شرف خدمة الحسين

مكتب الشيخ حسن الصفار
الخطبة الأولى: شرف خدمة الحسين
ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن طالبأنه قال: «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَ لَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ وَ قَلِيلَهُ كَثِيرٌ وَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي فَيَكُونَ وَ اللَّهِ كَذَلِكَ إِنَّ لِلْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَهْلًا فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ »[1]  .

تتّسم المجتمعات الحية بروح المبادرة. وذلك ما يتمظهر في ارتفاع منسوب الحافزية لدى الأفراد إزاء المصلحة العامة، وخدمة المجتمع، فحين تلمع فكرة إيجابية لعمل مفيد، في ذهن أيّ فرد من هذا المجتمع، فإنه سرعان ما يبادر للتصدي لتطبيق تلك الفكرة على أرض الواقع، إنّ المجتمع الحيَّ غالبًا ما يتنافس أفراده لعمل الخير، فكلّ واحد منهم يحاول أن يسبق الآخرين، حتى مع علمه بأن الآخرين يتحفزون للقيام بذات العمل، فهو لا يقبل أن يسبقه الآخرون لعمل الخير، وهذا عين ما تشير إليه الآية الكريمة في وصف المؤمنين: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، أي التنافس في أعمال الخير. 

في مقابل ذلك تهيمن على المجتمع المتخلف نفسية التواكل. حيت يتكل كلّ واحد منهم على الآخر، ويكل الأمر إلى غيره، فتجد الأفراد ينتظر أحدهم قيام الآخرين بالأعمال المفيدة، فيما يتسمّر هو في مكانه. وحتى إذا ما لمعت في ذهن الواحد من هؤلاء فكرة إيجابية، فإن أول ما يخطر على باله أن يتنصّل من المسؤولية، ويلجأ «للإفتاء» بها للآخرين، فتراه يُردّد عبارة؛ أن المفروض بالناس أن يفعلوا هذا، ويجب على المجتمع أن يصنع ذاك!. ويبدو أنّ غياب المبادرة في قبال «توزيع المفروضات»، سلوك ملحوظ خلال الاجتماعات العامة، والجلسات الشللية، حتى مع اقتناعهم بجودة أفكارهم الذاتية.

إنّ السمة الأبرز في المجتمعات المتخلفة هي انتظار الأفراد أحدهم الآخر للقيام بالعمل، ولربما انسحب ذلك السلوك حتى على أبسط الأشياء، إذ لا يعدم المرء من رؤية جماعة جلوس في مكان وقد شعروا بالحر، فيتكاسل كلّهم عن تشغيل جهاز التكييف، متمنّيًا كلّ واحد منهم أن يقوم الآخر بفعل هذا الأمر!. 

ينبغي للإنسان أن يكون مبادرًا لأعمال الخير، وكلّ ما يخدم المصلحة العامة. إنّ توجّهات الخير، كما توجّهات الشّر، ترتبط بالنزعة الذاتية عند الإنسان، فهناك نفوس ميّالة إلى القيام بأعمال الخير، وهناك نفوس نزّاعة لارتكاب أعمال الشّر، وذلك عين ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [سورة الشمس، الآيتان:7-8]، وما دام الأمر على هذا النحو، فلماذا لا يكون المرء سبّاقًا إلى فعل الخيرات، ولماذا ينتظر قيام الآخرين بفعل الخير نيابة عنه، فيكونون هم المبادرين والسبّاقين، سيّما وأن القرآن الكريم يقول: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، في دعوة صريحة إلى التسابق في هذا الشأن، و يقول تعالى في آية أخرى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآيتان:10-11]. 

عوائق المبادرة للخير:

هنالك جملة عوامل تمنع الإنسان من المبادرة إلى فعل الخيرات. ومنها: استصغار المرء بعض الأعمال باعتبارها أعمالًا جزئية، يرى نفسه أكبر من أن يقوم بها، والحقيقة أن أيّ عمل خير، يستحق المبادرة إليه، ولا ينبغي تحقيره بأيِّ حالٍ، وما يجري في هذه الحال أنّ الشيطان يريد أن يحول بين المرء وبين عمل الخير، فيسوّل في نفسه، بأنه أرفع من أيّ يقوم بذلك العمل، أو أنّ ذلك العمل ليس على قدر من الأهمية، وعلى هذا النحو يمضي الشيطان في حرمان المرء عن القيام بأعمال الخير. من هنا نجد أمير المؤمنين عليّ بن طالبيقول: «افعلوا الخير ولا تحقّروا منه شيئًا، فإنّ صغيره كبير، وقليله كثير، ولا يقولنّ أحدكم أنّ أحدًا أولى بفعل الخير مني، فيكون والله كذلك، فإنّ للخير والشّر أهلًا، فمهما تركتموهما كفاكموه أهله»، إذا وجد المرء عمل خير، فليبادر إلى فعله، وليتجاوز وساوس الشيطان الذي يحقّر ويصغّر في العين أعمال الخير، فيحول بين المرء والقيام بها، ويشدّد الإمامالقول بأن أصغر أعمال الخير هو عمل كبير، وأنّ قليلها كثير. ويقولفي كلمة أخرى: «لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ»[2]  ، وهذا أشبه بأن يجد المرء مبلغًا زهيدًا في جيبه، في قت تجمع فيه التبرعات لأعمال الخير، فيتردّد في دفعه حياءً أو استصغارًا، مع أنّ دفع هذا المبلغ الضئيل خير وأفضل من الامتناع عن التبرع تمامًا.

