التواصل المذهبي وما بعد (تنظيم الدولة)

مرّت بالأمة أزمات عديدة في هذا العصر، وأصابت المنطقة أعاصير مختلفة، لكن ظهور حركة عنفية إرهابية، تتبنّى القتل والتدمير بأبشع الصور، وتتباهى بها وتروجها ضمن وسائل إعلامها، من ذبح وإعدامات وإحراق لأناس أحياء، وسبي للنساء، وتدافع عن ذلك علنًا!!  وتسيطر على أراضٍ تعلن عليها خلافتها، وتجد لها أتباعًا من مختلف أنحاء العالم، هذا ما فاق كلّ التصورات والتوقعات، إنه زلزال رهيب.

حتى إنّ الإنسان ليتساءل عن المشاهد التي يراها ويسمع عنها: هل هذا واقع؟!

هل يمكن أن تحصل هذه الجرائم البشعة باسم الإسلام؟!!

نعم .. لقد حصل ذلك!!

في 10 يونيو 2014م استولت (تنظيم الدولة) على حوالي 108 آلاف كلم مربع، أي 40% من مساحة العراق. إضافة إلى ما كانت استولت عليه من نصف أراضي سوريا.

ويقدر أعداد مقاتليه في العراق بين 30 إلى 50 ألف مقاتل

كما انضم إليه أكثر من 40 ألف مقاتل أجنبي من 81 دولة سافروا للقتال في سوريا والعراق.

وتقدر ثروة التنظيم بملياري دولار من الأموال السائلة والأصول، مما يجعله من أغنى الجماعات المسلحة على مستوى العالم.

 

المنظمة الإرهابية والحرب الطائفية:

في موضوع هذا النوع من المنظمات أبعاد كثيرة، حول تكونها، وارتباطاتها، ودعمها، وطريقة إدارتها، وكلّ بعد تتعدد فيه التحليلات والآراء، لكن ما يهمنا في هذا المجال هو البعد الطائفي المذهبي.

بالطبع إنّ هذا التنظيم الطائفي لم يقاتل الشيعة فحَسْب، بل استهدف السنة أيضًا، إضافة إلى الأيزيديين والمسيحيين وأتباع سائر الأديان، فلم يسلم أحد من شرّ هذه الحركة الإرهابية.

لكننا في هذا البحث نتناول البعد المذهبي، فقد أعلنت هذه الحركة الإرهابية حربها على الشيعة، واستهدفت وجودهم في كلّ مكان، وحركت عناصرها للقيام بالتفجيرات في المساجد والحسينيات والمواكب، كما رأينا في باكستان وأفغانستان والسعودية والكويت فضلًا عن العراق وسوريا، وهي تعلن في بياناتها وإعلامها استهدافها للشيعة.

وهذا ما يطرح ضرورة العودة إلى بحث العلاقات المذهبية، لقد استفادت هذه الحركة وأمثالها من أرضية فكرية طائفية، وأجواء غير مستقرة في العلاقات البينية، وتراث مشحون بمبررات الخلاف والصراع المذهبي.

 

الدراسة والمراجعة:

فلا بُدّ أن تعود الأمة وعلى رأسها المفكرون والعلماء والدعاة والقيادات المهتمة، لدراسة هذا الزلزال الرهيب الذي حصل خلال هذه السنوات.

 ونجد أنفسنا أمام خيارين:

إما الاستسلام لمفاعيل هذا التوجه العنفي الطائفي، وما يتركه من ارتدادات على النفوس والأفكار، في أتباع هذه التنظيمات والمتأثرين بها، أو في نفوس الضحايا والمتضررين من جرائمها.

والخيار الآخر ملاحقة هذه المفاعيل حتى لا تنمو وتتفجر من جديد.

ولكن من المسؤول عن دراسة الحالة والمراجعة والملاحقة؟!

