سوق الوضع والاختلاق في الأحاديث

 

قضى رسول الله ثلاثة وعشرين عامًا بين بعثته ووفاته، وهو يكدح في تبليغ رسالة الله للناس، لم يألُ جهدًا، ولا ترك وسعًا في تبيين مفاهيم الدين وأحكامه.

وحين رحل عن الدنيا، وكان لا بُدّ أن يرحل استجابة لسنة الله تعالى في الحياة، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، التي لا تستثني نبيًّا ولا وليًّا ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.

ترك لأمته سيرة مشرقة، وسنة هادية، وعترة طاهرة، إلى جانب كتاب الله تعالى، الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.

وإذا كان القرآن الكريم محصّنًا بإرادة إلهية من أن تمسّ نصّه يد التحريف والتغيير، فإنّ السنة النبوية كانت في معرض هذا الخطر الذي أصابها حتى في عهد رسول الله ، فقد اُختلقتْ عليه بعض الأقوال كذبًا، مما دفعه للتحذير الشديد حيث قال : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[1]، وقال : «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أحدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار»[2].

وورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[3].

وروى الإمام الجواد عن جدّه رسول الله أنه قال: «قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الْكَذَّابَةُ [الْكِذَابَةُ] وَسَتَكْثُرُ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[4].

 

  • دوافع الوضع والتزوير

وإذا كان هناك من يتجرّأ على رسول الله فيكذب عليه وهو حيّ يمارس دوره في قيادة الأمة، فإنّ حدوث ذلك بعد وفاته سيكون أكثر احتمالًا وتوقّعًا، وهذا ما حصل بالفعل، خاصة حين عصفت بالأمة الاختلافات السياسية والمذهبية، فقد حاولت بعض الأطراف تسويق نفسها، وتبرير سياساتها، والإعلاء من شأن رموزها وقياداتها، باصطناع أحاديث ونسبتها إلى رسول الله .

لذلك اختلقت أحاديث في فضائل الخلفاء والحكام، من قبل الأوساط الموالية لهم والمرتبطة بهم، كما اصطنعت أحاديث في ذمّهم ومثالبهم من الأطراف المعارضة لهم.

وكذلك الحال في معارك الصراع المذهبي، حيث انتشرت أحاديث في الترويج لبعض الفرق والمذاهب وتمجيد أئمتها، يقابلها أحاديث في التحذير من هذه الفرق والطعن في زعاماتها.

ومن يقرأ مصادر ومجاميع الحديث لمختلف المذاهب الإسلامية، يجد أحاديث متبادلة بين الأطراف المختلفة في الفضائل والمثالب والغلو والقدح.

وللمندسين في صفوف المسلمين من أتباع الديانات السابقة، ومن الزنادقة ممن أظهروا الإسلام، وسعوا للكيد به من الداخل، لهؤلاء دور ملحوظ في دسّ الأكاذيب واختلاق الأحاديث ضمن ثقافة الأمة، حتى أصبح العلماء يتحدثون عن ظاهرة (الإسرائيليات)، ويقصدون بها الأخبار التي تسربت إلى الثقافة الإسلامية من قبل عناصر يهودية دخلت في الإسلام.

 

  • تزوير المتديّنين

لكن الدافع الأخطر لوضع الأحاديث هو التديّن الزائف، الذي دفع بشريحة من العلماء والزهّاد لوضع واختلاق أحاديث لغرض تشجيع الناس على الإقبال نحو الشعائر والممارسات الدينية، ولردعهم عن مخالفة بعض الأمور الشرعية، عبر اصطناع أحاديث للترغيب والترهيب، فمن صلى هذه النافلة أو قرأ هذه السورة، أو أتى بهذه الشعيرة الدينية فله ألف قصر وألف حورية في الجنة، وآلاف الحسنات، ومن لم يقم بهذا العمل أصابه هذا البلاء وذاك الضرر.

وضمن هذا السياق اختلقت أحاديث وأخبار عن معاجز وكرامات وهمية للنبي أو لبعض الصحابة أو لأهل البيت ، وفي بعضها غلوٌّ فاضح، وذلك بمبرر توطيد ولاء الناس لقياداتهم الدينية.

