لتضمنوا بر أبنائكم

مكتب الشيخ حسن الصفار

ورد عن رسول الله أنه قال: «بِرُّوا آباءكم تَبَرُّكُمْ أبناؤكم»[1]  .

لا شيء أدعى لسعادة الإنسان من رؤيته أبناءه يغمرونه بالاهتمام والبرّ والاحترام. ومردّ ذلك إلى المحبة الفطرية التي تملأ نفس الوالدين تجاه الأبناء، فيكونان أكثر سعادة حين يلمسان التناغم في مستوى الحبّ من طرف الأبناء، سيّما وقد صرفا جلّ عمرهما في سبيل تربيتهم وتنشئتهم، فهما يتطلعان إلى رؤية ثمرة تعبهما، ونتيجة ما بذلا في تربيتهم ورعايتهم. وتتضاعف حاجة الوالدين للبر بهما حين يتقدم بهما العمر، ويكونان في موقع الحاجة للرعاية والعناية، فهما وإن كانا يرحّبان بأيِّ قدرٍ من العناية المقدمة لهما من أيّ طرف، إلّا أنّهما سيكونان في موضع الامتنان للآخرين لتفضّلهم، بخلاف ما إذا جاءت الرعاية من الأبناء، حيث لا يثقل عليهما ذلك على أيِّ نحوٍ من الأنحاء، وذلك من منطلق اعتبار رعاية الأبناء للوالدين أمر طبيعي، ومبعث سعادة، ولا يشبه الرعاية الآتية من أيّ جهة أخرى فيها إحسان وتفضل. وهذا هو مردّ تأكيد القرآن الكريم على رعاية الوالدين حين يبلغان مرحلة متقدمة من العمر، قال تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

عقوق الأبناء أكبر صدمة

وكما أنّ برّ الأبناء بالوالدين يمثل أكبر سعادة، فإنّ عقوقهما يمثل أكبر صدمة لهما في الحياة، فقد يتحلّى المرء بقدرة أفضل تجاه تحمّل خسارة المال، أو الإصابة بالمرض، أو عداوة أيّ أحد، بخلاف مواجهة عقوق الأبناء، ذلك لأنّ حالة العقوق تشعر الوالدين بغياب قيمة الحبّ، وانعدام المشاعر الإنسانية، التي يفترض أن يكون البرّ بالوالدين أهمّ مواقعها، فإذا ما فقدت في هذا الموقع، فعندها لا يعود لهذه المشاعر قيمة عند الإنسان. كما يدفع العقوق بالوالدين إلى معاينة ضياع جهدهما، وثمرة حيتهما، في تربية الأبناء، بعد أن كانا يعملان عليها طوال عمرهما، فلما جاء وقت قطاف الثمار، فإذا بهما يجابهان بعقوق الأبناء، فحقّ لهما عندها أن يشعرا بأنّهما خسرا كلّ شيء، وأنّ عمرهما ضاع هدرًا.

من هنا جاء التشديد في النصوص الدينية على بشاعة عقوق الوالدين، لما في ذلك من تأثير مدمّر على نفسيهما. وقد ورد عن النبي أنه قال: «يُقالُ لِلعاقِّ: اِعمَل ما شِئتَ مِنَ الطّاعَةِ فَإِنّي لا أغفِرُ لَكَ»[2]  ، إنّ عقوق الوالدين كالجريمة التي لا يعود معها أدنى قيمة لأيّ عبادة يتقرّب بها المرء لخالقه. وورد عنه أنّه قال: «ثلاثةٌ مِنَ الذُّنوبِ تُعَجَّلُ عُقوبَتُها ولا تُؤَخَّرُ إلى الآخِرَةِ: عُقوقُ الوالِدَينِ...»[3]  ، إنّ عقوبة العاقّ بوالديه تعدّ من العقوبات العاجلة التي يرتطم بها العاقّ في الدنيا قبل الآخرة، بصرف النظر عن شكل العقوبة المتوقعة وزمانها. وجاء في الحديث عنه أنه قال: «مَنْ أَصْبَحَ مُسْخِطًا لِأَبَوَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى النَّارِ»[4]  .

كيف نضمن برّ أبنائنا؟

غير أنّ السؤال الأهمّ هنا، هو عن الكيفية التي يضمن من خلالها الإنسان تحقق السعادة، ببرّ أبنائه به، وأن يتجنب كارثة عقوقهم له؟

وللإجابة عن السؤال، نشير إلى أنّ هناك عوامل تساعد الإنسان على تجنّب كارثة عقوق الأبناء، ويأتي في طليعتها: التوجه بالدعاء لله سبحانه وتعالى، في طلب الصلاح للأبناء، كما ورد في الآية الكريمة على لسان أحد الأنبياء: ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي.