إننا جميعًا نتحمل المسؤولية لمواجهة هذه الآثار والمفاعيل، فحكومات المنطقة معنية بسدّ الثغرات، والسيطرة على المشكلة المذهبية، في إطار تعزيز الوحدة والاندماج الوطني، والمؤسسة الدينية للسنة والشيعة، مسؤولة عن إعادة النظر في خطابها وطروحاتها فيما يخصّ الجانب المذهبي، وليس صحيحًا الاستمرار في ترامي المسؤولية، بأن ترى المؤسسة الدينية عند السنة بأنّ المشكلة من الطرف الشيعي، وترى المؤسسة الدينية عند الشيعة بأنّ المشكلة هي من الجانب السني، فهذا لا يحلّ المشكلة، ولا يوصلنا إلى برّ الأمان.

 كلٌّ منّا يجب أن يتحمل نسبة من الخطأ، قد نختلف في تقديرها.

وكمثال على ذلك في الحوادث المرورية، حتى لو كان الخطأ في الأساس من الطرف الآخر؛ لكونه مسرعًا، أو قاطعًا للإشارة، لكنك إذا كنت منتبهًا ومسيطرًا على قيادتك للسيارة، واتخاذ التصرف السليم، فقد تستطيع تجنب الكارثة أو التخفيف منها.

علينا أن نصارح أنفسنا، فليس صحيحًا أن نسترسل فيما كنا عليه قبل مرحلة التنظيمات الإرهابية الأخيرة، وكأنّ شيئًا لم يحدث، إنّ هذا يعني إعطاء الفرصة لتكرار ما حصل، وربما بشكل أشدّ وأقسى لا سمح الله.

ونرى أن المجتمعات الأخرى تدرس الظواهر والأحداث التي تمر بها، وتتخذ القرارات المطلوبة على ضوء دراستها.

حينما تقدّم الروس على الأمريكان في غزو الفضاء، اتخذوا إجراءات طالت مناهج التعليم في أمريكا، وخاصة في الجوانب العلمية الطبيعية كالفيزياء والرياضيات.

وهذا الحدث الكبير في مجتمعاتنا لا بُدّ أن يحرّكنا للمراجعة وإعادة النظر، وللأسف فإنّ مسألة الدراسات الجادة للظواهر والمشكلات لا تحظى بالاهتمام اللازم في العالم الإسلامي.

فعن موضوع (تنظيم الدولة) بالذات صدرت دراسات كثيرة عن عدد من مراكز الأبحاث في العالم، ومن أوائل الدراسات، دراسة مهمة مثيرة صدرت سنة 2014م عن مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب التابع للاستخبارات الإسرائيلية، ترجمته وطبعته عام 2016م مؤسسة باحث للدراسات الفلسطينية الاستراتيجية، في 360 صفحة. تحت عنوان: (داعش صورة عن تنظيم إرهابي جهادي.. رؤية صهيونية).

إنّه ينبغي لكلّ الجهات الرسمية والأهلية والدينية دراسة هذا الحدث، واتخاذ الإجراءات العملية الكفيلة بالحدّ من آثاره، وعدم تكراره في المستقبل.

 

تطبيع العلاقة بين المرجعيات الإسلامية

في تاريخنا الإسلامي كانت هناك انقسامات دينية في ساحة الأمة، وأمكن تجاوز معظم تلك الانقسامات أو تجميد آثارها.

كانت هناك خلافات بين أهل الرأي وأهل الحديث، ومن يقرأ التاريخ يتعرف على ألوان من الصراع والمواجهات بينهما، وقد استمرّ هذان الاتجاهان، لكن حالة الانقسام تم تجاوزها.

كما حدث انقسام بين الأشاعرة والمعتزلة، ثم تراجع هذا الانقسام، وبقي الاختلاف في حدوده العلمية.

وكانت هناك انقسامات بين المذاهب الأربعة، تصل في بعض المراحل إلى النزاع والمواجهات وسقوط الضحايا، وصدرت في تلك الحقبة الزمنية فتاوى متبادلة تحرم التزاوج بين أتباع المذاهب، أو الصلاة خلف إمام مغاير في المذهب، لكننا اليوم لا نشهد تلك الانقسامات الحادة، حيث تحول الاختلاف بين اتباع المذاهب الاربعة إلى مجرد تباين في الآراء العلمية.