ولأنّ أفراد هذه الشريحة ضمن السلك الديني، وظاهرهم الصلاح والزهد، فإنهم يتمتعون بثقة وقداسة في الأوساط الشعبية، توفّر لما ينتجونه ويبثونه أرضية القبول والتسليم.

كما أنّهم يجيدون دغدغة المشاعر الدينية، واستثمار عواطف الولاء الديني، وبذلك يخلقون للناس ثقافة دينية زائفة، قائمة على الكذب والافتراء، تصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية، والأدوار البناءة لخدمة قيم الدين وإعمار الحياة. وتجعلهم يعيشون عالم الأوهام والأساطير والممارسات الطقوسية والشعائرية المتضخمة.

قال ابن الصلاح: «والواضِعُونَ للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين للزّهد وضعوا الحديث احتساباً فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركنوا إليهم»[5].

وقد تبنّى مقولته مع تغيير طفيف الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي[6].

ومن أمثلة ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري: قِيلَ لأَبِي عِصْمَةَ (نوح بن ابي مريم توفي 173هـ)[7]: "مِنْ أَيْنَ لَكَ عِنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِ) فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ وَلَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِ عِكْرِمَةَ هَذَا؟، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَضَعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ حِسْبَةً[8].

وقيل عن غلام خليل: كان يتزهّد ويهجن شهوات الدنيا، وغلقت أسواق بغداد يوم موته، يسأل عن الأحاديث التي يحدّث بها، فيقول: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة[9].

وروي عن عبدالله بن المسوّر أنه: (كان يضع الحديث على رسول الله ، وَلا يضع إلّا ما فيه أدب، أو زهد، فيقال له في ذلك، فيقول: إنّ فيه أجرًا)[10].

وقيل لميسرة بن عبد ربه – أحد الرواة - : (من أين جئت بهذه الأحاديث؟ من قرأ كذا كان له كذا، قال: وضعته أُرغِّب الناس)[11].

 

  • استخدام الكذب من أجل الدين

وفي كتاب (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) يتحدث الشيخ حسين النوري (توفي 1320هـ) صاحب مستدرك الوسائل، عن ظاهرة الكذب والاختلاق للروايات والأخبار على لسان خطباء المنابر الدينية، والمبررات التي تجرّؤهم على ذلك، فيقول: (في ذكر بعض الشبهات التي حملت هذه الجماعة، بل بعض أرباب التأليف، على نقل الأخبار والحكايات التي لا أساس لها، والروايات التي لا يحتمل صدقها، أو التي يكون احتمال صدقها في غاية الضعف، وعلى افتراء الكذب، وجعل الأخبار ووضعها، واختلاق الحكايات المتضمنة للمصائب التي لا واقع لها، من أجل إبكاء المؤمنين وإضفاء الرونق على مجالس العزاء).

ويبيّن أنّ من ذلك: (ما نقل عن بعض مختلقي الكذب من الأخبار التي تمدح الإبكاء، وترغّب فيه، وما سُطّر في هذا المجال، مما يوحي بأن كلّ ما يحمل على البكاء، وما هو وسيلة للتفجّع وإسالة الدموع ممدوح ومستحسن، ولو كان كذبًا وافتراء).

ويضيف: (ولا يخفى على كلّ ذي شعور أنّ هذا النمط من الكلام خلاف ضروريات الدين والمذهب، وخروج عن الملة والإسلام. وجواب أصل هذه الشبهة مشروح في الفقه في كتاب المكاسب، ومجمله الذي يمكن إيراده هنا: أنّ المستحب مهما كان عظيمًا، لا يمكنه أن يعارض الحرام مهما كان حقيرًا، ولا يطاع الله من حيث يعصى، ولا يكون ما يوجب عقوبة الله وسخطه داعيًا للتقرب منه، وأن مورد كلّ المستحبات ما كان جائزًا في نفسه، مباحًا بذاته، أما إذا كان حرامًا، وتترتب عليه مفسدة عظيمة، تستوجب توجه النهي عنه، لا يبقى لذلك المستحب محلّ ولا مجال).

