كسب المعرفة وإدارة الحياة

مكتب الشيخ حسن الصفار

عن أمير المؤمنين علي: «يا كُمَيلُ ما مِن حَرَكَةٍ إِلاّ وأنتَ مُحتاجٌ فيها إِلى مَعرِفَةٍ»[1]  .

تقتضي البديهة أن يمتلك الإنسان المعرفة المسبقة عن كلّ عمل يرمي القيام به، صغيرًا كان أم كبيرًا. فمن الطبيعي جدًّا، حين يريد المرء الوصول إلى وجهة معينة، أن يتعرف على الطريق جيّدًا، قبل السير فيه، فإن سار على غير هدى ربما ازداد بُعدًا عن الوجهة التي يرمي بلوغها، كما يقول الإمام الصادق: «العامِلُ عَلى غَيرِ بَصيرَةٍ كَالسّائِرِ عَلى غَيرِ الطَّريقِ، لا يَزيدُهُ سُرعَةُ السَّيرِ إلّا بُعدًا»[2]  ، وعنه أنّ رسول الله قال: «مَن عَمِلَ عَلى غَيرِ عِلمٍ كانَ ما يُفسِدُ أكثَرَ مِمّا يُصلِحُ»[3]  . وهكذا الحال في كلّ مجالٍ من المجالات، فإذا ابتغى الإنسان إنجاز مهمة من المهام، فلا بُدّ له أن يتعرف على طبيعة المهمة، والسبيل إلى إنجازها، عدا ذلك قد يتعذّر عليه إنجازها، أو ربما أدّاها على نحو خطأ.

وهكذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى عند بدء الخليقة، أنْ يمنح الإنسان المعرفة المسبقة بالحياة الدنيا. قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وبحسب النصوص الدينية فإنه تعالى أحاط آدم علمًا بكافة الموجودات. والحال نفسه ينطبق على كلّ إنسان يقضي حياته على هذه الأرض، فهو مدعو لإدراك ومعرفة ما يجري حوله.

إنّ الإنسان ميّال في الغالب إلى التلكؤ في اكتساب المعرفة. وذلك استرسالًا واتّكاءً على ما اكتسبه ضمن محيطه العام، حيث يميل إلى العيش استنادًا إلى المعارف الشائعة في عائلته ومجتمعه، واكتفاءً بمعلومات عفوية تلقّاها من بيئته كيفما اتفق، فيمضي حياته اتّكاءً على تلك المعلومات. وإذا كانت البيئة محدودة المعرفة، ومتخلّفة علميًّا، تغيب عنها الثقافة الحديثة، عندها يبقى الفرد يقتات على هذه المعارف القديمة، وهذه المحدودية في المعرفة، وما ينعكس عنها من محدودية الإنجاز، فلا يعود إنتاج الإنسان وفعاليته عند المستوى اللائق.

الاكتفاء بالمعرفة الشائعة

إنّ إشكالية التخلف المعرفي أمر قائم في كثير من مناحي الحياة ومجالاتها. ولو شئنا تناول هذه الإشكالية ضمن المجال الديني، فسنجد أنّ الفرد يولد ضمن عائلة ومحيط ديني معيّن، فيستقي كلّ معارفه الدينية ضمن هذا المحيط المحدود، دون أن يسأل نفسه ما إذا كانت المعرفة الدينية المتوفرة ضمن محيطه تُعَدّ كافية، أو يتوجّب عليه إجراء مزيد من البحث والاستزادة في هذا المجال، فقد لا تكون كلّ المعارف المتوفرة في تلك البيئة صحيحة أصلًا، أو لعلّها معارف ومعلومات كانت صالحة لزمان سابق. في حين يحتاج البشر في العصر الراهن إلى معارف دينية متقدمة متطورة، فلا يكتفي المرء بالمعارف السّائدة في محيطه الاجتماعي، وبما يتوفر أمامه من معلومات شائعة، فذلك الكسل بعينه.

وكذلك الحال مع المعارف الصحية، حيث ينبغي للمرء أن يتوفر على المعارف الصحية المناسبة، التي تنعكس على نحو مباشر في تعامله مع جسمه، وجميع ما يمكن أن يعتوره من الأمراض والعلل. والحال نفسه ينطبق على اكتساب المعارف الاقتصادية، التي تنعكس على تطوير الوضع الاقتصادي للفرد، والتي لن يتسنّى للمرء إدراكها إلّا من خلال البحث والانفتاح على المعارف المناسبة في هذا المجال، بخلاف ما إذا اكتفى بما عنده من معلومات محدودة.