وبقي الخلاف (السني ـ الشيعي) إلى يومنا هذا، لم تتم معالجته!!

بالطبع ليس مطلوبًا أن يتنازل أتباع أيّ مذهب عن شيء من معتقداتهم وآرائهم المذهبية، لكن المطلوب هو التعايش وتجاوز الانقسام الاجتماعي، حتى لا تصبح حالة الاختلاف مبعثًا للأخطار على الأمة ومجتمعاتها، فتتسلل مثل هذه التوجهات العنفية الإرهابية من ثغرة الاختلاف المذهبي.

 

ضمانات المعالجة:

كان لجهود العلماء المصلحين من السنة والشيعة في الستينيات من القرن الماضي، دور كبير في إنتاج ثقافة تعزز وحدة الأمة، ونبذ الخلاف، وتدعو للتواصل المذهبي على الصُّعد المحلية، وعلى المستوى الإسلامي العام، كتأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، وانعقاد المؤتمرات المختلفة، وقيام جماعات ونشاطات مشتركة بين أطراف شيعية وسنية، إنّ كلّ هذه المبادرات تشكر وتقدر، وينبغي أن تتواصل وتتوسع.

 

لكن هناك أمرين لا بُدّ من توفرهما للسير في الطريق الصحيح نحو نزع فتيل هذه المعضلة:

الأمر الأول: الحياد السياسي

وذلك بأن تتعامل الحكومات الإسلامية مع مواطنيها ضمن مفهوم المواطنة في الدولة الحديثة، بعيدًا عن الخلاف المذهبي، ودون أيّ تمييز في الحقوق والواجبات.

 

الأمر الثاني: تأسيس علاقة بين المرجعيات الدينية الكبرى (السنية والشيعية)

إنّ فظاعة ما حصل من هذا الزلزال الرهيب، تدعونا للتأكيد على ضرورة القيام بمبادرة أكبر تستجيب لتحديات المرحلة، وتتمثل في تلاقي المرجعيات الرئيسة لدى السنة والشيعة، واتفاقهم على التواصل الدائم، واعتماد صيغة للعلاقة الإيجابية بين الطرفين.

وهناك أربع مرجعيات دينية أساسية في العالم الإسلامي، مرجعيتان للسنة، تتمثل في سماحة المفتي وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وفي الأزهر وشيخ الجامع الأزهر في مصر.

ومرجعيتان للشيعة تتمثل في المرجعية العليا في النجف، ومرجعية الحوزة العلمية في قم.

إنّ مصلحة الأمة والعالم الاسلامي، تقتضي التواصل بين هذه المرجعيات، وأن يكون بينها خطوط ارتباط وتنسيق، فما الذي يمنع من ذلك؟

إننا نشاهد انفتاحًا وتواصلًا بين المؤسسة الدينية في المملكة وفي الأزهر، وبين الفاتيكان وبابا المسيحية هناك.

ففي غرة شهر شعبان الماضي 1438هـ استقبل شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، بابا الفاتيكان، الذي زار القاهرة للمشاركة في "مؤتمر الأزهر العالمي للسلام"، وفي خطوة رائدة زار الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي في المملكة الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى حاضرة الفاتيكان يوم الأربعاء، 29 ذو الحجة 1438هـ الموافق 20 سبتمبر 2017م.

وكان في استقباله البابا فرانسيس الثاني، وتم خلال اللقاء تبادل وجهات النظر حول عدد من المواضيع ذات الاهتمام المشترك، التي تصب في صالح السلام والوئام العالمي، خصوصًا التعاون بين الفاتيكان والعالم الإسلامي في قضايا السلام والتعايش ونشر المحبة.

