معطيات الدعاء ووساوس القنوط

مكتب الشيخ حسن الصفار

جاء عن الإمام زين العابدين: «المؤمن من دعائه على ثلاث: إمّا أن يدّخر له، وإمّا أن يعجل له، وإمّا أن يدفع عنه بلاءً يريد أن يصيبه»[1]  .

يُعَدّ توثيق الصلة بين العباد والخالق تعالى مهمة أساس من مهام الأنبياء والقادة الإلهيين. ذلك أنها تعكس حقيقة قائمة، مفادها أنّ الإنسان مخلوق لله، وأمره بيده سبحانه، وهو مرتبط في كل تفاصيل حياته ووجوده بالله، فالتأكيد على هذه الصلة، إنما هو تجلية وإظهار لحقيقة واقعة، مهما غفل الإنسان عنها.

كما أنّ صلة الإنسان بربه تعبّر عن حاجة نفسية روحية، هو ذاته أحوج ما يكون لها، فهو المحتاج أولًا وأخيرًا للصلة بربّه وخالقه، لما تتقاذفه من أمواج التحدّيات والمشاكل والضغوطات المختلفة. من هنا يحتاج إلى منبع يرجع إليه ويستلهم منه، لكي يكون صامدًا ثابتًا أمام مشاكل الحياة وضغوطاتها، وليس هناك من منبع أهم وأفضل من الاتصال بالله سبحانه وتعالى. وحيثما تعمّقت صلة الإنسان بربه كان أقدر على مواجهة الضغوط والأزمات، لما في ذلك من لجوء واتّكاء على القوة المطلقة القادرة المهيمنة على الكون والحياة، وهذا ما يمنح الإنسان الصمود والثقة والاطمئنان.

وتمثل الأزمات الشديدة أكثر الأوقات التي يحتاج فيها الإنسان إلى التواصل مع الله سبحانه وتعالى. حيث لا يحتاج الإنسان في الشدائد إلى من يذكره بربه، إذ يكفيه الشعور بالأزمة، وتزايد الضغط والتحدّي، إلى الاندفاع واللجوء ذاتيًا نحو خالقه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا..، ومضمون الآية الشريفة: أنه عندما تنزل بالإنسان النازلة، فإنه يندفع بذاته للبحث عمّن يلجأ إليه، في سبيل الخروج من تلك النازلة، فلا يجد أقرب إليه من الله سبحانه وتعالى.

الاتصال بالله وضبط السلوك

إنّ الاتصال بالله تعالى عامل أساس في ضبط مسيرة الإنسان وسلوكه. فالإنسان عرضة على نحو دائم لسيطرة الشهوات، والاستسلام للرغبات غير المنضبطة، لتأتي حينها الصلة بالخالق تعالى فتبعث في نفسه الجانب المقابل للنزعات الشهوانية، ألا وهو جانب القيم والميول الفطرية الوجدانية الخيرة.

ويعتبر الدعاء من أبرز وسائل التواصل المباشر مع الله جلت قدرته. إذ يقوم الدعاء، أكثر من أيّ عبادة أخرى، بمهمة تعزيز التواصل بين العبد وربه، لما ينطوي عليه من شعور عميق بحاجته إلى ربه، وادراكه وتسليمه التام بأنّ كافة الأمور بيده سبحانه. من هنا كان الدعاء من أهمّ العبادات، وضمن هذا السياق نفهم ما ورد عن رسول الله حين قال: «الدعاء مخّ العبادة»[2]  ، أي إنّ الدعاء يمثل جوهر العبادة، وورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «أحبّ الأعمال في الأرض إلى الله الدعاء»[3]  ؛ لأنّ الدعاء يعني في جوهره التعبير عن صميم الحاجة، وإدراك الأهمية للصلة بالخالق تعالى.