 أما العامل الآخر الذي يمنع الإنسان من فعل الخيرات: فهو استصغاره لنفسه عن القيام ببعض أعمال الخير. فبخلاف العائق الأول الذي يستصغر فيه المرء العمل، إنه هنا بإزاء عائق من نوع آخر، وهو استصغار نفسه أمام العمل، فيستصعب القيام بعمل يراه كبيرًا، ويرى بأنّ غيره ومن هم أكبر منه أجدر أن يقوموا بذلك، وهذا أيضًا من إيحاء الشيطان. إنّ على المرء أن يبادر بنفسه إلى عمل الخير، وقد ورد في هذا الشأن: «المرء حيث وضع نفسه»[3]  ، فما دام المرء يجد في نفسه إمكانية القيام بعمل الخير، فلا ينبغي أن يسمح للشيطان أن يثبّط من عزيمته، فكم من أفراد بادروا للقيام بأعمال كبيرة، لم يكن المرء ليحسب للوهلة الأولى أنهم قادرون على القيام بها، فإذا بهم يفعلون وينجزون ما تقاعس عنه الكثيرون، وذلك ما هو ملحوظ في العديد من الأعمال والمشاريع الاجتماعية والدينية والثقافية، التي لم تكن لتأخذ طريقها للنور لولا أن انبرى أمثال هؤلاء الأفراد للقيام بها، بعد أن نالوا التوفيق من ربّ العالمين. وهذا عين ما أشار إليه أمير المؤمنينبقوله: «ولا يقولنّ أحدكم أنّ أحدًا أولى بفعل الخير منّي، فيكون والله كذلك»، ذلك أنّ انسحاب المرء من أداء عمل الخير، إنما يفسح المجال لغيره للقيام بذلك، فهو إقرار ضمني بأفضلية الآخر عليه.

عاشوراء فرصة لأعمال التطوع:

وفي هذا الصّدد، يمكن اعتبار موسم عاشوراء أحد أبرز المناسبات المؤاتية للعمل التطوعي واسع النطاق. فهذا الموسم يعتبر مناسبة لترسيخ القيم الأخلاقية، وتعزيز الولاء للدين والنبي  وأهل بيته الطاهرين ، وتمتين التلاحم الاجتماعي، حيث يبدو مجتمع المؤمنين متلاحمًا تحت راية واحدة، يُسهم أفراده في القيام بالجهود العظيمة المباركة، في إحياء ذكرى استشهاد أبي عبدالله الحسين . إنّ على كلّ فردٍ من المؤمنين أن يسأل نفسه، عوضًا عن الاكتفاء بدور المتفرج أو المستهلك، عمّا بمقدوره أن يقدم في هذه المناسبة الزاخرة بالأعمال الأهلية التطوعية، التي يشارك فيها الآلاف من الناس المدفوعين بالحبّ لسيّد الشهداء ، والولاء لأهل البيت ، بمعزل عن أيّ تصدٍّ رسمي لتنظيم المناسبة. 

لا بُدّ وأن يقف كلّ فردٍ من أفراد المجتمع، موقف النشط المتفاعل حيال مناسبة عاشوراء. بأن ينخرط في أيّ مجال من مجالات العمل التطوعي، عن طريق المساهمة الفكرية، ورفد العاملين بالآراء والأفكار والبرامج المقترحة، سيمّا وأننا لا نزال نراقب كيف يساهم أبناؤنا بالمزيد من المبادرات الإبداعية عامًا بعد عام. إننا جميعًا مدعوون للمساهمة الفعالة على كلّ المستويات، في تطوير الفعاليات المصاحبة لمناسبة عاشوراء، على نحو أفضل. ولا ينبغي بأيِّ حالٍ أن يستصغر أحد أو يحتقر فكرة ما، كما لا يجوز أن يستصغر نفسه من أن يساهم ولو بفكرة. 