الاستزادة والتجديد في المعرفة

وتمثل الرسالات السّماوية في جوهرها دعوة دائمة متجدّدة للإنسان، بأن يستزيد من المعرفة. فلا يتوهّم حالة الاكتفاء معرفيًّا في أيِّ مجالٍ من المجالات، وذلك ما يشمل الجميع بلا استثناء، بما في ذلك النبي الأعظم محمد الذي جاءت الآية الكريمة تأمره بقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا، حيث يبقى باب اكتساب العلم مشرعًا على مصراعيه، فينبغي تبعًا لذلك أن ينهل المرء العلم، ويكتسب الثقافة والمعرفة في مختلف جوانب حياته وأبعادها. وقد جاء عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في توجيهه لكميل، أنه قال: «يا كُميلُ! ما مِن حَرَكةٍ إلّا وَأنتَ مُحتاجٌ فيها إلى مَعرِفةٍ».

ومع تعدّد مجالات المعرفة على نحو لا يكاد يحصى، يكتسب مجال المعرفة في العلاقات الاجتماعية أهمية خاصة، ينبغي التركيز عليها. ويستحقّ من الإنسان أن يبذل جهدًا مناسبًا في تحصيل الثقافة والمعرفة المساعدة في تعزيز شبكة علاقاته. وعلى سبيل المثال، اكتساب المعارف المساعدة في إدارة العلاقة مع الوالدين الطاعنين في السنّ، حيث لا يصحّ أن يكتفي المرء بالمعلومات العامة الشائعة في وسطه الاجتماعي، تجاه العلاقة بكبار السنّ، فليس كلّ ما هو شائع صحيحًا، وقد يكون هناك من سبل التعامل مع كبار السنّ ما هو أفضل من الدّارج بين عامة الناس، خاصّة لجهة إدراك حالتهما الصحية، وتقدير سلامتهما النفسية، وأوضاعهما المزاجية، من خلال الاطّلاع والقراءة والوقوف على أحدث ما توصل له البشر في هذا المجال.

كما لا يقلّ مجال المعرفة في العلاقات الزوجية أهمية عن سابقه. إذ إنّ من غير الصحيح أن يكتفي المتزوجون الجدد بالشائع من المعلومات والتقاليد والأعراف المتعلقة بالعلاقة الزوجية، وإنما ينبغي أن يصرف المقبلون على الزواج، شبابًا وشابّات، جزءًا من وقتهم في اكتساب المعارف والثقافة المتعلقة بالحياة الزوجية، وطريقة إدارة حياتهما الخاصة، فذلك أكثر أهمية من صرف الأوقات والجهود في إعداد مراسم حفل الزفاف، ومختلف متعلّقاته. وينسحب الأمر على شؤون رعاية الأبناء وتربيتهم، فلا ينبغي أن يكتفي الوالدان اللذان ينتظران مولودهما بتهيئة الملبس والغذاء والمهد وسائر مستلزمات الوليد الجديد، إنّما إلى جانب ذلك ينبغي أن يستزيدا من الثقافة والمعرفة المتعلقة بالرعاية والصحة، والتنشئة السليمة لهذا المولود.

أنموذج للاهتمام المعرفي

وعلى هذا النحو ينبغي أن يتزوّد الإنسان بالثقافة والمعرفة ذات الصلة بمختلف علاقاته الاجتماعية من العائلة والأصدقاء وصولًا إلى التعامل مع الخدم في المنزل. وقد قرأت مؤخّرًا تقريرًا، تناول اشتراطات الحكومة السنغافورية الواجب توفرها فمن يبحث عن توظيف عاملة منزلية، ومن الاشتراطات أن يدخل الراغب في توظيف خادمة منزلية برنامجًا رسميًّا معدًّا للتأهيل لاختيار خادمة المنزل، وتعطي بموجبه وزارة العمل شهادة إتمام حضور الدورة، وإثبات أهلية المتقدّم لتوظيف خادمة منزلية.