والعامل الثاني: الاجتهاد في تربية الأبناء، فإذا أحسن الوالدان تربية أبنائهما، فإنّ ذلك سيكون من العوامل الرئيسة التي تجعل منهم أبناءً بررة، ذلك أنّ الولد الذي يحظي بتربية صالحة، سيكون في الأغلب صالحًا بارًّا بوالديه.

أما العامل الثالث لضمان برّ الأبناء، فهو أن يتوفر للأبناء النموذج والتربية العملية على برّ الوالدين. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «بِرُّوا آباءكم تَبَرُّكُمْ أبناؤكم»، وذلك بأن يجسّد الأبوان مفهوم برّ الوالدين مع أبويهما، فإذا ظهر هذا السلوك أمام الأبناء، فسيمثل ذلك أعظم درس وتجسيد عملي لمفهوم البر بالوالدين، ما سيحفّز الأبناء لتمثل ذات السلوك مع والديهم. فالأبناء الذين يعيشون في ظلّ أبوين بارّين بأبويهما، يخدمانهما ويحترمانهما، فإن ذلك سيكون أكبر دافع للأبناء للاقتداء بهما، والسير على نهجهما. في مقابل ذلك، إذا رأى الأبناء والديهما يتعاملان على نحو جافٍ خشن مع أبويهما ـ أي أجداد الأبناء ـ فإنّ الأبناء سيتمثلون مستقبلًا ذات السلوك مع أبويهما المباشرين على الأغلب، إذ سيكون هذا السلوك الجافّ مع الوالدين أمرًا عاديًّا، والخشونة معهما شأنًا غير مستقبح ولا مستبشع في نظرهم.

إضافة إلى أنّ في البرّ بالوالدين مكافأة إلهية. فمتى ما كان الإنسان بارًّا بوالديه، فإنّ الله سبحانه يكافئه بأن يجعل أبناءه بارّين به، وقد يكون ذلك استجابة لدعاء الوالدين بأن يرزق أبنائهم البارّين أولادًا بارّين بهم، فدعاء الوالدين في حقّ الولد مستجاب، كما ورد في الحديث عن رسول الله: «ثَلاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»[5]  . إنّ في دعوة الوالدين نعمة كبيرة لا يدركها إلّا من يفهمون قيمتها، لذلك تجدهم يبدأون نهارهم باستمطار دعاء الوالدين، من خلال زيارتهما، والسلام عليهما، وتقبيل رأسيهما، وخدمتهما، والإحسان لهما، استمطارًا لدعوة صالحة تكون سببًا للتوفيق والخير والرحمة.

تعزيز قيمة برّ الوالدين

إنّ مجتمعاتنا أحوج ما تكون لتعزيز قيمة البر بالوالدين. خاصة في العصر الراهن الذي تشعبت فيه انشغالات الأبناء، وطغت عليهم فيه الاهتمامات الذاتية، حتى أنّ بعضهم ربما لم يعد يرى أبويه مرة في الأسبوع، خاصة إذا كان يعيش في بيت منفصل عنهما، وربما ركن بعض الأبناء إلى التواكل بعضهم على بعض في قضاء أمور الوالدين، حتى تتعطّل أمورهما نتيجة ذلك التواكل، في حين ينبغي للأبناء التنافس في خدمة الأبوين وتلبية احتياجاتهما.

ولأننا في زمن ينبغي فيه التأكيد مجدّدًا على هذه القيمة، فإننا نقدّر عاليًا المبادرة الإنسانية الجميلة «حملة البرّ بالوالدين» التي انطلقت في منطقتنا منذ عامين، إذ من الرائع جدًّا أن تنبثق في أوساطنا مثل هذه المبادرات المعزّزة للقيم الإنسانية، وقيم مكارم الأخلاق. وقد أخذت هذه الحملة السنوية المصادفة ليوم 21 مارس مكانها، بالتزامن مع مناسبة اليوم العالمي للأم، ولكونها فكرة رائدة، فقد شقّت طريقها للاحتفاء بها على مستوى المنطقة الشرقية، على أمل أن تأخذ مداها على مستوى الوطن برمّته، وصولًا للعالمية إن شاء الله.