كما يفترض أن يساهم الجميع ماليًّا في دعم مختلف المناشط المصاحبة لمناسبة عاشوراء. ولو باليسير، ولا ينبغي لمؤمن أن تمرّ عليه هذه المناسبة، ولا ينفق شيئًا من ماله في هذا السبيل. إنّ من غير المناسب أن يتنصّل أحد عن دعم الفعاليات الحسينية؛ لأنّ الآخرين قد قاموا بواجبهم، ولماذا يرضى الواحد بأن يكون الآخرون خيرًا منه؟

فمن لديه القدرة على المساهمة المباشرة في خدمة المجالس الحسينية، فدونه ذلك، ومن يستطيع المساهمة بطباعة الكتاب الحسيني المخصص للتوزيع على روّاد المجالس الحسينية فليفعل، ومن يبتغي دعم الفضائيات التي تغطي المناسبة فالمجال مفتوح أمامه، وكذلك المساهمة في الإطعام، أو المشاركة في المواكب. المطلوب على كلّ حالٍ بذل الجهود لإحياء المناسبة على أفضل وجه، وألّا يفوّت أحدٌ على نفسه شرف خدمة أبي عبدالله الحسين .

ملء الفراغات وسدّ الثغرات:

ومن المهم جدًّا المبادرة إلى سدّ الفراغ، في حال وجود شاغر، أو نقص، أو ثغرة لم يلتفت إليها أحد، ضمن مختلف الفعاليات العاشورائية. ذلك أنه لا تعدم بعض الفعاليات من النقص، إنْ على المستوى الاجتماعي أو الإعلامي أو الثقافي. فمثلاً مسألة الازدحام المروري، حيث تبدو الحاجة ماسّة حينها لمن ينبري لتنظيم حركة مرور المركبات، وتسهيل حركة الناس. والحال نفسه يجري مع مسألة النظافة، ذلك أنه من المهم إبراز مناسبة عاشوراء على أفضل وجه، فلا غضاضة ولا عيب، بل إنّه من الشرف أن يقوم جماعة على تنظيف الشوارع التي تسلكها مواكب العزاء، أو تلك التي تعجّ بالمضائف والحسينيات وحركة الناس، فهذا مما ينبغي التوجه إليه، ولا يقولنّ أحدٌ إنّه أكبر من أن يقوم بهذا العمل، أو يستصغر أيّ جانب من جوانب الخدمة في هذه المناسبة العظيمة.

كما أنّ من المهم أن يسهم الجميع في تعميم الأفكار المفيدة المتداولة ضمن مجالس عاشوراء. فأنْ يستمع أحدنا إلى جملة أفكار مفيدة تطرح عبر مختلف المجالس، فذلك ما ينبغي معه تعميم وترويج تلك الأفكار على نطاق واسع، وعبر مختلف وسائل النشر. وأن يلعب كلّ واحدٍ دورًا في دعوة الناس إلى مزيد من المشاركة في هذه المناسبة.
الخطبة الثانية: كيف نفهم موقف الآخر؟

 ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 24].

 حين يؤمن الإنسان بفكرة أو توجه ما، وتمتلئ نفسه ثقة وقناعة بها، فإنّه غالبًا ما يقف متسائلًا عن مبررات الموقف المخالف لدى الآخرين، وعن سبب نأيهم عن الإيمان بذات الفكرة التي يؤمن بها، ويركن إلى صحتها، ويثق بأدلتها، ناهيك عمّا يعتقده فيها من وضوح وجلاء تام.

إنّ هناك منهجين في النظر إلى الموقف المخالف، والتعامل معه؛ أولهما منهج الحوار الندي، وثانيهما منهج التعالي على الآخرين.

منهجية الحوار

ويعتمد المنحى الأول في التعامل مع المختلفين في الرأي والفكر، على اتخاذ الحوار منهجًا وطريقة. وذلك ما يفترض الندية مع الآخر بداية، فأيّما طرف يبتغي الحوار، وهو ينظر لنفسه سلفًا باعتباره صاحب فكر وباحث عن الحقّ، فهو بالضرورة مدعو للنظر إلى الآخر على نفس المنوال. إنّ حالة الندية المتوخّاة بين المتحاورين، تتضمن بطبيعة الحال النأي عن الافتراض بأنّ أحد الطرفين أكثر أهمية، أو أعلى كعبًا من الآخر. ويمكن الوقوف على منهج القرآن الكريم في هذا الشأن، حين أمر الله سبحانه نبيّه محمدًا : بأن يخاطب كفار قريش، وفق المنطق الذي تتناوله الآية الكريمة ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّـهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورةسبأ، الآية:24]. هكذا يجري منهج الحوار، فكلا الطرفين لديه رأي مختلف عن الآخر، والسبيل إلى فضّ الخلاف هو الحوار والنقاش في مورد الاختلاف، على افتراض إمكانية ورود الصواب والخطأ على كلا الطرفين، حتى مع الاستبعاد الكلي لورود الخطأ على النبي ، وإنما أراد تعالى أن يجعل هناك حالة من الندية بين الطرفين المتحاورين.

