في عيد الأم.. المجتمع وتقدير دور الأمومة

مكتب الشيخ حسن الصفار

﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[سورة لقمان، الآية: 14].

تعتبر علاقة الإنسان بوالديه علاقة وجدانية يشعر بها ويعيشها في يوميّات حياته. حيث يدرك مدى تعب والديه من أجله، ويبلغ هذا الإدراك مداه إذا ما أصبح أبًا أو أمًّا، حيث يدرك على نحو أجلى وأوضح مدى عناء والديه لأجله، لا لجهة ما يتحمّله الوالدان من أتعاب جسدية وحسب، وإنّما لما تفيض به هذه العلاقة من الحبّ والحنان من طرف الوالدين على الأبناء، فيدرك حينها وجدانًا أنْ لا أحد في هذه الدنيا، يمكن أن يشفق ويحنّ على الإنسان كما هما الوالدان، وبذلك كان من المفترض ألّا يحتاج الإنسان إلى من يوصيه بوالديه خيرًا.

ولكن لأنّ الإنسان قد يقع فريسة أنانيته، وينشغل بهمومه الذاتية، فيتجاهل الفضل عليه، وما أُغدق عليه من العاطفة والرعاية والعناية، بل ويكفر بذلك كله، لذلك جاءت الوصية الإلهية بالوالدين. إنّ تجاهل الإنسان أفضال والديه عليه هو مصداق من مصاديق الكفر، ذلك أنّ كفر الإنسان تارة يكون بالله، وتارة بجحد أفضال الآخرين عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ وجاءت صفة الكفر هنا في موضع المبالغة، وجاء في آية أخرى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ، أي إنّ كفر الإنسان ربما كان واضحًا بيّنًا في العديد المواضع، ومن ذلك الكفر بالله تعالى والكفر بفضل الوالدين.

هل يمكن مكافأة الأم؟

ونتيجة لما يمكن أن يعتور الإنسان من حالة مرضية أخلاقية، كان أحوج ما يكون للتوصية بوالديه. قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وأخذًا بالاعتبار كون الأمّ هي الأكثر عناءً وتحمّلًا وبذلًا للحنان على الأولاد، جاءت التوصية الإلهية أكثر تركيزًا عليها، حيث يصف تعالى فترة حمل الأم لجنينها بأنها كانت ﴿وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ أي من ضعف إلى ضعف أكبر، لما يمتصّ الجنين من أغلب مصادر القوة في جسم أمّه، ولما تعانيه من العبء والإجهاد الكثير خلال فترة الحمل، حيث تزيد آلامها يومًا بعد آخر، كلّما تقدّمت فترة الحمل، واقتربت ساعة الولادة، فإذا حانت لحظة الوضع أصبحت روح الأم معلقة بين الحياة والموت، حتى مع تقدّم العلم، وتطور سبُل الرعاية الطبية في عصرنا الراهن. فلا يكاد يمرّ يوم واحد إلّا ويشهد وفاة 1500 امرأة عبر العالم نتيجة المضاعفات المرتبطة بالحمل والولادة، وفق الإحصاءات الطبية الحديثة، وأغلب هذه الوفيات في العالم الثالث، لما لقصور توفر العناية الصحية من أثر في نسب الوفيات[1]  .

ويشير تحقيق علمي إلى إجراء أحد المستشفيات، على سبيل التجربة، محاكاة اصطناعية للآلام المصاحبة لمخاض الولادة، فتقدم عددٌ من المتطوعين الذكور لخوض التجربة، فلم يستطع أيّ من الذكور المشاركين الاستمرار في التجربة لأكثر من دقائق معدودة؛ نظرًا للآلام المبرحة التي انتابتهم. فلنا أن نتصور مدى الآلام التي تتحمّلها الأمّهات مع كلّ ولادة، فجزى الله الأمّهات كلّ خير.

ويستمر مسلسل المعاناة عند الأم في مرحلة ما بعد الولادة، حيث تسهر الليالي، وتتحمل ألوان التعب من أجل طفلها، على النحو الذي يشقّ على الرجل تحمّله، فضلًا عن القيام به، خاصة خلال السنّ المبكرة جدًّا من حياة الطفل، حيث البكاء المزعج، وحاجته لأشكال متعددة من العناية، بل إنّ الكثير من الآباء يتّجه إلى غرفة نوم أخرى بعيدًا عن صياح الطفل، في حين تتحمّل الأم كلّ ذلك على مدار الأربع وعشرين ساعة. وهكذا الحال عندما يبدأ الأولاد مرحلة الدراسة، حيث أصبحت مسألة المتابعة، واستذكار الدروس، ملقاةً على عاتق الأم في الأغلب، علمًا أنه من الناحية الشرعية والقانونية، تقع مسؤولية تربية الأولاد ورعايتهم على عاتق الأب لا الأم، فإذا ما قامت الأمّ بهذا الدور، مدفوعة بفطرة الأمومة التي أودعها الله في نفسها، فذلك تفضّل منها.