إنّ على مجتمعنا إظهار أكبر قدرٍ من التفاعل مع البرامج والفعاليات المصاحبة لهذه الحملة الإنسانية الرائدة، التي تستمرّ أسبوعًا، لما فيها من الإحياء للمشاعر الإيجابية، التي ينبغي أن نعزّزها في ذاكرة أبنائنا ومشاعرهم.

 

الخطبة الثانية: إعلام الفتنة وصناعة الأكاذيب

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ[سورة الحجرات، الآيتان: 6-7].

يمثل نشر الشائعات والأخبار المغرضة، أحد أهم المنافذ لخلق الفتن والنزاعات داخل وبين المجتمعات. لذلك يجب سدّ ثغرات الفتن وإغلاق منافذ العداوات، من أجل تحصين المجتمعات من حالات الشقاق والنزاع، وما لم يجرِ تحصين جدار المجتمع الإيماني والأخلاقي إزاء تلك الثغرات، فإن المجتمع سيكون عرضة للاحتراب، ومن ثمّ التفكك والانهيار. ومن أهمّ تلك المنافذ الخطرة التي تهدد بنيان المجتمع، نشر الشائعات والأخبار المغرضة التي تشحن أجواء كلّ فئة ضد الأخرى، وهناك من يحترف القيام بهذا الدور القذر.

لماذا يتورطون في خلق الفتن؟

ويعود تورّط بعض الأشخاص والجهات في الترويج للشائعات والأخبار المغرضة، إلى عوامل متعددة. ويأتي الانحراف النفسي في طليعة تلك العوامل، ذلك أنّ الإنسان غير السوي، لا شيء عنده أكثر متعة، من إثارة الأضغان والعداوات بين الناس، لذلك جاء قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، فقد وصف سبحانه وتعالى المروج للشائعات والأخبار الملفقة بين الناس بالفاسق، أي المنحرف والخارج عن حدود الله سبحانه وتعالى، فهو بانحرافه ذاك غالبًا ما يكون مؤهّلًا للتورط في هذه الممارسة القميئة.

وقد يأتي تورّط البعض في استهداف الآخرين ورميهم بالشائعات، نتيجة عقد نفسية تعشش في نفوسهم، فلا تجد هذه العقد طريقها للتفجر إلّا عبر ممارسة هذه الأدوار، فتجد الواحد من هؤلاء يذهب بعيدًا في زرع الفتن بين الناس.

وقد يكون للبعض مصلحة مباشرة في إثارة الفتن، إذ أنّ هناك بطبيعة الحال قوىً داخل أيّ مجتمع وخارجه، ربما كانت لها مصالح في إثارة الفتن، لغرض كسب المزيد من الشعبية، وتحقيق الزعامة المتوهمة، فلا يجد بعضهم طريقة أفضل من الظهور بمظهر البطل، والمدافع الصلب عن مصالح الجماعة، أو العقيدة والطائفة، فتراه يبالغ في مهاجمة الأطراف الأخرى، ويحترف اختلاق الشائعات ضدها، رغبة في دغدغة مشاعر الجمهور، واستدرار تعاطفه، فهي الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها لاستقطاب الأتباع، واستمالة النفوس.

الاستهداف الخارجي

ولا ننسى عامل القوى الأجنبية التي تجهد في الترويج للشائعات والأخبار المغرضة، لإضعاف المجتمعات. وذلك في سبيل تحقيق أغراضها الاستعمارية، بإثارة التفرقة وخلق الشقاق، بين الفئات والجماعات المتعددة.

ويأتي كذلك، دور تجار الحروب، في تكريس حالات الشقاق والنزاع حيث يلعب مصنّعو السلاح، ووسائل الأمن، والمتاجرين بها، دورًا محوريًا، في إثارة الفتن والنزاعات المسلحة، بغرض خلق الأسواق، وتبرير الترويج لبضاعتهم الفتاكة، والتجهيزات الأمنية، حيث من الطبيعي أن يتجه الناس في أوقات النزاعات لتعزيز أمنهم الخاص، من خلال تركيب كاميرات المراقبة الأمنية، واستخدام مختلف وسائل الرقابة الخاصة. ولقد بلغ حجم تجارة السلاح في الشرق الأوسط، الذي يعجّ بحالات الفقر والحرمان الذي يطال شعوبًا برمّتها، سقف المئة وخمسين مليار دولار خلال عام واحد فقط، كل ذلك لأنّ كلّ جهة تستعدّ لمواجهة الجهة الأخرى، وتحصن نفسها في قبالها. وذلك قائم على اختلاق القوى الأجنبية قدرًا هائلًا من القلق والعداوات بين مختلف الأطراف. ولا نعني بذلك إلقاء كامل المسؤولية على الأطراف الخارجية، لأنّ أرضية النزاع والاحتراب مهيّأة لدى الجميع.