ويوضح التقرير أنه وفي سبيل الحصول على خادمة منزلية في سنغافورة، فلا بُدّ أن يحضر المتقدّم بالطلب دورة تدريبية، تستمر مدّة ثلاث ساعات، يجري خلالها توضيح حقوق وواجبات صاحب المنزل تجاه تلك الخادمة، التي يصفها التقرير بأنها ستصبح جزءًا من الأسرة، ويجري ائتمانها على الأبناء والممتلكات. وهناك لا بُدّ من أن يثبت المتقدّم أهليته للحصول على خادمة، من خلال الإجابة عن عدد من الأسئلة، للتأكّد من استيعابه لكلّ المعلومات التي أعدّتها وزارة العمل والعمال. وهناك خياران أمام المتقدّم لحضور الدورة، أما من خلال التسجيل في أحد المعاهد الأكاديمية، أو التسجيل عبر الإنترنت لحضور الدورة وتلقّي المعلومات إلكترونيًّا.

وحول محتوى الدورة أشار التقرير، إلى تعلّم طريقة التعامل مع الخادمة بالنظر لدينها، إذا كانت من أتباع دين آخر، وطعامها وبرنامج حياتها ومزاجها، خاصة إذا كانت آتية من مجتمع آخر، فيجري تداول كل هذه المعلومات ضمن ورشة عمل، فإذا كانت بعض البلاد تشترط توفر شهادة تأهيلية لتوظيف عاملة منزلية، فكيف إذا تعلق الأمر بتكوين عائلة وإدارة الحياة الزوجية؟ فهل يعقل أن يخوض الزوجان حياتهما الزوجية دون حضور ولو دورة واحدة في هذا الشّأن، على غرار ما بات يتداول في بعض الأوساط حول اشتراط توفر رخصة قيادة عائلة.

إنّ ديننا الحنيف يحضّ على اكتساب المعرفة، والتوفر على الثقافة، في مختلف المجالات. ويُشدّد أمير المؤمنين عليٌ، على الحاجة إلى المعرفة عند كلّ حركة، دونما استثناء. وهذا ما باتت تقوم عليه حياة الناس في عصرنا الراهن، فلا يشتري الإنسان جهازًا صغيرًا أو كبيرًا، إلّا ويجد برفقته وصفًا تفصيلًا لطريقة التشغيل على النحو السّليم، ولا يشتري تذكرة سفر إلّا ويجد خلفها كلّ المعلومات والاشتراطات والحقوق والواجبات المتعلقة بالمسافر، بل إنّ أية علبة طعام صغيرة يشتريها الزبون، يجد مكتوبًا عليها كافّة المحتويات وطرق الاستخدام، وهكذا الحال مع علب الدواء وسائر المستلزمات الأخرى.

فالحياة العصرية باتت قائمة على الاعتماد على المعرفة في كل المجالات، وهذا ما ينبغي أن يكون مركز اهتمام الإنسان المسلم، سيما مع توفر وسائل المعرفة ومصادرها على كلّ الصُّعد، وعلى نحو غير مسبوق، سوى أنّ المشكلة لا تعدو عن غياب الدافع الذاتي عند البعض، والاستسلام للكسل، والتواني عن تحصيل المعرفة، نتيجة الإهمال وقلة الاهتمام.

 

الخطبة الثانية: تعميم الأحكام على الجماعات والمجتمعات

﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[سورة الإسراء، الآية:15].

يتحمّل الإنسان على نحو فردي المسؤولية كاملة عن أعماله وتصرّفاته. فالإنسان وإنْ كان جزءًا من بيئته الاجتماعية، يتأثر بها ويؤثر فيها، لكنه يبقى كائنًا مسؤولًا، منحه الله عقلًا وإرادة، وأعطاه حرية الاختيار، فهو يتحمّل بمفرده المسؤولية عن جميع أعماله وتصرفاته. وكونه جزءًا من مجتمع كبير أو صغير، لا يعفيه من المسؤولية؛ لأنّ المطلوب منه في كلّ الأحوال أن يُعمل عقله، ويستخدم إرادته، وأن يقرّر ما هو الصالح لنفسه، دونما انسياق أعمى خلف السائد في بيئته الاجتماعية، فهو مسؤول كامل المسؤولية أمام خالقه سبحانه وتعالى.

