يتجه الإنسان العاقل للاهتمام بالأعمال والسلوكيات الحسنة الصالحة، فيقف عندها ويتأمّل فيها ويتحدّث عنها، حتى يزداد تحفّزًا لتجسيدها في نفسه ونشرها في مجتمعه.

التفتيش عن المعايب

غير أنّ هناك صنفًا من الناس لا يهمّهم سوى التفتيش عن كلّ ما يشين من السلوكيات العامة. فمثل هؤلاء تراهم غارقين في البحث عن أخطاء وزلّات ومعايب الآخرين، والحديث عنها، وتناقلها على أوسع نطاق، فما لك ولمعايب الآخرين وزلّاتهم؟.

إنّ غاية ما ينبغي للمرء في هذا الصّدد هو الحذر وتوقّي الانزلاق في المعايب والأخطاء التي وقع فيها الآخرون، لا أن يحترف التفتيش والحديث في زلّاتهم وعثراتهم. ومن عجب ترى بعض الناس مولعين للغاية في التنقيب عن عثرات الناس وزلّاتهم، كما لو كانوا رادارات مسلّطة على حياة الآخرين الخاصة والعامة، وهذه من أسوأ الرذائل التي قد تعتري أيّ امرئ من الناس.

إنّ النصوص الدينية تنهى بشدّة عن تعقب زلّات الناس على أيِّ نحوٍ من الأنحاء. يقول الإمام الصادق: «إذا رأيتم العبد متفقّدًا لذنوب الناس ناسيًا لذنوبه فاعلموا أنه قد مكر به»، وتنطوي الرواية الشريفة على عدّة أبعاد، بدءًا من استنكار تعقّب عثرات الآخرين والتنقيب عن أخطائهم، واستطرادًا بلفت نظر المتورّطين في هذه الرذيلة إلى أنهم هم أنفسهم لا يخلون من عثرات، وأنّ عليهم عدم نسيان ذلك، فهم ليسوا قطعة من الكمال لا نقص فيها!، فالأحرى بهم أن يفتّشوا عن أخطاء أنفسهم ويتوقّوا الوقوع في الزّلات، ثم لتنتهي الرواية بالتحذير المغلظ بتوصيف من يقع في هذا السلوك المشين بأنه «قد مُكر به»، أي إنّه قد أوقع نفسه في فخ وورطة سرعان ما سيرى نتائجها السلبية في الدنيا والآخرة.

بين النحل والذباب

هناك سمات عديدة لمسلك المفتشين عن معايب وزلّات الآخرين، أوّلها تأمل عيوب الناس. يقول الإمام عليّ: «تأمّل العيب عيب»[2]  ، إنّ من يُمْعِنُ النظر والتدقيق في عيوب الناس، فهو بهذا السلوك إنّما يرتكب عيبًا، ولعلّ أقرب توصيف لنوعية متابعة الإنسان لأعمال الآخرين، هو ما يفعله النحل الذي لا يحطّ سوى على الورود والأزهار العبقة الرائحة فيمتص منها الرحيق، بخلاف الذباب الذي لا يعرف سوى القمامة، وكذلك الأمر مع الأشخاص، فالشخص الباحث عن زلّات وعثرات الآخرين، إنّما يتقمّص سلوك الذباب الذي يبحث في المزابل، في مقابل من يتخلّق بأخلاق النحل، حيث يهتم بالجوانب المشرقة عند الآخرين، المتمثلة في نجاحاتهم وإنجازاتهم وإيجابيّاتهم، فيتحدث عنها وينشرها ويشيع الأجواء الصالحة في مجتمعه، تحفيزًا لذاته لبلوغ ما حقّقه الآخرون.

نشر المعايب

والسمة الثانية لمسلك المفتشين عن معايب الناس هي إظهار عيوب الآخرين ونشرها على أوسع نطاق. وقد أفسحت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة المجال واسعًا أمام هذا الصنف من الناس، فمثل هؤلاء لا يدّخرون جهدًا في نشر معايب الآخرين عبر أيّ وسيلة تصل إليها أيديهم، واللافت أنّ الأخبار السلبية والكاذبة سرعان ما تنتشر انتشار النار في الهشيم، يحثّ يتداولها البعض على قاعدة «انشر تؤجر»، ودونما تمحيص ولا تدقيق لحقيقة الخبر، ولا إدراك لخطورة هذه الممارسة المضرّة بالآخرين، في مقابل ذلك لا تجد الأخبار الإيجابية التي تتحدث عن المنجزات والنجاحات عُشْرَ الاهتمام الذي تحظى به الأولى.