 التعالي على الآخرين

أما المنحى الآخر: فهو التعالي على الآخرين. إنّ المتعالين على غيرهم يفترضون أنهم الوحيدون القادرون على التفكير، وأنهم الأكثر حرصًا على بلوغ الحقّ، فيما ينظرون للآخرين باعتبارهم قصّرًا، أو أنهم معاندون يعرفون الحقّ لكنهم يصرّون على مخالفته.

 إنّ آيات القرآن الكريم تسلك في تربية الإنسان منحى آخر، وذلك بأن تفرض على المرء أن يتفهم حقيقة موقف المخالفين، فليس كلّ مخالف في الدين أو المذهب أو الراي، هو معاند ومصرّ على ركوب الخطأ، واتّباع الباطل، وإنما قد تكون لدى الآخر براهينه وأسبابه، التي لا يمكن الوقوف عليها وفهمها إلّا من خلال الحوار. وإذا شئنا أن نذهب بعيدًا، فلنفترض أن هذا الآخر واقع في الاشتباه، فقد أراد بلوغ الحقّ إلّا أنه ضل الطريق. وهذا عين ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالبفي الخوارج: «فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»[4]  ، فقد كانيرى أن الخوارج إنما قاموا بما قاموا به طلبًا للحقّ، إلّا أنهم أخطؤوه، فيما طلب قوم معاوية الباطل فأصابوه. 

وبخلاف الوقوع في الاشتباه، قد تكون ظروف البيئة لعبت تأثيرها في الطرف الآخر، فجعلته أكثر ميلًا نحو رأي بعينه، فلربما كان المحيط الذي يتواجد فيه حاجبًا له عن بلوغ الحقّ، وبذلك لا ينبغي افتراض العناد تلقائيًّا في كل المختلفين.

ليس كلّ مخالف معاندًا

 لقد خطّ القرآن الكريم منهجًا واضحًا في التعامل مع المختلفين. ويتضح ذلك جليًّا في قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ، ذلك أنه مع جلاء الحقّ الذي عليه النبي ، القائم على وحدانية الله والعبودية له تعالى اسمه، لكنه  مع ذلك يتوجه إلى الكفار طالبًا الحوار معهم، وداعيًا إيّاهم إلى تقديم البراهين على مزاعمهم. إنّ الآية الكريمة تقرر حقيقة لافتة في قوله تعالى: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنبياء، الآية:24]، ذلك أنّ أكثر أتباع الأديان والمذاهب، ومختلف العقائد والآراء، لا يعلمون الحقّ، إنما هناك قلة من هؤلاء ممن يعلمون الحقّ لكنهم معاندون، وحالة العناد هذه أكثر ما تصيب الزعامات، ومن لهم مصلحة مباشرة في الإصرار على آراء وأفكار معينة، وإنْ كانت بعيدة عن الحقّ، أما عامة الناس فهم في الغالب إمّا مضللون أو مقصرون، ومع أنّ هذا لا يعفيهم من البحث عن الحقّ، إلّا أنه لا يمكن وصفهم بالعناد، حيث لم يكن الحقّ يومًا واضحًا عندهم ليصرّوا على مخالفته.

 تقبّل الاختلاف

 إنّ هناك جملة من النصوص الدينية التي تدفع الإنسان إلى التعايش مع المختلفين معه فكرًا ورأيًا. ومردّ ذلك إلى أنه من المتعذّر على أيٍّ كان أن يفرض آراءه وأفكاره على الآخرين، مهما بلغت درجة اقتناعه بها. فقد جاء في الآية الكريمة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وتشير الآية على نحو قاطع إلى عدم إمكانية فرض الرأي على الآخرين. فقد يكون لدى الآخرين أدلتهم التي اقتنعوا بها، وليس من المتوقّع أن تتفق جميع الآراء حول فكرة معينة. 