ثم يقول: (إنّ إبكاء المؤمن مثل إعانته على الخير، وقضاء حوائجه، لا بُدّ فيه من إحراز جوازه أولًا، بإجماع العلماء على ما نقله الأستاذ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه. أما الكثير من الوسائل التي تكون سببًا في الإبكاء أو الإعانة أو قضاء الحوائج، فلا يمكن إباحتها فيما إذا كانت في الأصل حرامًا، ولا يمكن لأخبار استحباب هذه الثلاثة أن تشملها وتخرجها عن الحرمة، فلا يمكن أن يصبح الظلم أو السرقة حلالًا، حتى لو كان في ذلك إعانة للمؤمن في أمر دينه أو في تزويجه. ومن أقبح المفاسد المترتبة على هذا النوع من الكلام، اختلاق الأكاذيب، وتجويز كلّ وسيلة محرمة تفضي إلى الإبكاء، إذ لا يوجد فرق في هذا الباب بين الكذب وسائر المحرمات وما قيل هناك يقال هنا) [12].

لهذه الأسباب والدوافع وغيرها راجت سوق الكذب، والوضع في الأحاديث والروايات والاخبار، مما أنتج تشويش الرؤية تجاه كثير من القضايا والمسائل الدينية، وانتشار أفكار وممارسات مبتدعة، وتضخّمًا في بعض الجوانب على حساب جوانب أخرى أكثر أهمية، وزيادةً في الفرقة والتباعد بين المسلمين، وغلوًّا في شخصيات الأنبياء والأئمة والأولياء.

 

  • سوق رائجة

إنّ الانسان ليذهل حينما يطّلع على الأرقام الهائلة للأحاديث والروايات التي يراها العلماء موضوعة أو غير معتبرة السند.

وربما وصل رصيد بعض الرواة إلى آلاف الأحاديث الموضوعة والمحرفة كـ (أحمد بن محمد المروزي) الذي يتهم بالتلاعب في أكثر من عشرة آلاف حديث، ونفس الرصيد لـ (صالح بن أحمد القيراطي) وبعضهم أربعة آلاف حديث، وثلاثة آلاف حديث، وأقلّ من ذلك وأكثر، حسب القائمة التي عرضها الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه: (الغدير في الكتاب والسنة والأدب)[13] حيث وصلت أرقام الأحاديث المكذوبة والمحرفة إلى (408.684) أربعمائة وثمانية آلاف وستمائة وأربعة وثمانين حديثاً!!

ومما يؤكّد ذلك ما يذكره أعلام المحدثين من انتقاء أحاديث كتبهم من بين أعداد ضخمة من الأحاديث التي أهملوها.

فالبخاري اختار أحاديث كتابه التي تبلغ بعد حذف المكرر (2761) حديثاً، من أصل (600.000) حديث[14].

ومسلم اختار أحاديث صحيحه الأربعة آلاف دون المكرر من (300.000) حديث.

أما أحمد بن حنبل فقد انتخب أحاديث مسنده البالغة (30.000) حديث من أصل 750.000) حديث.

والشيخ المجلسي (توفي 1111هـ) في كتابه: (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول) صحح من كتاب (الكافي) للشيخ الكليني (5072) حديثًا من أصل (16.199) حديثًا.

وأخيرًا جمع الشيخ آصف محسني الأحاديث المعتبرة (من وجهة نظره) من كتاب (بحار الأنوار) للشيخ المجلسي، فلم تزد على ثلاثة مجلدات، بينما يقع (بحار الأنوار) في مئة وعشرة مجلدات!

 

  • جهود تفضح الوضع والاختلاق

وهنا يجب أن نقدّر الجهود التي بذلها علماء الإسلام في مواجهة هذه المشكلة، حيث اجتهدوا في تمحيص رواة الأحاديث، وتقويم شخصياتهم، ليفرزوا الثقاة منهم عن الوضّاعين والكذابين، ومن أواخر تلكم الجهود موسوعة معجم رجال الحديث للسيد الخوئي وتقع في عشرين مجلدًا.

ووضع العلماء من السنة والشيعة، قواعد وضوابط في علم الرجال وعلم الحديث، وصنّفوا الكتب في رصد الوضّاعين والأحاديث الموضوعة، ومن أوائل هذه الكتب عند أهل السنة (علل الحديث ومعرفة الرجال) لعلي بن المديني (ت 234هـ). وكتاب المجروحين من المحدثين لمحمد بن حِبان السجستاني (354 هـ). ومن أبرزها في هذا العصر (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، في ثلاثة عشر مجلدًا.