ويشير واقع الحال إلى أنّ إثارة النعرات بين الفئات المختلفة باتت مهمة منوطة بمؤسسات كبرى. تعتمد على خبرات علمية، من خبراء الإعلام وعلماء النفس والاجتماع، الذين درسوا على ما يبدو طويلًا تاريخ الجماعات والفئات المتنازعة، ونقّبوا في كتب التراث لدى الأطراف المختلفة، وباتوا يعرفون جيّدًا، ما يغيظ كلّ فئة وطائفة، ويثير حفيظتها على الأخرى. وهذا مما بات واضحًا ضمن الحالة الطائفية المستعرة بين السنة والشيعة، حيث تتردّد في الأوساط قصص وروايات ظلّت طويلًا مدفونة في الكتب القديمة، فإذا بها تبعث من جديد، حتى بات بعض المطّلعين يقولون إنّهم بإزاء روايات غريبة لم يرد لها ذكر فيما سبق من حقب تاريخية، وهذا ما يشير بوضوح إلى وجود ما يمكن أن نصفها بشركات التنقيب في التراث، على غرار شركات التنقيب عن النفط، وغرضها العثور على الأقوال المغرضة، وكلّ ما يسعّر الفتن الطائفية.

التفاعل مع الشّائعات

إنّ مما يؤسف له سرعة التفاعل لدى مجتمعاتنا، مع الأخبار الملفقة، والشّائعات المغرضة. حتى بات من السهل أن يجري في لحظات ـ وليس ساعات ـ تداول مختلف الترّهات على نطاق واسع، وانتشارها انتشار النار في الهشيم، سيّما مع توفر الوسائل التقنية، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإلى أن يجري تكذيب ذلك جملة وتفصيلًا، يكون الخبر الملفّق قد أخذ أقصى مدّياته، دون أن يأخذ تكذيب الخبر المدى المطلوب، ليبقى أغلب الناس مقتنعين بالخبر الكاذب كما كانوا في أول الأمر.

ينبغي أن تتحلى شعوبنا بالوعي واليقظة، إزاء حالات التأجيج الطائفي، القائم أساسًا على ترويج الشّائعات، وتضخيمها على نحو مبالغ. وتتزايد الحاجة إلى التزام أقصى درجات الحذر، حين تروج الشّائعات على خلفية الصراعات بين الفئات المختلفة في هذه المنطقة أو تلك، التي غالبًا ما يسبغ عليها اللباس الطائفي عنوة، حتى لو كانت صراعات سياسية محضة، ولا شأن لها بالمذاهب والأديان. فيتحول الصراع السياسي إلى حملة هائلة من التعبئة الطائفية بين أتباع المذاهب الإسلامية، وهذا ما يجري على خلفية الأحداث السياسية المتسارعة في العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان وغيرها من المناطق المختلفة. وهناك توليفة إعلامية مغرضة مخصصة لكلّ ساحة، فقد تأخذ الصبغة الطائفية في مكان، فيما تلبس الرداء القبلي في مكان آخر، وتنزع إلى الطابع القومي في مكان ثالث.

الحصانة ضد إعلام الفتنة

وقد عالج القرآن الكريم أمر الشّائعات والأخبار المغرضة، من خلال تعزيز حالة الرفض المطلق لها ولمطلقيها. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، فقد أوصت الآية الكريمة المجتمعات بالتزام الحذر تجاه الأخبار مجهولة المصدر، أو المشكوك في مصداقية مصادرها. وتوصي الآية الكريمة بأن يكون التبيّن من مصداقية الأخبار سلوكًا أصيلًا في المجتمعات الواعية.

غير أنّ العكس هو الحاصل غالبًا في مجتمعاتنا، نتيجة تهيؤ النفوس لتلقي الشائعات وتقبلها. ويتضح ذلك جليًّا حين يجري التساؤل بشأن شائعة من الشائعات والتشكيك في مصدرها، فتجد أنّ هناك من يصرّ على صحة تلك الشائعة، لا لشيءٍ إلّا استنادًا على سوء الظن في الطرف المستهدف من الشائعة، حتى لو لم يكن لها أساس من الصحة. والأنكى حين ينبري أحد لتفنيد تلك الشّائعة، فيتهم ويهاجم لأنه بذلك دافع عن الطرف المستهدف بالشائعة. وكأن البعض يريد أن يستمتع بالتضليل والكذب الذي ينهال عليه وعلى الآخرين.