اختلاق المعايب

أمّا السمة الثالثة لمحترفي البحث عن عيوب الناس، فهي النزعة نحو اختلاق المعايب اختلاقًا، وتلفيقها للآخرين. ولعلّ الواحد من هؤلاء يستيقظ صباحًا فلا يجد خبرًا يسيء للآخرين فيقلقه ذلك كثيرًا، ولربما عمد عندها لاختلاق الشائعات وألصاقها بالناس جزافًا.

التشويه وسوء التفسير

كما يعمد المفتشون عن معايب الناس، في سمة رابعة، نحو إساءة تفسير أعمال وتصرّفات الآخرين. فقد يقوم الآخرون بأعمال إيجابية، غير أنّ محترفي التفتيش عن الزلّات، يعمدون إلى تشويه وإساءة تفسير تلك الأعمال الإيجابية، فبنظر صاحب النظارة السّوداء تتحول الإيجابيات والجوانب المشرقة عند الآخرين إلى معايب ومثالب يطعن عليهم بسببها.

عوامل وأسباب

هنا يبرز السؤال المهم؛ حول أسباب تورّط البعض في هذه المسلكيات الخاطئة.

حقيقة الأمر أنّ هناك أسبابًا عديدة تقف خلف هذا المسلك السيئ. ويأتي في طليعة الأسباب ما يمكن أن نصفه بالعقد النفسية عند هؤلاء، فلو أُخضع هؤلاء للفحص النفسي والسلوكي، للكشف عن طبيعة شخصيّاتهم، لاتضح كم يعانون من العقد والأمراض النفسية التي تتمظهر عندهم على هذا النحو السلبي.

ثم يأتي سوء التنافس في المقام الثاني من أسباب التورط في الإساءة للآخرين، مع لحاظ أنّ التنافس بين أبناء البشر أمر طبيعي على كلّ الصُّعد والمجالات، غير أنّ هناك من يخوض غمار التنافس من خلال زيادة نشاطه وفاعليته حتى يتفوق على الآخرين، فيما ينزع آخرون نحو التنافس السلبي وغير الشريف، الذي يعمد إلى عرقلة وتكسير المنافسين الآخرين. إنّ منافسة الآخرين على نحو خطأ، هي ما تدفع البعض نحو التفتيش عن الزلّات والمعايب لمنافسيهم.

أمّا السبب الثالث المحرك لمحترفي النبش في مثالب الناس فهو الفراغ، فالواحد من هؤلاء غالبًا لا يشغل وقته باهتمامات مفيدة، فيشعر عندها بفراغ كبير، ليقوده ذلك نحو إشغال نفسه بالتنقيب عن معايب الناس.

النتائج والتداعيات

هناك نصوص دينية كثيرة تحذّر الإنسان من التورط في هذه الخصلة الذميمة، والتفتيش عن عيوب الناس. ولعلّ أول محاذير هذا المسلك الخطأ هي انشغال المرء بمثالب الناس والغفلة عن عيوبه، كما لو أنه خالٍ تمامًا من الأخطاء والعيوب، التي من الحريّ أن يتجه نحو إصلاحها. ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»[3]  ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «أفضل الناس من شغلته معايبه عن عيوب الناس»[4]  ، وجاء عنه في رواية ثالثة أنه قال: «أعقل الناس من كان بعيبه بصيرًا وعن عيب غيره ضريرًا»[5]  .

وينبغي أن نلفت النظر هنا، إلى أنّ مسلك التفتيش عن الأخطاء، كما يجري على صعيد الأفراد، فهو يجري أيضًا على مستوى الجماعات. فقد تتورّط بعض الجماعات الدينية أو السياسية والاجتماعية في مسلك الإساءة للجماعات الأخرى، برصد عثراتها ونشرها عوضًا عن التفتيش عن عيوبها هي ومراجعة أخطائها.