وفي الجانب الشيعي كانت هناك جهود لشيخ القميين وفقيههم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري في تنقية تراث أهل البيت من الغلاة والوضاعين، وهو من أصحاب الأئمة: الرضا والجواد والهادي ، حيث شهّر بالزنادقة والغلاة، وفضح دورهم في دسّ الأحاديث المكذوبة على أهل البيت، وضعّف الرواة والمشايخ المفتونين بتزويراتهم، واستنكر على العبّاد والقراء ما اخترعوه من صلوات وأدعية، وطرد من بلدة قم جمعًا من أولئك المغالين والوضاعين، ليحمي المجتمع من تأثيراتهم.

ثم جاءت جهود الحسين بن عبيد الله الغضائري (توفي 411هـ) في علم الرجال، وجهود ابنه أحمد بن الحسين (توفي 450هـ)، وجهود الشيخ أحمد النجاشي (توفي 450هـ)، والشيخ الطوسي (توفي 460هـ).

وإلى عصرنا الحاضر حيث صنّف السيد هاشم معروف الحسيني (توفي 1403هـ) كتاب (الموضوعات في الآثار والأخبار) وكتاب (دراسات في الحديث والمحدثين)، وصنف الشيخ محمد تقي التستري (توفي 1415 هـ) كتاب (الأخبار الدخيلة) في خمسة مجلدات.

كما بذل الشيخ محمد باقر البهبودي (توفي 1436هـ) جهودًا كبيرة على هذا الصّعيد، وألّف عدة كتب نقدية وفرزية لعدد من مصادر الحديث عند الشيعة، كالكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه.

وما يزال الشيخ آصف محسني يتابع جهوده في غربلة وتنقية التراث الحديثي للشيعة، حيث ألّف (مشرعة بحار الأنوار) أشار فيها إلى الأحاديث المعتبرة في كلّ باب من أبواب موسوعة البحار. وأصدر أخيرًا (معجم الأحاديث المعتبرة) في ثمانية مجلّدات تضم كلّ ما ثبت لديه اعتباره في مصادر الحديث الشيعية، وقد بلغت 11.658 حديثًا[15].

والمأمول أن تستمرّ مسيرة التحقيق والتنقيح للتراث، وأن تتكثف الجهود نحوها أكثر في هذا العصر، حيث تشتدّ الحاجة لإبراز معارف الدين الحقيقية، وإماطة ما لحق بها من تشويه وتحريف، وقد أصبحت الظروف حاليًّا مهيأةً لتوجّهات النقد والتحقيق أكثر من السّابق، لتراكم الخبرات والتجارب، وتقدم مناهج البحث العلمي، وتوفر الأدوات المساعدة، كتقنية المعلومات الإلكترونية.

 

  • امتداد مسيرة التضليل

وبالرغم من هذه الجهود التي بذلت وتبذل في تنقيح التراث، وتصفية وتنقية الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته الكرام، إلّا أنّ هناك من يتجاهل كلّ ذلك، ويصرّ على الأخذ من كلّ ما في مخازن الحديث والروايات، بل يولي اهتمامًا أكبر للأحاديث والروايات الموضوعة، أو الضعيفة السند وفاقدة الاعتبار، إنّهم يأخذون روايات من كتب أُلفت في القرون المتأخرة كالقرنين التاسع والعاشر الهجريين وما بعدهما، دون وجود أثر لتلك الروايات في المصادر القديمة، ولا يسألون أنفسهم من أين وصلت هذه الروايات إلى مؤلفي هذه الكتب؟ هل نزل عليهم الوحي؟ أم أخبرهم بها الجنّ؟ أم اعتمدوا على مصادر لم يشيروا إليها؟

وحين يشيرون إلى بعض المصادر فإنّها مما لا يصحّ الاعتماد عليه، كالأخذ من كتاب مجهول المؤلف، أو من نسخة من كتاب لم تثبت صحة نسبته إلى مؤلفه.

فكيف يصحّ لمتشرّع الاعتماد على مثل هذه المنقولات، وترتيب الأثر عليها، ونشرها بين الناس منسوبة إلى النبي والأئمة، أو حاكية عن سيرتهم وحياتهم؟

وكنموذج على هذه الحقيقة ننقل ما توصّل إليه الشيخ محمد الرّي شهري واللجنة المساعدة له في تحقيق روايات واقعة الطف، يقول: (وردت في مصادر القرون الأخيرة، المئات ـ بل الآلاف ـ من الروايات الجديدة التي لا نجد لها أثرًا في المصادر القديمة).