لذلك لا يمكن بأيِّ حالٍ أن يجازي المرء والدته مهما فعل. ولو قدّم لها ما قدّم من الخيرات، فإنه لن يبلغ ولو جزءًا يسيرًا من حقّها عليه. جاء في الرواية أنَّ رجلًا كان في الطوافِ حاملًا أمَّه يطوفُ بِها، فسألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: هل أدَّيْتُ حقَّها؟ قال: لا، ولا بِزَفرةٍ واحدةٍ[2]   .

 اليوم العالمي للأمّ

وقد وردت في فضل الأمّ وحقّها الكثير من النصوص الدينية. وبمناسبة اليوم العالمي للأمّ المصادف 21 مارس، حيث تحتفل بهذا اليوم كثير من المجتمعات، وتزامنًا مع هذه المناسبة تحتفل منطقتنا بحملة البر بالوالدين، نورد بعض النصوص. ويكفي منها ما ورد عن رسول الله أنه قال: «الجنة تحت أقدام الأمّهات»[3]  . وقد نقلوا عن أحد النّساك أنه كانت له أمٌّ طاعنة في السن، وكان كلّما زارها قبّل أقدامها، فاستبطأه إخوانه ذات مرة، فأجابهم قائلًا؛ كنت أتمرّغ في روضة من رياض الجنة، حيث كنت أقبّل أقدام والدتي، والجنة تحت أقدام الأمهات.

وجاء رجلٌ إلى رسول الله، قال يا رسول الله: من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أباك»[4]  ، وبذلك وضع النبي الأكرم برّ الأمّ في منزلة مضاعفة عن البر بالأب، لعظم دورها في الحمل والولادة والرعاية والتنشئة. وجاء عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين في رسالة الحقوق أنه قال: «أمّا حقّ أمّك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحدًا، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعْطِ أحدٌ أحدًا، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد، لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه»[5]  .

شيء من حقّ الأمّ

وبمناسبة الاحتفاء بعيد الأمّ، لا بُدّ أن نشير إلى جوانب لعلّها تؤدّي شيئًا من حقوق الأمّهات. ويأتي على رأسها، ضرورة إبداء أقصى درجات الاحترام للأم، عن طريق خدمتها وكسب رضاها، ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلًا، بمعنى أن يسعى إلى تحقيق الحدّ الأعلى من رضا والدته، لا مجرّد كسب ودّها في الحدود الدنيا.

وفي هذا السّياق ينبغي ألّا يتنازل المرء عن أيّ فرصة متاحة لخدمة والديه، حتى لو ظنّ بأنّ غيره من الإخوة والأخوات قد يقوم بالواجب تجاه والديه، وليعلم أنه بذلك يضيّع على نفسه فرصة عظيمة ويفوّت حظًّا كبيرًا؛ لأنه لم يوفّق لخدمتهما بنفسه، وهل يا ترى لو نال قطعة أرض كبيرة مثلًا، هل كان سيتركها لغيره، أم سيحرص على الاستفادة منها لنفسه؟ كذلك حال الأجر والثواب الآتي من خدمة الوالدين، فلا ينبغي أن يفوّت المرء أدنى فرصة متاحة لخدمتهما.

أما الأمر الثاني، ففي حال فقد الوالدين، ينبغي ألّا ينقطع المرء عن زيارة قبري والديه، وألّا ينسى الوقوف عند قبر والدته والدعاء لها، وإهدائها ثواب العبادة والصدقات، فإنّ في ذلك لونًا من ألوان البر بالوالدين.

والأمر الثالث، أن يلتزم البرّ بأقرباء الأمّ، من الخالات والأخوال وأبنائهم، وسائر الأقرباء من جهة الأمّ، ويجري الحال نفسه في ضرورة التواصل مع أصدقاء الأبوين، إنّ البر بهؤلاء جميعًا، والصلة بهم، هو لون من ألوان الإحسان والبرّ بالوالدين.