ويحضرني في هذا الصّدد دراسة وافية للباحث الشيخ حسن بن فرحان المالكي بعنوان «قراءة في كتب العقائد»، حيث يشير في مقدمة دراسته إلى أن أبرز مشكلة وقعت فيها الفرق والمذاهب الإسلامية، هي أنّ كلّ فرقة اهتمت بالبحث عن أخطاء الفرق الأخرى، والثغرات في تراثها، فالشيعة صاروا ينقّبون عن الأخطاء في كتب أهل السنة، فيما تفرغ السنة للتفتيش عن الأخطاء في كتب الشيعة. ويخلص الباحث المالكي إلى ضرورة الاعتراف بأنّ كلّ التراث الاسلامي يعجّ بالأخطاء، فهذا التراث نتاج بشري، ينتمي إلى بيئته وعصره، وهناك ثغرات ونقاط ضعف يحفل بها التراث السني والشيعي على حدٍّ سواء، وحبّذا لو اتّجه أهل كلّ مذهب إلى إصلاح وتصحيح تراثهم. غير أنّ الحالة المتخلفة ونزعة التفتيش عن أخطاء الآخرين تجعل البعض يصبّ جلّ اهتمامه على ساحة الآخرين، ويغفل عن نفسه، وبذلك تبقى نقاط الضعف بمحلها، والثغرات في مكانها.

إنّ النصوص الدينية توجّه الإنسان المسلم إلى أن يتسامى على هذه الحالة، فلا يفتّش عن العيوب في علاقاته مع الناس. وقد توعّد القرآن الكريم بالويل لمن يسلك مسلك التنقيب عن عيوب الآخرين، قال تعالى: «ويل لكل همزة لمزة»، والهمزة هنا تأتي بمعنى سوق نقاط الضعف عند الآخرين بغرض كسر شخصيّاتهم، ولمزهم من خلال استغابتهم والتنقيص من مقامهم، وقد توعّد الله سبحانه أصحاب هذا المسلك بالويل والخزي والعذاب. وجاء عن رسول الله أنه قال: «حسب ابن آدم من الإثم أن يرتع في عرض أخيه المسلم»[6]  .

بين النقد والتشهير

وهنا ينبغي الالتفات إلى عدم الانخداع بالخوض في شخصيات الآخرين والانتقاص منهم، بادّعاء الحقّ في النقد وحرية التعبير عن الرأي، فلا ضير من مناقشة الأفكار وتقييم المواقف ضمن حدودها، أمّا الإساءة للأشخاص والتلفيق عليهم، بحجة حرية التعبير فتلك مخادعة فجّة للذات، ذلك أنّ حرية التعبير في تناول أفكار الآخرين ومناقشتها أمر صحيح، وحقٌّ مشروع، أمّا المساس بكرامة الأشخاص، والتجريح في شخصياتهم، والتشكيك في نيّاتهم، فلا صلة لذلك كلّه بحرية التعبير بتاتًا، بل هو اعتداء سافر تجرّمه الأعراف والقوانين. وتشير النصوص الدينية إلى أنّ الله سبحانه ينتقم من الإنسان المتتبع لعيوب الآخرين، وأنّ من بحث في أسرار غيره أظهر الله سبحانه أسراره، وقد ورد عن رسول الله: «من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عوراته، ومن تتبع الله عوراته فضحه في جوف بيته»[7]  ، وعن الإمام عليّ: «ومن تتبع عورات الناس كشف الله عورته»[8]  .

إنّ شيوع مسلك البحث عن أخطاء وزلّات الآخرين سيجعل الجميع عرضة لأخطاره. فلا يظننّ أحدٌ أنه سيكون بمنأى عن ارتدادات هذا السلوك المشين في حال استفحل في الوسط الاجتماعي، لذلك ينبغي أن ينأى الجميع عن هذه الرذيلة حتى لا يساهم في تعزيزها في المجتمع، ويكون أحد ضحاياها، ولعلّ ذلك من المعاني التي تشير إليها النصوص، بأن الله يفضح ويكشف عيوب من يمارس هذا الدور.