وأعرب معالي الدكتور محمد العيسى عن تقدير العالم الإسلامي لمواقف البابا العادلة والمنصفة تجاه الدعاوى الباطلة التي تربط التطرف والعنف بالإسلام.

وفي نهاية اللقاء تبادل قداسة البابا مع معالي الشيخ العيسى الهدايا التذكارية.

كما التقى الدكتور العيسى ضمن جدول الزيارة الرسمية أعضاء المجلس البابوي[1].

وكان رئيس المجلس البابوي بالفاتيكان الكردينال جان لوري توران، قد أشاد باللقاء التاريخي، مشيرًا إلى أنّ هذا اللقاء فتح صفحة جديدة من الصداقة والتعاون بين الفاتيكان والعالم الإسلامي، لمواجهة التحديات والأخطار التي تواجه العالم اليوم، وتحتاج إلى تكاتف الجميع.

من جهة أخرى، أكد الدكتور العيسى أنّ رابطة العالم الإسلامي على أتم الاستعداد للتعاون مع جماعة (سانت إجيديو) المنظمة الدولية الإنسانية في جميع المجالات التي تخدم التواصل الحضاري بين الشعوب والمنظمات[2].

كما تقرر تكوين لجنة اتصال دائمة بين الفاتيكان، ممثلًا بالمجلس البابوي، ورابطة العالم الاسلامي لبحث عدد من المبادرات[3].

ولا شك أنّ مثل هذه المبادرات واللقاءات مع رأس الكنيسة المسيحية، مفيد ومهم جدًّا، وخاصة في الزمن الحاضر، لتلافي آثار وتداعيات التوجهات الإرهابية المتطرفة، على علاقة المسلمين بأبناء الديانات الأخرى.

 وكذلك فإن الحاجة ماسّة أيضًا لتفعيل التواصل بين قيادات المذاهب داخل الأمة الإسلامية، وهي أكثر إلحاحًا وأهمية، لحماية مجتمعات الأمة وأوطانها من التمزّق والاحتراب.

إنّ الحكومات ينبغي أن تدفع باتجاه تلاقي هذه المرجعيات، فذلك ما يفيد الحكومات ويساعدها في تخفيف الاحتقان والتوتر المذهبي، وهو ما يفترض أن تتطلبه هذه الحكومات، وأنّ على الواعين من أبناء المجتمعات الإسلامية أن يطالبوا مرجعياتهم بتحقيق هذه الخطوة.

ونأمل أن يساعد تطور العلاقات بين المملكة والعراق، وافتتاح قنصلية سعودية في النجف - كما جرى الحديث عنه في وسائل الإعلام - على تحقيق ذلك.

 في ذات الوقت فإنّ هناك تطورًا في العلاقات المصرية العراقية يخدم هذا الاتجاه.

 

أنموذج مسيحي في العلاقات المذهبية:

شهد العالم في 12 فبراير 2016م حدثًا هامًّا على صعيد العلاقات الدينية المذهبية المسيحية، تجسّد في لقاء رأسي الكنيستين الكاثوليكية الرومانية الغربية، والأورثوذكسية الشرقية، بعد خلاف مرير دام أكثر من ألف سنة، فقد شكّل الانقسام بين الكنيسيتين أكبر انشقاق شهدته المسيحية عبر تاريخها، والذي حدث سنة 1054 ميلادية، ومنذ ذلك الحين انقسمت المسيحية إلى الكنيسة الكاثوليكية الغربية التي يتبعها غالبية المسيحيين في العالم، بتعداد يفوق المليار ومئتي مليون من الأتباع، في مقابل الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية وتعداد أتباعها يربو على 250 مليونًا، ولهذه الكنيسة بدورها عدة كنائس، أبرزها تلك الموجودة في العاصمة الروسية موسكو ويتبعها نحو 165 مليون شخص.