تقدير دور الأمومة

ويجب إيلاء دور الأمومة اهتمامًا أكبر على الصعيد الاجتماعي. فالأجواء الاجتماعية العامة لا بُدّ وأن تكون أجواء رعاية واهتمام بالمرأة الأمّ، بدءًا من الزوج الذي رزقه الله الذرية عن طريق هذه الزوجة، ينبغي أن تزيد مكانتها في نفسه، وأن يضاعف اهتمامه بها واحترامه لها، لما تقوم به من دور كبير تجاه أبنائه، وتحمل عنه أعباء ومشاقّ لا عدّ ولا حصر لها، ولا شيء أسوأ وأشدّ قبحًا من أن يهين أحدٌ أمّ أولاده ويسيء لها معنويًّا أو جسديًّا أمام أبنائها، فذلك جرح لا يمكن أن يندمل في نفس الأمّ ونفوس الأبناء على حدٍّ سواء.

كما ينبغي مراعاة وضع الأمومة على صعيد الإجراءات الوظيفية على المستوى الرسمي. فما يزال مجتمعنا يعيش مشاكل متعلقة بالنساء الموظفات، خاصّة منهنّ أولئك اللاتي يعملن في مناطق نائية، أو بعيدة عن مناطق سكن عوائلهنّ، ذلك أنّ العناء المتأتّي نتيجة البعد عن العائلة يكون على حساب دورها كأمٍّ ومربية، تنتظرها مسؤولية أخرى داخل المنزل تجاه زوجها وأطفالها، ذلك الدور الذي لا يستطيع أحد القيام به على النحو الذي تقوم به هي، والسؤال: لماذا ما نزال نواجه هذه المشكلة؟ وما تزال بعض الموظفات كالمعلّمات، يكابدن عناء التنقل إلى مسافات بعيدة، للالتحاق بعملهنّ، بعيدًا عن عائلاتهن؟

والحال نفسه ينطبق على ساعات الدوام الطويل، خاصّة في بعض المؤسّسات الصحية، التي يتطلب العمل فيها نوبتي عمل صباحية ومسائية، فكيف نريد لهذه المرأة أن تؤدي دورها على أحسن وجهٍ كأمّ ومربية، ونحن نجبرها على قضاء عشر ساعات أو أكثر خارج المنزل؟ أفلا يستنزف ذلك جلّ جهدها وطاقتها؟ من هنا كان لزامًا اعادة النظر في عدد ساعات العمل، وفي تخفيضها بالنسبة للنساء العاملات، أو في الأحدّ الأدنى إعطاؤهن حقّ الاختيار في العمل بنصف الدوام مثلًا، حتى لا يكون الإلزام بساعات الدوام الطويل على حساب عائلتها، ودور الأمومة المنوط بها، وهكذا في سائر المجالات، حيث ينبغي للمجتمع أن يعرف قدر الأمومة، وأن يحترم هذا الدور الإنساني الكبير.

 

الخطبة الثانية: اليوم العالمي للسّعادة

قال رسول الله: «أربع من سعادة المرء: الخلطاء الصالحون، والولد البار، والمرأة المؤاتية، وأن تكون معيشته في بلده»[6]  .

يمثل تحقيق السّعادة مطمحًا لكلّ إنسان، وغاية عند كلّ الشعوب، ولكن ما هي السّعادة، وما مصاديقها؟ وما هي الطرق لتحقيقها؟. لقد شكّل تحديد مفهوم السّعادة ميدان اختلاف بين الفلاسفة وعلماء الأخلاق والنفس والاجتماع، منذ قديم التاريخ البشري، الذي يعود إلى عصر فلاسفة اليونان، فهناك من ينظر للسّعادة باعتبارها تحصيلًا للملذات المادية، ومقتضى ذلك أنه كلّما استطاع الإنسان أن يتوفر على أكبر قدرٍ من الملذات المادية، ففي ذلك تكمن السّعادة. من هنا قال أحدهم: إنّ السّعادة تتكون من حساب بنكي مليءٍ، وطاهية ماهرة، وهضم خالٍ من المشكلات.

السّعادة في الفهم المعاصر

وفي حين بقي تحديد مفهوم السّعادة مختلَفًا فيه فلسفيًّا واجتماعيًّا منذ القدم، نحت البشرية في العصر الراهن إلى تحديد مفهوم السّعادة في بعدين؛ البعد الأول: تحقق التنمية والرفاه الاقتصادي، وتوفير متطلبات الحياة، والبعد الثاني: تحسين ظروف البيئة الاجتماعية التي تحترم حقوق الإنسان وتوفر له سبل العيش الكريم.