 

الخطبة الثانية: أجواء العاطفة والحنان في الأسرة

ورد عن رسول الله أنه قال: «رحم الله عبدًا أعان ولده على برّه بالإحسان إليه والتألف له، وتعليمه وتأديبه»[9]  .

تمثل الأسرة الحاضنة الأولى والأهمّ التي ينشأ فيها الإنسان. حيث يفتح عينه على هذه الحياة، ويتشكل وعيه بها من خلال العائلة، فوسط أجواء الأسرة يتعلم الإنسان النطق ولغة التعامل، ومنها يكتسب العادات والأعراف والتقاليد، فرعاية الأسرة للطفل لا تساهم في نموه جسميًّا عبر توفير الغذاء وحسب، إنما إلى جانب نمو الجسم تنمو المشاعر والأحاسيس، وتزرع القيم والتوجّهات. لذلك تؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية أهمية دور الأسرة في صناعة شخصية الإنسان، فالإنسان الصالح غالبًا ما تصنعه أجواء الأسرة الصالحة، ولا عبرة بالاستثناءات في هذا السياق. من هنا فقد اهتمت مختلف الأديان والثقافات المعنية بالقيم النبيلة، بإصلاح وتحصين الأجواء الأسرية، وصناعة أجواء عائلية صالحة لنشأة وتربية الأطفال.

الإشباع العاطفي

إنّ هنالك بعدين رئيسين يحكمان صلاح الأجواء الأسرية. يتمثل البعد الأول في مستوى الحنان والاهتمام العاطفي الذي تغدقه الأسرة على أبنائها، فكلّما كان مستوى الحنان والعاطفة داخل الأسرة عاليًا، كان أفراد الأسرة أقرب إلى الصلاح، وهذا يشمل جميع أفراد الأسرة دون استثناء، بما في ذلك الأب نفسه، فالأب الذي يعيش في أسرة تغمره بالمحبة والاحترام، من قبل الزوجة والأبناء، سيكون أقرب إلى الراحة والاستقرار. ويجري الأمر ذاته مع الزوجة أيضًا، فالزوجة التي تعيش في أجواء تغمرها بالعطف والمحبة، تكون بطبيعة الحال أقرب إلى الصلاح والاستقامة، وكذلك الأمر مع الأولاد.

من هنا جاء تأكيد هذا الجانب، فالعلاقة داخل الأسرة يجب ألّا تكون أشبه بالعلاقة بين سكنة الفنادق وروّاد المطاعم، يتحولون لمجرد أفراد يجمعهم مبنى واحد، يوفر لهم السكن والطعام وحسب، وسط غياب تام لأجواء العطف والمحبة.

ولعلّ هذا هو ما يفسّر سبب بقاء الأولاد لفترات طويلة خارج المنزل، بحثًا عن الراحة وقضاء الأوقات مع الأصدقاء، فلا يعود للمنزل إلّا في أوقات النوم، ونادرًا يشارك الأسرة على مائدة الطعام. إنّ هذا يكشف عن أجواء خلل تنتاب الأسرة، التي ينبغي أن تكون أجواء جاذبة مستقطبة لجميع أفرادها، فالرجل يعود للمنزل ليشعر بالراحة والاطمئنان، وكذلك الحال مع المرأة والأولاد، فأجواء العطف والحنان مسألة مهمّة ينبغي أن يهتم بها الجميع داخل الأسرة.

وهناك نصوص دينية كثيرة تؤكّد أهمية إشاعة الحنان وترسيخ البعد العاطفي ضمن أجواء الأسرة. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «نظر الوالد إلى ولده حبًّا له عبادة»[10]  ، أي إنّ مجرد النظر إلى الابن بمحبة يُعَدّ عبادة، تشبه إقامة الصلاة والصيام وأداء الحج وقراءة القرآن. وفي حديث آخر عنه أنه قال: «من قبّل ولده كتب الله له حسنة، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة»[11]  ، وجاء عنه أنه قال: «رحم الله عبدًا أعان ولده على برّه بالإحسان إليه والتألف له وتعليمه وتأديبه»، إنّ من واجب المرء أن يستألف ولده ويجتذبه نحوه، إضافة إلى تعليمه وتأديبه، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: «إنّ الله ليرحم العبد لشدّة حبّه لولده»[12]  ، إلى غير ذلك من النصوص الدينية الكثيرة، التي تؤكّد ضرورة وأهمية وجود أجواء الحبّ والحنان داخل المنزل وضمن كنف الأسرة.