لقد شددت مختلف الشرائع السماوية على الاهتمام بالدعاء. ولطالما ورد الحثّ على توجه الإنسان إلى بارئه بالدعاء في كلّ حين، وعند كلّ شأن من شؤونه، وقد ورد في الحديث القدسي عنه تعالى مخاطبًا أحد الأنبياء: «يا موسى، سلني كلّ ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، وملح عجينك»[4]  ، وذلك في إشارة إلى أهمية التعلق به تعالى في أصغر الأمور وأكبرها، التي لا يتسنّى للإنسان بلوغها إلا بقدرة الله سبحانه ورحمته، حتى وإنْ كان بمقدار استنشاق الهواء!، لذلك لا بُدّ أن يستحضر الإنسان في نفسه هذه الحالة دائمًا وأبدًا.

زين العابدين وأدعيته الملهمة

لقد كان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين من القادة الإلهيين، الذين اهتمّوا أشدّ الاهتمام بمسألة الدعاء. وهذا لا ينتقص على أيِّ نحوٍ من اهتمام سائر الأنبياء والأئمة والأولياء بالدعاء، غير أنّ ظروف كلّ نبيّ أو إمام ربما تدفع باتجاه إبراز بُعد مُعيِّن من الأبعاد، وقد برز الدعاء كأحد أبرز الأبعاد في حياة الإمام زين العابدين. لذلك ترك الإمام للأمة بل للبشرية من بعده تراثًا روحيًّا عظيمًا، متمثلًا في الأدعية الرائعة المروية عنه، ومن أبرزها أدعية الصحيفة السجادية.

وقد احتوت الصحيفة السجادية على أغراض وأبعاد روحية متعددة. فهناك الأدعية التي غرضها التقرب من الله تعالى ونيل رضاه ومغفرته ورحمته، وهناك في الصحيفة من الأدعية التي غرضها تحصيل المكاسب الأخروية، لينال الإنسان المقام الرفيع والنعيم الكبير الذي أعدّه الله تعالى للمتقين في الآخرة. حيث يتوسل الإنسان المؤمن بالدعاء، مدركًا أن ما يتحصل عليه برحمة الله ولطفه، هو أكثر مما يناله ويستحقه عن جدارة واستحقاق لقاء عمله، ذلك أنه مهما عمل العبد يبقى مقصّرًا تجاه خالقه عزّ وجلّ، ولا ينال أعظم جوائزه في الآخرة إلّا برحمة الله وجوده وكرمه.

كما تنطوي الصحيفة على غرض ثالث من أغراض الدعاء، وهو بُعد السّمو في آفاق الفضائل والمكارم، وذلك ما يبدو جليًّا في العديد من الأدعية، سيّما دعاء مكارم الأخلاق، الذي حوّل القيم الأخلاقية إلى مطالب ينبغي للإنسان السعي إلى تحصيلها، وطلب توفيق الخالق جلّت قدرته لها، الأمر الذي يعزّز دون شك اندفاع المرء باتجاه تلك القيم.

كما حفلت أغراض الدعاء في الصحيفة السجادية بجانب الاهتمام بالمصلحة العامة. وخاصة تلك المتعلقة بأوضاع الأمة وأحوال البشرية كافة، على غرار الدّعاء لأهل الثغور ومن فقراته: «أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبغَ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ»[5]  ، وهذه بأجمعها من أغراض المصلحة العامة.

إلى ذلك ورد في أدعية الصحيفة أيضًا أغراض متعلقة بمعالجة المشاكل الطارئة التي قد تنتاب الإنسان في مختلف مفاصل حياته، من حالات المرض، وقضاء الحاجات، وحلّ المشاكل، وما إلى ذلك من أغراض ينبغي أن يتوجه فيها الإنسان إلى بارئه لتحقيق خير، أو دفع بلاء.

استعجال إجابة الدعاء

ليس من العيب أن يلجأ الإنسان إلى خالقه، لسؤاله تعالى تحقيق جميع مطالبه بالمطلق. بل العكس هو الصحيح، حيث يحبّ سبحانه وتعالى عباده الذين يلجأوون إليه في كلّ صغيرة وكبيرة، لما في ذلك من تعزيز العبودية، والخضوع لله تعالى في نفس الإنسان.