كما أنّ (الأسلوب الذي اختارته المصادر الضعيفة في القرون الأخيرة لرواية واقعة عاشوراء، هو أُسلوب نسج القصص بدلًا من النقل التاريخي الموثّق، ولذلك فقد تحوّلت الروايات القصيرة في المصادر الأصليّة إلى قصص طويلة ذات الكثير من التفاصيل في هذا النوع من الكتب).

مؤكّدًا (تجاوز الكثير من المصادر المذكورة الحدود المعقولة، حتّى بلغت حدّ تجاهل كرامة أهل بيت الرسالة، بهدف إثارة عواطف الناس ومشاعرهم).

و (لم يدّعِ أحدٌ من مؤلّفي الكتب الضعيفة المعروفة أنّه كان تحت اختياره كتب معتبرة لم تكن في متناول الآخرين، وإنّما رواياتهم ليست مسندة عادة، بل أسندوا رواياتهم أحيانًا إلى كتب ضعيفة أمثالها "مع أنّ هذا الاستناد في بعض الموارد غير صحيح أيضا").

وتابع: (إنّ هذا النوع من الكتب يسند روايته أحيانًا إلى المصادر المعتبرة، ولكن يتّضح من خلال الرجوع إلى المصادر المذكورة أنّ نقلهم كان خاطئًا) [16].

وهناك كتب أعلن العلماء المحققون شكّهم في صحة نسختها المتداولة؛ لأنّها لم تصل إلينا بطريق موثوق، (توضيح ذلك: أنّ كتاب المحاسن، ومجموعة كبيرة أخرى من المصادر التي اعتمد عليها كلّ من العلامة المجلسي، والمحدّث الحرّ العاملي، في تأليف موسوعتي البحار والوسائل، قد وصلت إليهم عن طريق الوجادة، أي عثروا على نسخة أو أزيد من هذه الكتب في بعض المكتبات، أو عند بعض الباعة، فاستنسخوها، أو اشتروها، وأدرجوا ما فيها من الروايات في كتابهم، لا أنّها وصلت إليهم بتلقّيها عن الشيوخ بالقراءة عليم، أو المناولة منهم، ونحو ذلك، طبقة بعد طبقة إلى أن تصل إلى مؤلفيها ليعلم صحة انتساب النسخ اليهم، كما هو الحال في الكتب الأربعة ونحوها)[17].

والأدهى أنّ البعض لم يكتفِ بالنقل من هذه المصادر غير المعتبرة، بل أضاف إلى ذلك نقل المنامات والأحلام، والقصص المختلقة في الكرامات ونتائج بعض الأعمال والممارسات، مما يمكن اعتباره امتدادًا لدور الوضّاعين والمختلقين للأحاديث حيث تترتب عليه نفس النتائج والآثار.

وربما يكون دافع البعض في ذكر الأحاديث والروايات غير المعتبرة، والمنامات والقصص الأسطورية، في خطبهم وكتاباتهم، جذب المستمعين وجمهور المؤيّدين من عامة الناس، الذين يرتاحون لهذا النوع من الخطاب؛ لأنه يدغدغ مشاعرهم وعواطفهم الولائية، لكن ذلك يخالف تعاليم الدين، ويسبب غضب الربّ سبحانه، وتضليل الناس، وإلباس الحقّ بالباطل.

وقد يتكاسل البعض عن بذل الجهد في إعداد خطابه من المصادر المعتبرة، ويكتفي بالسائد المتداول من الحديث الذي لا يكلّف جهدًا في البحث والإعداد، لكن وسائل المعرفة أصبحت في متناول اليد، ويمكن الوصول إليها بأدنى جهد، حيث يستطيع الإنسان عبر محرّك البحث في الأجهزة التقنية، حتى ضمن الهاتف النقّال، الحصول على ما يشاء من النصوص الموثقة المعتبرة والمعلومات الصحيحة المفيدة.