إنّ توفّر بعدي الرفاه الاقتصادي، وتحسّن ظروف البيئة الاجتماعية، يجعلان الإنسان أقرب لتحقيق السّعادة. هذه السّعادة التي تُعَدّ حقًّا مشروعًا للجميع، أخذ مكانه في الدساتير الحديثة، كما هو حال الدستور الأمريكي الذي نصّ على أنّ السّعي لتحقيق السّعادة حقٌّ مشروع للمواطن والشعب الأمريكي.

وفي الوقت الذي نجد العالم يحتفي فيه باليوم العالمي للسّعادة، المصادف للعشرين من مارس، الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، نجد أنّ شعوبًا بأكملها في هذا العالم، ما تزال تعيش ظروفًا ملؤها التعاسة والشقاء، نتيجة الفقر والحرمان، والاستبداد والظلم، وأعمال العنف والحروب. فهناك شعوب كثيرة، في العالم الثالث خاصة، تعيش الويلات والمآسي، على نحو يرى الناس أنفسهم أبعد ما يكونون عن الشعور بالسّعادة، فكيف لشعب كالشعب السوري مثلًا، أن يشعر أبناؤه بالسّعادة، وهم يرون كيف يجري تدمير بلدهم أمام أعينهم، وترتكب أبشع جرائم القتل والتهجير، التي لم تستثنِ أيّ فئة من فئات الشعب؟ وكذلك الحال في العراق والصومال، حيث عبثت أيدي الإرهاب حتى طالت كلّ المناطق، على نحوٍ لم يعد يأمن الإنسان على نفسه في أيّ مكان، لا في سوق ولا مكان عبادة ولا محلّ ترفيه، تمامًا كما حصل مؤخّرًا في الاعتداء على متحف باردو في العاصمة التونسية الذي راح ضحيته نحو 23 شخصًا وأصيب فيه العشرات.

يغامرون بالهجرة هربًا من شقاء أوطانهم

ويكفي النظر إلى ظروف الهجرة الجماعية، للوقوف على حال الفقر المدقع الذي ترزح تحته الكثير من الشعوب. وقد نشرت صحيفة الحياة الصادرة بتاريخ الأربعاء، ١٨ مارس ٢٠١٥م  تقريرًا عن حالة المهاجرين الإثيوبيين القادمين للسعودية بطرق غير مشروعة عبر البحر، مستخدمين قوارب مهترئة تلقي بهم على السواحل اليمنية، ليتسنّى لهم بعدها التسلل إلى الأراضي السعودية، ويشير تقرير الصحيفة إلى أنّ هناك ما يزيد على 400 مهاجر أثيوبي يصل السواحل اليمنية يوميًّا، وقد بلغت أعداد المهاجرين الواصلين في العام الماضي وحده أكثر من 104 آلاف مهاجر أفريقي، جلبتهم عصابات تهريب بشر، تقاضت منهم مبالغ طائلة، لدرجة يضطر معها المهاجر إلى بيع أو رهن كلّ ممتلكاته في بلده الأصلي، والأنكى أنّ هؤلاء المهاجرين المعدمين كثيرًا ما تعترضهم عصابات الخطف في الأراضي اليمنية، ليبدأ بعدها مسلسل طلبات دفع الفدية من أهاليهم الفقراء، في بلدهم الأصلي، لكي يتسنّى بعدها إطلاق سراحهم، ولنا أن نتصور كم يكابد هؤلاء المهاجرون العناء إثر ذلك، ناهيك عن إمكانية أن تعترضهم أجهزة أمن الحدود في اليمن أو السعودية، باعتبارهم متسللين عن طرق غير مشروعة. والحال نفسه يتكرر مع المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عن طريق البحر، الذين تتوالى أخبار غرق الآلاف منهم سنويًّا. وهذا أسوأ وجوه التعاسة التي تكابدها بعض الشعوب.

إنّ آثار وشرر التعاسة والفقر والشّقاء، التي ترزح تحتها بعض الشعوب، لا بُدّ وأن تترك آثارها على الشعوب الأخرى، وهذا ما يقتضي الحاجة إلى جهدٍ عالمي من أجل الارتقاء بوضع الشعوب الفقيرة، وهي مجتمعات ليست فقيرة من حيث الأصل، حيث تزخر أراضيها بالثروات والإمكانات الطبيعية، لولا السياسات الدولية الجائرة، والسلطات الاستبدادية المحلية، اللتان تكالبتا على خلق حالة الفقر والشقاء لدى هذه الشعوب.