غير أنّ من أشدّ الأمور خطورة، هو إمكانية انسياب وساوس الشيطان لنفس الإنسان، ذلك أنه قد لا يلمس تحقق بعض مطالبه المتعلقة بمصالح عاجلة وآنية، كأن يكون المرء واقعًا تحت ضغط الحاجة الملحّة، أو الكربة الشديدة، أو المرض العضال، ليتجه حينها إلى الإلحاح والمبالغة في الدعاء، مستعجلًا حلّ مشكلته، وتحقيق مطالبه، وفي حال تأخر الإجابة، تحضر في هذه اللحظة تحديدًا وساوس الشيطان، التي ربما بلغت بالإنسان حدّ التشكيك في صدق وتحقق الوعد الإلهي، الوارد في الآية الكريمة: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، أو الوساوس التي ربما أصيب معها الإنسان باليأس جرّاء تأخر الاستجابة.

ومما يحضرني في هذا الصدد، قول مريض زرته ذات مرة، وعندما دعوت له الله تعالى بالشفاء العاجل، أعرب صراحة عن يأسه، قائلًا بأنه لا يظنّ أنّ ثمة فرصة للشفاء مع هذا المرض!. وهذا للأسف باب من أبواب اليأس والقنوط من رحمة الله، وما للإنسان وذاك، فهل المرض والشفاء بيده هو حتى يقنط عندما تعجزه الحيلة!، أوليس كلّ ذلك بيد ربّ العالمين؟ ولطالما رأى الناس من حالات الشفاء من الأمراض المهلكة، لدى من شارفوا على الموت، مما لا يُعَدّ ولا يحصى، وذلك عندما اقتضت حكمة الله أن يظهر قدرته أمام عباده. فلا مفرّ من المصائب، إلّا أنّ الله تعالى برحمته يستنقذ الإنسان منها، وهذا مما لم يعد يخفى على الناس.

لقد اتّجه الإمام زين العابدين إلى قطع الطريق على وساوس الشيطان التي قد تنتاب الداعين لله سبحانه. فقد ورد عنه أنه قال: «المؤمن من دعائه على ثلاث، إمّا أن يُدّخر له، وإمّا أن يُعجّل له، وإمّا أن يدفع عنه بلاء يريد أن يصيبه»[6]  ، وبذلك يقرّر الإمام أن الدعاء سيعود على الإنسان بالمكاسب في جميع الحالات، ومهما كان شكل النتيجة التي يجنيها الإنسان من وراء ذلك. فبحسب الإمام أن الدعاء على ثلاثة أوجه:

أولاها إنْ لم تظهر الاستجابة لدعاء الإنسان عاجلًا، فهو مدّخر له، أي إنّه سبحانه يدّخر لعباده من الإجابة ما هو خير لهم من ذلك، وبذلك يكون الدعاء هنا أشبه ما يكون بالرصيد المحفوظ للإنسان عند الله تعالى، إنْ على صعيد الحاجات الدنيوية أم العوائد الأخروية. لأنّ الله وحده أعلم بمختلف جوانب المصلحة والمنفعة في حياة العباد، وبيده تعالى أن يحقق هذا أو ويدّخر ذاك.

والوجه الآخر، هو أن يعجل الخالق سبحانه الإجابة، فيحقق للعبد مراده ويستجيب لطلبه. أما الوجه الثالث، فقد تقتضي الحكمة الإلهية ألّا يحقق الخالق تعالى مراد العبد عاجلًا، إلا أنّه في مقابل ذلك قد يدفع عنه البلاء الذي يوشك أن يحيق به.

 

الخطبة الثانية: التسامح.. القيمة الغائبة في مجتمعاتنا

﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ * وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ108[سورة الأنعام، الآيات:106-108].