ويعود سبب الانقسام بين الكاثوليكية والأرثوذكسية إلى خلاف عقدية، إلى جانب التنافس على الزعامة بين الكنيستين، حيث ترفض الكنيسة الشرقية الخضوع للكنيسة الغربية، وتعتبر نفسها الممثل الحقيقي للكنيسة، بالنظر إلى انبثاق المسيحية في الشرق، أضف إلى ذلك من أسباب الخلاف، الاتّهامات المتبادلة بالتبشير لمذهب كلّ كنيسة في وسط أتباع الكنيسة الأخرى، الذي تشتكي منه الكنيسة الشرقية بقوة، حيث اشتدّت هذه الاتّهامات بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

واللافت في الأمر أنّ ذات الأسباب الباعثة على التوتر بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، تكاد تتطابق مع أسباب التوتر بين المسلمين الشيعة والسنة، من حيث الخلاف العقدي، والتنافس على النفوذ، إلى جانب الشكوى من التبشير المذهبي المتبادل.

ورغم الصراع الطويل بين أتباع الكنيستين، والذي كان مشوبًا بالعنف والاحتراب في بعض الازمان، إلّا أنّهم تجاوزوا حالة الاحتراب والعنف، وأقصى ما يمكن أن يقال على هذا الصعيد أنّ هناك "حربًا باردة" بين الطرفين.

وقد كانت هناك مساعٍ جدّية نحو ترتيب لقاء مباشر بين رأسي الكنيستين، باءت جميعها بالفشل، إلى أن نجحت الجهود مؤخّرًا في ترتيب اللقاء الأول بينهما في العاصمة الكوبية هافانا، وذلك بعد نحو ألف سنة من الانفصال، وقد قضى زعيما الكنيستين لقاءً دام نحو الساعتين، ثم خرجا ببيان مشترك، يبشّران فيه بعلاقة جديدة أقرب للتعاون بينهما.

وما يلفت النظر أنّ أحد الطرفين يمثل الأكثرية المسيحية الغربية، بتعداد يربو على المليار و200 مليون، فيما يمثل الآخر الأقلية بنحو 250 مليون من المسيحيين الشرقيين، إلّا أنّهما في نهاية المطاف التقيا، واتفقا على عدد من الأمور، ومن أبرزها بحسب وكالة الأنباء الكاثوليكية، أمران:

الأول: الوقوف ضدّ الاضطهاد الذي يتعرّض له المسيحيون وخاصة في الشرق الأوسط، لجهة خطر الإبادة والتهجير، نتيجة الإرهاب والتطرف الذي أخذ عنوان الإسلام، ليطوي الطرفان صفحة الخلافات ويتفقا على توحيد الجهود في هذا الملف.

الأمر الثاني، أن تتعاون الكنيستان المؤمنتان بالأخلاق التقليدية على ترسيخ هذه الأخلاق، في مقابل سيطرة الأخلاق الليبرالية التي تسود العالم.

 

دور الممانعة والتطرف في الجانبين

حينما نقرأ تاريخ العلاقات المذهبية بين علماء الفريقين (السنة والشيعة)، نرى أنّ هناك خطًّا إيجابيًّا يدعو إلى التواصل والتقارب، يقابله خط سلبي يمانع التقارب والتواصل، ويدعو إلى القطيعة والتباعد، وكما في الماضي هو في الحاضر أيضًا.

 

نماذج إيجابية

1/ ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج10 ص262: كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضيًّا وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن بن صالح رافضي.

فقال: سبحان الله، رجل أحبّ قومًا من أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبّهم! هو ثقة.

هكذا كان الإمام أحمد منفتحًا على هذا الشخص الذي يختلف معه في الرأي والمذهب، وهناك من يعترض عليه في انفتاحه وتواصله، وهي حالة تتكرر اليوم.

2/ تحدث السيد عبدالحسين شرف الدين في كتاب (المراجعات) عن اعتماد علماء السنة ومحدثيهم لروايات نقلها رواة من الشيعة، مع وضوح تشيعهم. وقد أثبت أسماء مئة منهم.