السّعادة في المفهوم الديني

وبالعودة للتراث الديني نجد أنّ هناك طوائف من النصوص الدينية التي تعالج مفهوم السّعادة ومصاديقها. فهناك طوائف ثلاث من النصوص.

الطائفة الأولى تتعلق بالبعد الروحي والنفسي، تركز على أن السّعادة الحقيقية تكمن في تحقق السّعادة النفسية، التي يحوزها الإنسان بانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، والإيمان به، والتطلع إلى ما عنده جلّ وعلا، فذلك ما يوفّر للإنسان الاطمئنان النفسي، وبلوغه حالة الرضا، وهذا تحديدًا ما يشير إليه علماء النفس، الذين ينظرون للسعادة باعتبارها نوعًا من تحقيق حالة الرضا، أي أنْ يعيش الإنسان راضيًا في نفسه.

ومما ورد في النصوص، ما روي عن أمير المؤمنين أنه قال: «بالإيمان يُرتقى إلى ذروة السّعادة»[7]  ، وقال: «السّعيد من استهان بالمفقود»[8]  ، في إشارة إلى وجود صنفٍ من الناس ممن يعيش الحسرة والألم لفقده الشيء، ولشدّة ما يرنو بطرفه إلى ما فقد، فإنه لا يعود يستمتع بما هو موجود عنده، والسّعادة الحقيقية تكمن في أن يستمتع الإنسان بالنعم الحاضرة. إنّ من المشروع جدًّا أن يتطلع الإنسان إلى الأفضل، لكن ينبغي ألّا يأتي ذلك على حساب ما هو تحت يديه، عليه أن يعيش الرضا والاستمتاع بما أعطاه الله سبحانه، وجاء عن رسول الله أنه قال: «من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله عزّ وجلّ»[9]  ، والاستخارة الواردة في الحديث تعني طلب الخير من الله تعالى، لا الاستخارة المتعارف عليها من خلال القرآن الكريم أو باستخدام السّبحة، التي يدور حولهما كلام كثير.

أما الطائفة الثانية من النصوص فهي تتعلق بمسألة التوافق الاجتماعي. ومفادها أنّ من أسباب السّعادة أن يعيش الإنسان في بيئة ومحيط اجتماعي يتوافق معه، فإنه بذلك يحقق ركنًا من أركان السّعادة. جاء عن رسول الله أنه قال: «أربع من سعادة المرء، الخلطاء الصالحون، والولد البارّ، والمرأة المواتية، وأن تكون معيشته في بلده». كما ورد عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه قال: «خلو الصّدر من الغلّ والحسد من سعادة المتعبد»[10]  .

وتتحدث الطائفة الثالثة من النصوص عن تحقيق السّعادة من خلال توفر متطلبات المعيشة. ومن ذلك ما ورد في النص السابق عن رسول: «.. وأن تكون معيشته في بلده»، ذلك أن توفّر سبل المعاش في بلد الإنسان يُعَدّ سببًا من أسباب السّعادة، لكونه يوفّر عليه كثيرًا من عناء الهجرة والتغرب، في سبيل طلب الرزق. وجاء في رواية عن رسول الله: «من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب البهيّ، والولد الصالح»[11]  .

خطبتي الجمعة 29 جمادى الأولى 1436هـ الموافق 30 مارس2015م

[1] صحيفة الاقتصادية. السبت 20 ربيع الأول 1431 ﻫ. الموافق 06 مارس 2010م، العدد 5990.
[2] تفسير ابن كثير، ابن كثير، ج٣، ص٣٨.
[3] كنز العمال، ج11، ص461، حديث ٤٥٤٣٩.
[4] صحيح البخاري. ج4، ص80، حديث 5971.
[5] بحار الأنوار، ج ٧٤، ص٦، حديث١.
[6] مستدرك الوسائل. ج13، ص292، حديث 15386.
[7] غرر الحكم ودرر الكلم، ص164، حكمة 22.
[8] غرر الحكم ودرر الكلم، ص36، حكمة 94.
[9] مسند أحمد بن حنبل، ج1، ص459، حديث1444.
[10] غرر الحكم ودرر الكلم، ص200، حكمة48.
[11] بحار الأنوار، ج73، ص154.