يحمل مفهوم التسامح في عصرنا الراهن بُعدًا إنسانيًّا، مضمونه الأساس القبول بالتعدّدية والتنوع على كافة المستويات. وذلك ما ينسحب بطبيعة الحال على القبول بمختلف أشكال التعدّد في الأديان والمذاهب والاتجاهات والمدارس الفكرية، على أن يترافق ذلك مع التعايش والاحترام المتبادل، بين أتباع هذه العقائد والاتجاهات المختلفة. فالتسامح بمعناه المتداول اليوم هو القبول بالآخرين واحترامهم، بغضّ الطرف عن عقائدهم وآرائهم.

مفهوم التسامح في تاريخ أوروبا

وقد تبلور مفهوم التسامح في أوروبا، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إبان المواجهة المحتدمة مع الكنيسة بمختلف بمذاهبها. فقد كانت تسعى مختلف الكنائس إلى فرض عقيدتها على الناس، وإقصاء ومعاقبة أصحاب العقائد الأخرى المغايرة لها. فكلّ كنيسة كانت ترى أن عقيدتها هي العقيدة الحقّة، وأنّ جميع ما عداها من الكنائس إنمّا هم على باطل وأهل ضلال، وتبعًا لذلك منحت كلّ كنيسة لنفسها الحقّ في فرض رؤيتها على الناس طوعًا أو كرهًا، والويل كلّ الويل لمن يأبى الاستجابة لها، بما يصل إلى حدِّ الإحراق حيًّا بتهمة الكفر والهرطقة، وقد نال عشرات الآلاف من الناس هذا المصير الأسود على يد رجال الكنيسة.

ونظرًا للثمن الباهظ الذي دفعه المفكرون في أوروبا، فضلًا عن عامة الناس، نتيجة تسلّط الكنيسة على رقابهم، فقد شكل ذلك باعثًا نحو قيام حراك فكري وفلسفيّ في السّاحة الأوروبية، على أيدي مفكري عصر التنوير، لينتهي بهم الأمر إلى بلورة مفهوم التسامح، الذي ينطوي في جوهره انعدام الأحقية لأيِّ طرف، كائنًا من كان، كنائس أو أفرادًا، في أن يفرض آراءه على الآخرين، وغاية ما هناك أن تتاح للجميع فرصة التعبير عن الرأي، وسيّان بعدها في أن يقبل الناس الأخذ بهذا الرأي أو الإعراض عنه. وبذلك نشأ مفهوم التسامح ضمن أجواء التسلط الكنسي المقيت، حتى أصبح هذا المفهوم شيئًا فشيئًا أمرًا واقعًا في المجتمعات الغربية.

عوامل نجاح مفهوم التسامح

لقد ساهمت مجموعة من العوامل على نحوٍ كبير في نجاح مفهوم التسامح في أوروبا. ويأتي على رأس هذه العوامل؛ قيام دولة المواطنة، والفصل بين السياسة والكنيسة. فبعد قرون طويلة من تحالف الكنيسة مع السلطة السياسية، ذلك التحالف الذي خوّل القيصر حقّ تولّي الشأن البشري، فيما أتاح للكنيسة الهيمنة على الجانب الروحي، قامت بعدها دولة المواطنة، ومحورها أنّ الحكومة ليست سوى جهاز لتسيير مصالح المواطنين وحمايتهم، وتوفير الخدمات لهم، ولا شأن للسلطة السياسية بأديان وعقائد وآراء المواطنين، الذين لهم وحدهم حقّ اختيار عقائدهم وآرائهم. إنّ قيام دولة المواطنة هو الذي ساهم في تحويل مفهوم التسامح إلى حقيقة واقعة في المجتمعات الغربية.