 

  • دور الواعين

وواجب الواعين من أبناء الأمة العمل من أجل ترشيد الخطاب الديني، والاعتراض على حالات الإسفاف والتضليل في بعض الخطابات، والانحياز إلى جهود الإصلاح وتنقية التراث مما شابه من تحريف وتزوير، إذْ غالبًا ما يدفع من يتصدّى لهذا الدور الإصلاحي من العلماء والخطباء والكتاب ثمنًا باهظًا، بسبب تأليب العامة عليه من قبل المناوئين للتصحيح والإصلاح، المستفيدين من السّوق الرائجة للأساطير والخرافات.

ونختم بما رواه الْكَشِّيُّ: «عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا سَأَلَ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَ أَنَا حَاضِرُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا أشدّك فِي الْحَدِيثِ وَأَكْثِرْ إنكارك لِمَا يَرْوِيهِ أَصْحَابِنَا، فَمَا الَّذِي يَحْمِلُكَ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ؟

فَقَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: لا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثاً إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ لَعَنَهُ اللَّهُ دُسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثِ لَمْ يَحْدُثَ بِهَا أَبِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنا تَعَالَى وَسْنَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَإِنَّا إِذَا حَدَّثَنَا قُلْنَا: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجِلَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

قَالَ يُونُسُ: وَافَيْتَ الْعِرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قِطْعَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَجَدْتُ أَصْحَابَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَافِرِينَ، فَسَمِعْتُ مِنْهُمْ وَ َخَذْتُ كُتُبَهُمْ فَعَرَضْتُهَا بَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْكَرَ مِنْهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقَالَ لِي: إِنَّ أَبَا الْخَطَّابِ كَذَبَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَعَنَ اللَّهُ أَبَا الْخَطَّابِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابِ أَبِي الْخَطَّابِ يدسون هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَإِنَّا إِنْ تُحَدِّثُنَا [حَدَّثَنَا] حَدَّثَنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، إِنَّا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ، وَلَا نَقُولُ: قَالَ فُلَانُ وَفُلَانُ فيتناقض كَلَامَنَا، إِنَّ كَلَامَ آخِرَنَا مِثْلَ كَلَامٍ أَوَّلِنَا، وَكَلَامُ أَوَّلُنَا مِصْدَاقٌ لِكَلَامِ آخِرَنَا، وَإِذَا أَتَاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُم ْبِخِلَافِ ذَلِكَ فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ وَقُولُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ مَعَ كُلِّ قَوْلِ مِنَّا حَقِيقَةً وَعَلَيْهِ نُورٍ، فَمَا لَا حَقِيقَةَ مَعَهُ وَلَا نُورَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْطَانِ»[18].

* حديث الجمعة 3 ربيع الأول 1438ﻫ الموافق 2 ديسمبر 2016م.

[1] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي برقم 106.
[2] صحيح مسلم - باب تغليظ الكذب على رسول الله برقم 3.
[3] نهج البلاغة، خطبة (210).
[4] بحار الأنوار، ج 2، ص 225، حديث 2.
[5] معرفة أنواع علم الحديث، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ابن صلاح، ص204، دار الكتاب العلمية، 2002م.
[6] وصول الأخيار إلى أصول الأخبار - الصفحة ١١٥.
[7] قال الحاكم في كتاب (المدخل إلى الصحيح): رزق من كلّ شيء حظًا إلا الصدق، ص232.
[8] المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل، للحاكم النيسابوري، ص 134، رقم 42.
[9] الموضوعات، ابن الجوزي، 1/40.
[10] لسان الميزان، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ج5، صفحة 14، ترجمة بن المسور برقم 4463.
[11] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، جلال الدين السيوطي، صفحة 144.
[12] اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر، الشيخ حسين النوري، صفحة 219 – 221.
[13] ج 5، ص467.
[14] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج4، الصفحة١٩٠.
[15] دون المكرر، أما به فتبلغ 12.990 حديثًا. راجع: معجم الأحاديث المعتبرة، ج1، ص22.
[16] موسوعة الإمام الحسين في الکتاب والسّنّة والتّاريخ، ج5، صفحة 309.
[17] قبسات من علم الرجال، أبحاث السيد محمد رضا السيستاني، جمعها ونظمها السيد محمد البكاء، ج2، صفحة 170.
[18] اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج٢، الصفحة ٤٨٩، حديث 401، وعنه: بحار الأنوار، ج٢، الصفحة٢٥٠، حديث62.