 فمثلا: أَبان بن تَغْلِبْ جاء في أسناد أحاديث من صحيح مسلم، وسنن أبي داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقد ترجمه الذهبي في ميزان الاعتدال، فقال عنه: شيعي جلد لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غاليًا في تشيعه.

وكذلك أحمد بن المفضل بن الكوفي، أخرج عنه أبو داوود، والنسائي، وقال عنه الذهبي: كان أحمد بن المفضل من رؤساء الشيعة، صدوقًا.

وقد أحصى الشيخ محمد جعفر الطبسي 140 اسمًا في كتابه (رجال الشيعة في أسانيد السنة)[4] الذي طبع مؤخرًا.

3/ وكما اعتمد علماء السنة رواة من الشيعة، أخذ علماء الشيعة بروايات الثقاة من أهل السنة.

فمثلًا السَّكُونِيِّ (إسماعيل بن أبي زياد السَّكُونِيِّ) وهو راوٍ سني، نقلت عنه الكتب الأربعة وهي أهم مصادر الحديث عند الشيعة 1067 رواية، بل إن مستند بعض الفتاوى منحصر في روايـته[5]، وقد صرّح الشيخ الصدوق في المشيخة بالأخذ عن كتابه.

4/ تحدث الشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي الجبعي العاملي، شارح كتاب (اللمعة الدمشقية) الذي يدرس في الحوزات العلمية الشيعية (توفي شهيدًا عام 966هـ). في ترجمته لنفسه، أنه أخذ العلم عن ستة عشر عالماً من علماء السنة في دمشق ومصر.

منهم الشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي، والشيخ شهاب الدين أحمد الرَّمْلي الشافعي، والشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي، والشيخ زين الدين الحري المالكي وغيرهم.

5/ونجد أنّ السيد البروجردي وهو مرجع أعلى للشيعة في إيران ( توفي 1380هـ) وضع مشروعًا لجمع أحاديث السنة والشيعة في مصدر واحد، مصنّفة حسب الأبواب والمسائل الفقهية، وشكّل لجنة من تلامذته فيها أربعة وعشرون من الفضلاء، من بينهم الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني، وقد نقل إنّ السيد كان يرى إيراد روايات أهل السنة في ذيل أبواب الكتاب، إذ في الجمع بينها فوائد، وللنظر فيها جميعًا دخل في الاستنباط، وبعد بدء العمل بمدة حصلت ضغوط على السيد، فغيّر رأيه للاقتصار على أحاديث الشيعة قائلًا: إنّ الناس عندنا لا يتحمّلون هذا في وقتنا الحاضر، وإني أخاف الفتنة فنكلها إلى وقت مناسب.

وهكذا صدر كتاب (جامع أحاديث الشيعة) في 31 مجلدًا.

6/في لقاء جمع السيد السيستاني ومجموعة من علماء العراق خلال استقبال سماحته وفدًا منهم - في ختام أعمال الملتقى الثاني للعلماء المسلمين السنة والشيعة، الاثنين  12/ 11/1429ﻫ الموافق 10/ 11/ 2008م - تحدث عن تتلمذه على يد عالم سني، قال: «درست عند الشيخ أحمد الراوي، وهو من علماء السنة في سامراء، ولم يكن يخطر ببالي أنه على غير مذهبي»[6].

وهناك أمثلة ونماذج كثيرة لمبادرات التواصل والتعاون بين علماء من السنة والشيعة في الماضي والحاضر، لكن المأمول والمطلوب أن تكون هي الحالة الطبيعية والسائدة بين الجانبين، وليست موارد معدودة.

ممانعة التواصل والتقريب

هناك أسباب تمنع التواصل والتقارب، نشير هنا إلى أحد أهم تلك الأسباب، وهو وجود قوى الممانعة والرفض في الجانبين.

فحينما أنشئت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة عام (1368 هـ / 1947م) واجهتها ممانعة شديدة وخاصة من المتشددين السلفيين الذين رفضوا أيّ فكرة أو مشروع للتقارب والتواصل، وأصدروا الفتاوى والكتب ضد هذا المنحى.