الإنسان كائن مسؤول

ليس هناك أحدٌ يتحمّل المسؤولية عن أفعال غيره وتصرفاته، لا في عالم الدنيا ولا في الآخرة. ولطالما ذكّر سبحانه الإنسان بهذه الحقيقة في كتابه الكريم، فقد يكون الإنسان جزءًا من قبيلة كبيرة، أو منتميًا لجماعة أو حزب أو طائفة، لكنه سيقدم بمفرده على الله سبحانه في عالم الآخرة، قال تعالى:﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، وجاء في آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وتبعًا لذلك، لن يغني أحد عن أحدٍ في يوم القيامة، لا من عائلته ولا جماعته ولا طائفته، وإنما سيكون وحده بين يدي الله محاسبًا على كافة أفعاله، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، ذلك أنّه حتى لو أدرك الإنسان متأخّرًا في يوم القيامة، ثقل أوزاره، وأدار عنقه ناحية أقربائه ومعارفه في الدنيا علّهم يُنجدونه بتحمّلهم جزءًا من المسؤولية عن أخطائه، فهل يا ترى يجد من يلبّي نداءه ويغيثه؟ كلا. قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.

وقد تكررت الآية الكريمة: ﴿َلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ في القرآن الكريم خمس مرات، في سبيل تأكيد مضمونها، واعتبار ذلك قاعدة ينبغي السير عليها. من هنا، ينبغي للإنسان أن يلزم منتهى الحذر من أن يقوم بعمل، أو يتبنّى رأيًا، إلّا ويضع الله سبحانه نصب عينيه؛ لأنه سيقف بين يديه في نهاية المطاف.

كما أنّ القوانين العادلة في الدنيا تعتبر العقوبة فردية. فلا يمكن أن يُحمّل القانون العادل أحدًا المسؤولية عن جرم ارتكبه آخر، وإنما يتحمّل المخطئ وحده المسؤولية المطلقة عن أعماله.

التعميم نزعة جاهلية

وعلى النقيض من ذلك تجري الأمور في المجتمعات الجاهلية، حيث تسود فيها نزعات الثأر والانتقام، وتعميم الأحكام، فإذا ما قتل فردٌ من قبيلة فردًا من قبيلة أخرى، فإنّ قبيلة القتيل لا تقوم بالبحث عن الفرد القاتل وأخذ الثأر منه وحده، وإنما تلقي بالمسؤولية عن الجريمة على كلّ أفراد قبيلته، وهذا خلاف العدل والقانون، فإذا كان المجرم فردًا واحدًا فما جريرة الآخرين حتى يتحمّلوا المسؤولية عن فعلته؟

إنّ من المؤسف أن تتشبث بعض المجتمعات المعاصرة بمثل هذه الأعراف والتقاليد الجاهلية. فإلى وقت قريب، كان يجري في العراق ما يعرف بالفصل العشائري، وهي مجموعة أحكام خاصة بفضّ الخصومات العشائرية، ومن ضمنها مثلًا، لو أنّ شخصًا من عشيرة اعتدى على آخر من عشيرة ثانية، فعلى عشيرة الشخص المعتدي أن تسترضي المعتدَى عليه بإعطائه أربع أو خمس من بناتها، ليتزوج منهن أو يتصرف بهنّ كيفما شاء، ويذكر في هذا الشأن أنّ الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر ألف كتيّبًا تناول فيه البحث في أحكام الفصل العشائري.

ومن الطرائف التي تنقل أنّ قاضيًا أحمق جِيْءَ له بمجرم فقأ عين شخص، فكان الحكم المتوقع أن تفقأ عين المعتدي؛ تبعًا لمبدأ «العين بالعين»، غير أنّ القاضي سأل المتهم عن عمله، فقال إنه يعمل خيّاطًا، فأبى القاضي أن يفقأ عينه لحاجته لاستخدام عينيه الاثنتين في الخياطة، فسأل القاضي المتهم: ألك أخٌ؟ قال: نعم، فسأله عن عمله، قال إنه يعمل صيّادًا، فأمر بإحضاره وأجرى الحكم عليه؛ لأنه لا يحتاج في عمله غير عين واحدة.