أما العامل الثاني الذي ساهم في نجاح مفهوم التسامح؛ هو إقرار مبادئ حقوق الإنسان. تلك المبادئ التي تعني الاعتراف لكلّ إنسان بحريته في كلّ ما يتصل باختياراته الفكرية والعقدية والسياسية، وأنه لا يجوز النيل من أيّ إنسان على خلفية لونه أو دينه أو رأيه. عندما أقرت المجتمعات الغربية مبادئ حقوق الإنسان في أعقاب الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية بعد ذلك، وأقرتها الأمم المتحدة في وقت لاحق، ساهم جميع ذلك في إنجاح مفهوم المواطنة.

وجاء نشر ثقافة التعددية واحترام الآخر باعتباره العامل الثالث في نجاح مفهوم التسامح. وقد أخذت ثقافة التعددية طريقها ضمن مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والخطاب العام، وهذا بأجمعه ساهم في تعزيز مبدأ التسامح في الفضاء العام. ولا عبرة لبعض الحالات الشاذة التي قد تخرق القاعدة. ولعلّ أبرز مثال على ذلك، هو استضافة تلك المجتمعات لملايين من العرب والمسلمين الهاربين، من أجواء البطش والقمع السياسي والحروب الأهلية في بلادهم، ليجدوا هناك متّسعًا كبيرًا في ممارسة حياتهم السياسية والدينية والاجتماعية، ولعلّ أكثركم تابع خبر سماح إحدى الكنائس الأمريكية للمسلمين بإقامة صلاة الجمعة تحت قبة الكنيسة نفسها، تعبيرًا عن الاحترام للإسلام والمسلمين!

غياب التسامح في مجتمعاتنا

إنّ مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا تزال تفتقد قيمة التسامح في حياتها. وإذا كان هناك من مفارقة كبيرة، فهي أنّ منطقتنا العربية طالما وصفت بمهد الديانات، فقد كانت مهبطًا لجميع الديانات السماوية؛ اليهودية والنصرانية والإسلام، لكنها باتت تفتقر للتسامح الديني بدرجة كبيرة. ولعلّ سبب غياب التسامح في مجتمعاتنا ذات التاريخ الديني الضارب في القدم، لا يخرج عن اثنين؛ الاستبداد السياسي، والاستعمار الأجنبي، اللذين ساهما، على نحوٍ أو آخر، في تحويل الدين أو المذهب إلى جزء من الهوية، فالناس كلّما شعروا بأدنى تهديد أو مساس بهويتهم، ازدادوا تشبّثًا بأهدابها. من هنا تشكّلت في مجتمعاتنا ما يمكن أن نصفها بالعقدة الدينية، التي غالبًا ما يصاحبها التعصّب والتنازع والاحتراب الديني، الذي ربما تتمظهر ـ في حدّها الأدنى ـ في الجدل الديني والمذهبي العقيم، الذي لا يكاد يخلو منه منبر أو خطاب ديني، خطاب لا يكاد يغادر الانشغال بجدلية قلنا وقالوا، والاستماتة في إثبات أننا وحدنا أهل الجنة وغيرنا في النار!. فيما قد تصل هذه العقدة الدينية إلى أقصى درجاتها المتمثلة في تصاعد أعمال الإرهاب والنزاعات الدموية الناشبة في كثير من مناطق عالمنا العربي. فمتى تتجاوز مجتمعاتنا الدينية نزعة التعصّب لتعيش حالة التسامح؟.

إنّ سبل الخروج من حالة التعصّب الديني، وإرساء حالة التسامح في مجتمعاتنا، لا تنفكّ بأيِّ حالٍ عن ضرورة قيام دولة المواطنة، واحترام حقوق الإنسان. ذلك أنه ما لم تقم دولة المواطنة، فسيبقى الباب مشرعًا أمام التعصّب الديني والمذهبي، وما لم يكن هنالك إقرار لمبادئ حقوق الإنسان، فستستمر حالات انتهاك حقوق الإنسان، من خلال فرض رأي أو مذهب وعقيدة معينة على سائر الناس، والتضييق على أصحاب الأديان والعقائد الأخرى، ومنعهم من إقامة شعائرهم الدينية.