 ولعلّ أقرب مثال على ذلك هو اختلاف الفقهاء في آرائهم وفتاواهم الدينية، حتى ضمن المذهب والمدرسة الواحدة، بل حتى لو كانوا متواجدين في المكان عينه، كما نرى ذلك جليًا في الحوزات العلمية، التي يتجاور فيها الفقهاء، حيث يتجه كلٌّ منهم لتقرير بحثه العلمي باستخدام أدلته ومبانيه التي يرجع إليها ويرى أرجحيتها، دون أن يطلب أن يتنازل أحد الفقهاء عن آرائه لصالح الآخر، ولا يمكن اتهامهما أو أحدهما بالمعاندة، سيما إذا بذل الفقيه ما في وسعه للتوصل للحق فهو معذور، وكما ورد في الحديث: «إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»[5]  .

 إنّ المنهج القرآني في استيعاب حالة الاختلاف، ينبغي أن يمنحنا سعة الأفق، ورحابة الصدر في التعامل مع الاختلافات التي تنشأ على نحو طبيعي في كلّ مجتمع بشري. إنّ هناك صنفًا من الناس تتضخم عندهم الاختلافات الجانبية، حتى يبلغ عندهم حدّ الطعن في تديّن ونزاهة المختلفين معهم، تارة تحت مزاعم تمييع الدين، وأخرى تحت شعار مخالفة العقيدة، والخروج على الملة، وثالثة بدعوى العمالة والخيانة. إنّ التسرّع في طعن الناس في تدينهم ونزاهتهم يأتي بخلاف المنهج القرآني. ويأتي السؤال هنا عن سبب غياب الافتراض بأنّ للآخرين أدلتهم، أو حملهم على الاشتباه في الحدّ الأدنى. إنّ مردّ هذه النزعة المتسرّعة في النيل من الآخرين هو ضيق الأفق، المخالف تمامًا لمنهج القرآن الكريم.

 اتّهام الناس في أديانهم

 وقد بلغ ضيق الأفق بالبعض أن يُخرج الناس من دائرة الدين والمذهب، ويحرمهم الجنة، ما لم يوافقوا رأيه في فكرة معينة، أو ممارسة طقس مختلف بشأنه. 

 ومما يذكر في هذا الشأن، أن المسيحيين الكاثوليك، كانوا يعتقدون في القرون الوسطى، أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من اغتسل في صغره غسل التعميد الكنسي، وتحديدًا على يد الكاهن، وفي داخل الكنسية، ليكون بذلك مسيحيًّا حقًّا، وبناءً على ذلك فإنّ كلّ من لا يجري عليه هذا الطقس فهو لا يدخل الجنة، بما في ذلك الأنبياء السابقون، كنبي الله إبراهيم وموسى، حتى مع احترامهم لهما واعترافهم بنبوتهما، غاية ما هناك أن يتوسّط لهما، نبيّ الله عيسىفيدخلهما معه الجنة، كلّ ذلك لأنّهما لم يغتسلا غسل التعميد الكنسي[6]  !. 

 إنّ الانسان المؤمن ينبغي أن يكون واسع الأفق، وأبعد ما يكون عن اتّهام المختلفين معه، في دينهم ونزاهتهم. بل يلتمس للآخرين الأعذار والأسباب، التي دفعتهم لتبني قناعة يختلف معهم بشأنها.

 إنّ أئمة أهل البيت كثيرًا ما كانوا يحثّون شيعتهم على احترام بعضهم بعضًا، حتى ورد في الرواية عن الإمام الصادق : «ما أنتم والبراءة، يبرأ بعضكم من بعض، بعض المؤمنين أكثر بصيرة من بعض، وبعضهم أكثر عبادة من بعض، وبعضهم أنفذ بصيرة من بعض، وتلك هي الدرجات»[7]  . إنّ علينا أن نؤكّد أهميّة التحلّي بسعة الأفق، والتسامح مع المختلفين، وتفهّم موقف الآخرين، حتى لا نساعد على تشظّي مجتمعاتنا وزرع الخلاف بين المؤمنين.

الجمعة 30 ذو الحجة 1435ﻫ الموافق25 أكتوبر 2014م
[1] نهج البلاغة، حكمة 422.
[2] نهج البلاغة، حكمة 67.
[3]غرر الحكم ودرر الكلم. ص61، حكمة 1903.
[4] نهج البلاغة. خطبة61.
[5]محمد بن علي الشوكاني. الفتح الرباني، ج6، الطبعة الأولى1423ﻫ، (صنعاء : مكتبة الجيل الجديد)، ص 3090.
[6] حيدر حب الله، التعددية الدينية نظرة في المذهب البلورالي، الطبعة الأولى 1421ﻫ، (بيروت: الغدير للدراسات والنشر)، ص141.
[7] وسائل الشيعة، ج ١٦ص١٦٣، حديث 21246.