لقد امتدت النّزعة الجاهلية في تعميم الأحكام الجائرة حتى طالت الجماعات والأحزاب. وهذا أمر ملحوظ في المناطق التي تطحنها الحروب والنزاعات الأهلية، حيث تتبادل الجماعات المتحاربة اختطاف وقتل الناس العاديين من هذا الطرف أو ذاك، لا لجرمٍ ارتكبوه، وإنما على أساس انتمائهم الديني أو الطائفي وحسب. والأنكى أن تتورّط بعض الحكومات في هذا المنحى الجاهلي، فتقوم بإيقاع العقوبات الجماعية على مناطق وفئات كبيرة من مواطنيها، لمجرّد أنّ شخصًا من تلك الفئة أو المنطقة ارتكب خطأ أو اقترف جريمة، دونما ذنب ارتكبه باقي الناس حتى تنالهم العقوبة الجماعية. إنّ هذه الطريقة المخالفة للعدل والإنصاف، تُعَدّ من بقايا العادات الجاهلية، ولذلك أكّد القرآن الكريم مرارًا نبذ هذه العادة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، فكلّ إنسان يتحمّل بمفرده المسؤولية عن جرمه، ولا يجوز معاقبة الآخرين على ذلك الجرم.

الصورة النمطية عن الجماعات

وكما في المسائل المادية، ينبغي ألّا يجري تعميم الأحكام على الآخرين في القضايا المعنوية أيضًا. فإذا ما ارتكب شخص جريمة ما، أو فعل فعلًا مخلًّا، فهو المعنيّ وحده بهذا الجرم، وهو بمفرده من يوصم بهذا العار، ولا شأن للآخرين بذلك، لا من عائلته، ولا مجتمعه أو طائفته. وذلك بخلاف ما يجري في المجتمعات القبلية والجاهلية، حيث ينظر الناس نظرة شزراء إلى عائلة بأكملها، أو قبيلة بعامة أفرادها؛ لأنّ واحدًا منها ارتكب جريمة ما، دونما ذنب اقترفه الباقون. إنّ الشخص المخطئ يتحمّل وحده المسؤولية عن أفعاله، ولا شأن للآخرين في ذلك من قريب أو بعيد. هذا ما ينبغي أن يسري في مختلف العلاقات الاجتماعية بين أتباع المذاهب والطوائف والجماعات، فلو أقدم شخص من أتباع مذهب ديني، على الإساءة إلى مذهب آخر، فينبغي ألّا يجري تعميم هذا الخطأ على جميع أتباع المذهب، والحكم عليهم، والتشهير بهم، والإساءة لهم، نتيجة خطأ صادر من فرد واحد، أو جماعة صغيرة محسوبة عليهم، فهذا خلاف المنطق والعقل، ومجانب للعدل والإنصاف، الذي يحصر المسؤولية عن الجرم في حدود مرتكبه وحده.

إنّ الانسياق خلف التوجّهات العاطفية، والنزعة الجاهلية، في تعميم الأحكام الجائرة، يُعدُّ مشكلة في بعض الأوساط والفئات. فهب أنّ شخصًا محسوبًا على جماعة من الجماعات قال كلامًا لم يعجب البعض، فهو المسؤول عن تبعات كلامه، ولا مسوّغ لأن تحاسب كلّ الجماعة على كلام أطلقه فرد واحد منها. إلّا إذا وافقوه وأيدوه. وذلك ما ينسحب أيضًا على المذاهب والأديان والأحزاب. إنّ الطريقة التعميمية في التعامل مع الأمور، تُعَدّ طريقة غير عادلة، ومجافية لمنطق القرآن الكريم، حتى ليظن المرء أنّ المتورطين في تعميم الأحكام على الآخرين، لم يقرؤوا آيات الكتاب العزيز في نبذ هذا المنحى السيئ، وما مرّت على مسامعهم قطُّ.

إنّ المنهج القرآني يمضي باتجاه وضع المعايير وتحكيم القيم، حيال النظرة إلى أحداث الحياة. وإلّا فما الفائدة من قراءة آيات الكتاب العزيز، الحاضّة على النأي عن تعميم الأحكام الجائرة على الأشخاص والجماعات؟

من هنا، ينبغي أن تُشكّل الآية الكريمة: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، مرجعية ننظر من خلالها إلى الأشخاص والجماعات والمذاهب والأديان.

فالقرآن الكريم لا يقبل أن يضع جميع أهل الكتاب في سلة واحدة، وإنما تناولهم على نحو التبعيض، حيث جاء في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، أي إنّ فيهم الصالح والطالح، فلا ينبغي الحكم على الآخرين جزافًا واتّكاءً على قول أو فعل فرد واحد، فذلك خلاف العدل.

خطبتي الجمعة 28 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق 18 أبريل 2015م
[1] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص١٧١.
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج١ص٤٣، حديث1.
[3] الكافي، ج١ص44، حديث3.