التربية والتوجيه الأخلاقي

أما البعد الثاني الذي ينبغي أن يحكم الأسرة فهو بُعْدُ التوجيه الأخلاقي والتربوي. وبإلقاء نظرة على الماضي، نجد أن الآباء والأمهات كانوا معنيين بالقدر الذي يتسنّى لهم، ببث القيم والأخلاق في نفوس الأولاد، فلم يكن آباؤنا وأجدادنا يجيدون القراءة والكتابة، وإنما كانوا يتداولون معظم معارفهم شفاهية من خلال سرد القصص والأساطير، فكان الأطفال ينامون على وقع حكايات جدّاتهم وأمّهاتهم، وقد لعبت هذه القصص والأحاديث دورًا في صناعة شخصية الأولاد وتنمية أجواء العاطفة في نفوسهم.

ولعلّ إحدى أبرز مشاكل الأسرة في العصر الحديث، أنها باتت أمام تحدّيات كبيرة، أبرزها تضخم الجانب الأناني في نفوس الأفراد، فالأب مهتم بشدّة بتلبية رغباته، والأم مشغولة بمصالحها، وعلاوة على الروح الأنانية يأتي تشعّب الاهتمامات وظروف الحياة المعقّدة، وهذه كلها باتت لا تصبّ في صالح الأسرة المعاصرة؛ لانعكاس ذلك على قلة وضعف اهتمام الأسرة بأفرادها قياسًا على الماضي.

لذلك بدأنا نرى انتشار بعض السلوكيات السلبية في صفوف أبناء مجتمعاتنا المحافظة، من ارتفاع معدّل الجريمة والانحرافات، وهذه نُذُرُ سوء ومؤشّرات خطر، ينبغي الوقوف عندها ومعالجتها، وأوّل سبل العلاج هو التوجه نحو الأسرة، وإعادة الاهتمام بتنمية أجواء الحنان داخلها، حتى ينعكس ذلك على جميع أفرادها. وإلّا فما الذي يدفع المرأة المتزوجة للشكوى من الجفاف العاطفي لولا انشغال زوجها عنها بمجالسة رفقائه وتلبية رغباته، ما يهدّد بخلق أرضية للانحراف داخل الأسرة، ويؤثر على تربية الأبناء.

الخدمات والقوانين المساعدة

لقد باتت مجتمعاتنا في حاجة ماسّة لسنّ القوانين المساعدة في مجال الأسرة. فبلادنا تحتاج إلى المزيد من القوانين والخدمات الاجتماعية التي تساعد الأسرة على القيام بدورها، فكلّما خففت أعباء الحياة عن الأسرة، من حيث كفاية المؤونة والسكن، فسينعكس ذلك إيجابًا، لناحية تماسك الأسرة، وقلة المشاكل، وانخفاض معدّل الانحرافات. وكذلك الحال مع القوانين المساعدة، ذلك أنه بالرغم من الالتزام الديني المتعاظم في بلادنا، إلّا أنّ الحاجة تبقى ماسّة لسنّ قوانين تساعد الأسرة على القيام بدورها.

ومن تلك القوانين المطلوبة ما يتعلّق بلمّ شمل الأسر العاملة، فمن غير المقبول بقاء الأم بعيدة ولفترات طويلة عن عائلتها وأولادها لأسباب العمل، هذه المعاناة الكبيرة طالما رزح تحتها الكثير من المعلمات والممرضات العاملات في أماكن نائية بعيدة، لماذا لا تعالج هذه المشكلة جذريًّا، لما لها من آثار سلبية؟

وكذلك الحال مع معدّل ساعات دوام المرأة العاملة، ذلك أنه كلّما كان دوام المرأة ميسّرًا انعكس ذلك على أجواء الأسرة وتربية الأبناء، وغير ذلك من متواليات سلبية، وإلّا ما المتوقع عائليًّا من امرأة تصل لمنزلها مرهقة بعد ساعات عمل طويلة، ودوام لفترتين في اليوم الواحد في حالات كثيرة!، هذه المرأة لن يتسنّى لها بالتأكيد إيلاء عائلتها وأطفالها وزوجها الاهتمام المناسب. وأيُّ جيلٍ صالح نترقّب أن تساهم هذه المرأة في صناعته إذا لم نشرع القوانين المساعدة لها للتفرغ لعائلتها؟.