نزعة التعصّب

وعلى النقيض من حالة التسامح، تسود في مجتمعاتنا نزعة التعصب الديني. فهناك وسط كلّ جماعة دينية اتجاه نحو زرع الكراهية، وشحن الأتباع بسوداوية تجاه المخالف السيء، المتمسك بالباطل، الذي لا مصير له سوى جهنم!. هذه النزعة تجاه شيطنة الآخرين، هي غالبًا ما تزرع بذور التعصب والنزاع والاحتراب الديني بين الناس، سيما إذا عمد المتعصّبون إلى الاتّكاء على أحداث التاريخ بكامل حمولته السلبية، وتجيير التراث الديني لإسباغ الصبغة الدينية على ثقافة التطرف، كلّ ذلك في سبيل خدمة وتعزيز النزعة التعصبية.

إنّ مجتمعاتنا العربية والإسلامية في أمسّ الحاجة إلى إعادة قراءة تراثها الديني، للخروج من حالة التعصب. ولعلّ قراءة فاحصة للنصوص الدينية، ربما تفاجئ المتديّنين المتعصبين، لما فيها من نهي قاطع عن الانشغال أو التدخل في عقائد الآخرين، وكلّ ما يطلب من المؤمن فعله، أنه إذا وجد فرصة لدعوة الآخرين للإسلام، فليدعُهم شريطة أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالتراشق واستخدام الشتم والسبّ، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، هذا على مستوى الدعوة. أما على مستوى الدخول في الجدال والنقاشات مع أهل الأديان والمذاهب الأخرى، فذلك أيضًا مشروط بالمجادلة بالتي هي أحسن، تبعًا لقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فهذا هو منهج الشريعة، وما عدا ذلك لا صلة له بالدين.

لقد نصّب بعض المتديّنين المتعصّبين أنفسهم شرطة على آراء وتوجّهات خلق الله. وهذا أبعد ما يكون عن الدين، فالدين في حقيقته منزّه عن حالات التعبئة والحضّ على الكراهية، وإثارة الأحقاد، ضد الآخرين الذين لا يوافقوننا الرأي. وما شأن المتعصّبين باعتناق زيد من الناس هذا الدين أو تلك العقيدة؟، وما الذي يعنيهم إنْ تبنّى عمرو مذهبًا أو عقيدة أخرى؟ وما دخلهم في تبنّي فلان هذا الرأي، أو رفض علّان لتلك الفكرة؟، هل هم وكلاء على خلق الله؟ أم أنهم أشدّ حرصًا على الدين من الخالق سبحانه، وقد خاطب نبيه بقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ!.

لا وصاية لأحدٍ على أفكار الناس

هناك منظومة عمادها العشرات، ولربما المئات، من الآيات التي تصبّ في اتجاه نبذ التعصب الديني. والغريب أنّ المتعصّبين يطوون عنها كشحًا، ويتشبّثون ببضع آيات منتزعة من سياقها. أو لم يقرأ هؤلاء الآية الكريمة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، أوليس مضمون ذلك أن إكراه الناس على الخضوع لرأي دينيّ معيّن أمٌر مرفوض جملة وتفصيلًا!، علما أنّ هذه الآية جزء من آية الكرسي التي يتواتر الاستحباب في قراءتها في العديد من الأوراد، والتي تكمل بقوله تعالى: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.

وقد جاء في آية أخرى قوله تعالى:﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ، وتشير الآية إلى الاكتفاء بالتبليغ والنأي تمامًا عن نزعة التدخل لإرشاد الناس عنوة. نعم، إذا ما أتيحت الفرصة للدعوة وعرض جوانب الدين على النحو المناسب، وبالتقيد بالضوابط التي حدّدها الشرع، فللمرء أن يفعل ذلك. وبخلافه تنهى الشريعة نهيًا قاطعًا عن منازعة الآخرين، تحت مزاعم الدعوة للدين، وما هي إلّا الأنانية التي يسعى من خلالها البعض للتسلط على آراء وأفكار الناس.