إنّ الآية الكريمة تدعو لاتخاذ موقف من الأنباء المغرضة والكاذبة لما في تصديقها وترويجها من عواقب وخيمة، لا يفيد معها الندم. وذلك بعد أن يتسبب التضليل والكذب في حرق الأخضر واليابس، تمامًا كما بات يجري اليوم في سوريا وغيرها من البلدان، فهذه الشعوب باتت اليوم تعيش حالة الندم والألم لما آلت إليه أوضاعها، فقد باتوا مشتتين بين نازحين عن ديارهم، ولاجئين بعيدين عن أوطانهم.

ومما تناولته بعض وسائل الإعلام أخيرًا الحالة المؤلمة التي بات يخضع لها سكان مخيّم اليرموك على أطراف دمشق، حيث باتوا يقتاتون على الحشائش أيامًا طويلة، نتيجة وقوعهم تحت رحمة الصراع بين الجماعات المسلحة، والجيش السوري، وليس هناك ما ينتظرهم سوى التنكيل أو التهجير والإبادة. وحريٌّ بمن يتلقى الشّائعات ألّا يفرح ولا يشمت بالطرف الآخر، وإنّما ينبغي أن يتبصر الأمور، وينظر في مآلاتها، فهذا ما تشدّد عليه الآية الكريمة.

القيادات الواعية وتبصير المجتمعات

وتشير الآية الكريمة إلى دور حيوي ينبغي أن تضطلع به القيادات الاجتماعية حيال أمر الشّائعات والأخبار المغرضة. فقد جاء في الآية، قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّـهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وقبل الإضاءة على دور القيادة، ينبغي الإشارة إلى سبب نزول هذه الآية الكريمة، وذلك أنه عندما بعث رسول الله_ الوليد بن عقبة ليجبي الزكاة من إحدى القبائل، ونظرًا لما كان بين الرجل وتلك القبيلة من خلاف وثارات قديمة، فقد عاد لرسول الله زاعمًا بأن القبيلة رفضت دفع الزكاة، وأنهم هددوه بالقتل، فاضطربت حينئذٍ أجواء المسلمين، وقد دعا بعضهم النبي إلى السير إلى تلك القبيلة وإعلان الحرب عليها، غير أنه رفض الانصياع لتلك الآراء، لمعرفته بالخبر المكذوب الذي اصطنعه الوليد بن عقبة.

من هنا يبرز دور القيادات في كلّ مجتمع، التي ينبغي أن تكون رزينة متزنة في كلّ حالاتها، لا أن تقبل كلّ ما يأتيها من أخبار، وإنّما عليها أن تكبح جماح الاندفاع العاطفي القائم على أساس خطأ. ولنا في هذا السّياق أحد أروع الأمثلة المعاصرة المتمثلة في المرجع الديني السيد السيستاني، الذي يرده سيل من الأخبار من هنا وهناك، لكننا مع ذلك لم نجده مندفعًا في هذا الاتجاه أو ذاك، اتّكاءً على أخبار غير دقيقة، وهذا ديدن القيادات الواعية. على النقيض مما نجده من البعض الذين يصعدون المنابر، ويلقون بالترهات، استنادًا على مصادر مجهولة، أو ترويجًا لما تلقي به أمواج مواقع التواصل الاجتماعي، فإذا بالواحد من هؤلاء يشحن جمهور المستمعين استنادًا على أخبار لا أساس لها.

إنّ القيادات الاجتماعية الواعية ينبغي أن يكون لها دور محوري، في كبح جماح التوجهات القائمة على الشحن والتعبئة، بين الجماعات والاتجاهات، والطوائف والشعوب، اقتداءً برسول الله.

خطبتي الجمعة 23 جمادى الأولى 1436هـ الموافق 14 مارس2015م
[1] المستدرك، الحاكم النيسابوري ج٤، كتاب البر والصلة، ص١٥٤.
[2] بحار الأنوار، ج٧١، ص٨٠، حديث82.
[3] بحار الأنوار، ج٧٢، ص٢٧٥، حديث5.
[4] جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ج٢، ص٢٠٢.
[5] سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، حديث3862.