وعلى هذا الصعيد ينبغي النظر اجتماعيًّا لقرار وزارة التجارة القاضي بإغلاق المحلات التجارية عند التاسعة مساء. ولسنا في هذا المقام بصدد مناقشة تأثيرات القرار اقتصاديًّا، غير أنه من الوجهة الاجتماعية سينعكس إغلاق المحلات التجارية عند التاسعة مساء على عودة المتسوقين وأفراد الأسر إلى منازلهم باكرًا، ومن المعلوم أن أغلب دول العالم تُغلق المحلات التجارية عندهم في وقت مبكر من المساء، فبعض الدول تُغلق المحلات التجارية فيها على الساعة السادسة، وفي دول أخرى على الثامنة، أو على العاشرة في دول قليلة، وثمة نقاش طويل حول فوائد هذا الأمر اجتماعيًّا وتربويًّا لجهة اجتماع أفراد العائلة بعد يوم طويل.

نحن بحاجة ماسّة إلى تشجيع الناس إلى الاجتماع إلى بعضهم بعضًا ضمن أجواء أسرية في منازلهم.

أعراف تضرّ بالأسرة

ومن الأمور التي تحتاج إلى ترشيد على هذا الصّعيد، هي تلك الأعراف والتقاليد، المرتبطة بالأعراس مثلًا، وخاصة في جانبها النسائي، حيث لا تنتهي مراسيم الزواج عند النساء إلّا عند وجه الفجر! ولنا أن نتصور تأثير بقاء الزوجة خارج المنزل طوال الليل، وعلى نحو متكرر بتكرر مناسبات الزواج في العائلة والأسر الصديقة، وتبعًا لذلك تركها زوجها، وبقاء أطفالها وحدهم أو برفقة الخادمات، فما الداعي لمثل هذه العادة السيئة؟ ومن الذي ألزمنا بها؟ وما الذي يمنعنا من التمرد عليها ووضع حدٍّ لها؟ إذْ من الخطأ الفادح أن تعتاد النساء على هذا السلوك لمجرد الخضوع لحكم العادات الاجتماعية المستحدثة.

وكذلك الحال بالنسبة للشباب الذين درجوا على السّهر في المجالس والديوانيات والاستراحات حتى أوقات متأخرة من الليل، كما لو أنهم بلا زوجات ولا أطفال لهم حقٍّ عليهم.

إنّ علينا أن نتجاوز العادات السلبية، وأن نهتم بإصلاح الأجواء الأسرية، إذا أردنا أن نربي جيلًا صالحًا. وذلك من خلال البعدين الآنفين؛ المتمثلين في توفير العاطفة والحنان، وتوفير التوجيه الأخلاقي والقيمي داخل الأسرة.

الجمعة 11 جمادى الآخرة 1435ﻫ الموافق 12 أبريل 2014م
[1] بحار الأنوار، ج٧٢ ص٢١٥، حديث14.
[2] غرر الحكم ودرر الكلم، ص173، حكمة 10.
[3] نهج البلاغة، الخطبة ١٧٦.
[4] جامع أحاديث الشيعة، ج١٤، ص٢٠٢.
[5] غرر الحكم ودرر الكلم، ص12، حكمة 280.
[6] حكم النّبيّ الأعظم، محمد الریشهری، ج4 ص625.
[7] الأمالي، الشيخ المفيد، ص١٤١، ح8.
[8] عيون الحكم والمواعظ، ص٤٣٨.
[9]   جامع أحاديث الشيعة، ج٢١ ص٤١١.
[10] مستدرك الوسائل، ج١٥ ص١٧٠، حديث2.
[11] بحار الأنوار، ج٧ ص٣٠٤، حديث74.
[12] الكافي، ج٦ ص٥٠، حديث5.