حقيقة الأمر، أنه ليس من شأن أحدٍ التدخل في آراء وعقائد الآخرين تحت أيِّ ذريعة كانت. تمامًا كما أن الإنسان لا دخل له بما يأكل أو يشرب الآخرون، كذلك الأمر فيما يتعلق بالقناعات والعقائد والأفكار، فلا مدخلية لأحدٍ في هذا الشأن من قريب أو بعيد.

إنّ هذا ما توجّه إليه الشريعة، وتصرح به الآيات الكريمة، قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. وفي ذات السياق، وردت روايات كثيرة، منها ما رواه أبو بصير قال: «قلت لأبي جعفر الإمام محمد الباقر أدعو الناس إلى ما في يدي؟، قال لا، قلت إن استرشدني أحد أرشده، قال نعم، إن استرشدك فأرشده، فإن استزادك فزده، وإن جاحدك فجاحده»[7]  ، ومضمون ذلك أنّ المرء ليس مطلوبًا منه دعوة الآخرين لاعتناق ما يؤمن به، أما إذا طلب الآخرون منه إرشادهم فإنّ عليه إرشادهم وحسب، فإذا طلبوا زيادة في الإرشاد فله أن يفعل، ولينأى عن ذلك متى ما لمس من الآخرين الجحود.

وعن ثابت بن سعيد قال: قال لي أبو عبدالله: «يا ثابت، ما لكم وللناس، كُفّوا عن الناس ولا تدعوا أحدًا إلى أمركم، فوالله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدًا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه، ولو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبدًا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلّوه، كُفّوا عن الناس ولا يقول أحد: عمي وأخي وابن عمي وجاري، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيرًا طيّب روحه، فلا يسمع معروفًا إلّا عرفه، ولا منكرًا إلا أنكره، ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره»[8]  . وبقوله: «ما لكم وللناس، كُفّوا عن الناس» كأنما يستنكر على بعض شيعته التدخّل في عقائد الناس!. هذه الروايات جاءت ضمن سياق اندفاع بعض أصحاب الأئمة تجاه دعوة الناس لمذهب أهل البيت.

إنّ أئمة أهل البيت ليسوا في وارد منع الدعوة إلى الخير، بقدر ما هم أحرص على النأي عن صناعة التوتر والأزمات، وتخريب الوضع الاجتماعي. فالدعوة والتبشير بالآراء والعقائد إذا جاءت ضمن سياقها الطبيعي المناسب فهي أمر مرحّب به، وعلى النقيض من ذلك إذا جاءت ضمن سياق النزاع والاحتراب، فذلك أمر مرفوض جملة وتفصيلًا.

لقد ابتلي الإسلام بثلة من المتعصّبين، الذين يريدون فرض تديّنهم وقناعاتهم على الآخرين طوعًا أو كرهًا. والغريب أنّ هذه الحالة الإكراهية السيئة انسحبت حتى على الداخل المذهبي نفسه، حتى باتت منابر رئيسة تبدّد أوقات الناس في استعراض الجدالات العقيمة التي أكل عليها الدهر وشرب، في انصراف تامّ عمّا يهمّ الناس ويحفظ حياتهم ويصلح معيشتهم.

خطبة الجمعة 28 محرم 1436هـ الموافق 21/11/2014م
[1] تحف العقول، ص280.
[2] بحار الأنوار، ج٩٠، ص٣٠٠.
[3] المصدر نفسه، ص295.
[4] بحار الأنوار، ج90، ص303.
[5] الصحيفة السجادية، وكان من دعائه لأهل الثغور، ص 124.
[6] بحار الأنوار، ج٧٥، ص١٣٨، حديث 18.
[7] وسائل الشيعة، ج 16، ص١٩١، حديث 21318.
[8] الكافي، ج١، ص١٦٥.