وتوجد الآن قنوات فضائية طائفية، من جهات سنية وشيعية، رسالتها ووظيفتها معارضة أيّ مسعى للتقارب والتواصل بين الجانبين.

 

ورأينا ذلك في تجربتنا الوطنية للتواصل مع إخواننا السلفيين في المملكة، حيث بدأنا بزيارات ولقاءات متبادلة، وكانت ـ بحمد الله ـ  إيجابية مثمرة[7].

لكنها واجهت نوعًا من الرفض والممانعة من بعض الجهات السنية والشيعية، فهناك في الجانب السني من شنّ هجومًا على العلماء الذين التقوا بنا من إخواننا أهل السنة، وكذلك من الجانب الشيعي أيضًا كانت هناك ردود فعل رافضة لمثل هذا المسعى، حيث صدرت بيانات تندّد باستضافة بعض الشخصيات السلفية في القطيف.

 

لماذا يمانعون التواصل والتقارب؟

نشير هنا إلى بعض المبررات التي يتذرّع بها المعارضون للتواصل والتقارب المذهبي، وإلى الخلفية التي ينطلق منها هذا الموقف، وهي:

1/ القلق على الهوية المذهبية والخوف من تقديم التنازلات وإعطاء الشرعية للآخر.

2/ المزايدة والظهور بمظهر الغيرة على العقيدة.

3/ نزعة التطرف.

4/ التأثر بتوجهات ومشاريع سياسية، فهناك قوى دولية وإقليمية تستثمر سياسيًّا في الصراع المذهبي.

دور الجمهور

يجب أن يكون للجمهور دور أساس في دعم توجهات التقارب والتواصل، فهو الخاسر الأكبر من الصراعات الطائفية؛ لأنّ الحكومات تحمي نفسها، والمشايخ يرتّبون أوضاعهم، لكن عامة الناس هم المتضررون.

على الناس أن يتحلوا بالوعي، وألّا يتجاوبوا مع التعبئة الطائفية، بل يجب أن يقفوا أمامها، وكم هو رائع أن يقف الواعون من الجمهور السني أمام الخطيب السني الذي يعبّئ ضد الطوائف الأخرى، أو يدعوا عليهم؟

وكم هو رائع أيضًا أن يقف الجمهور الشيعي أمام الخطيب الشيعي الذي يشنّع على الآخرين وينال من رموزهم؟.

إنه من المشروع والمطلوب من الخطيب السني أن يبيّن آراء مذهبه لجمهوره، كما هو مشروع ومطلوب من الخطيب الشيعي مثل ذلك، ولكن كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سورة النحل، الآية: 125.

وقد ورد عن علي أنه قال: «أتُحِبّونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورَسولُهُ؟! حَدِّثُوا النّاسَ بِما يَعرِفونَ، وأمسِكوا عَمّا يُنكِرونَ»[8].

ويقول مدرك الهزهاز، قال لي الإمام الصادق : «أقرئ أصحابنا السلام ورحمة الله وبركاته، وقل لهم: رحم الله امرأً اجترّ مودة الناس إلينا، فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون»[9].

وورد عن عبد السلام بن صالح الهروي قال سمعت أبا الحسن الرضا يقول: «رحم الله عبدًا أحيا أمرنا. فقلت له: فكيف يحيي أمركم؟ قال (عليه السلام): يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا»[10].

 

* مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد المزدوج (48-49)، خريف وشتاء 2019م – 1440هـ، الصفحات من 21 حتى 33.

[1] جريدة الرياض، الخميس غرة محرم 1439هـ الموافق 21 سبتمبر 2017م.
[2] جريدة الوطن السعودية، الثلاثاء 26 سبتمبر 2017م.
[3] جريدة عكاظ، الثلاثاء 6 محرم 1439هـ الموافق 26 سبتمبر 2017م.
[4] رجال الشيعة في أسانيد السنة (دراسة تفصيلية حول رجال الشيعة في أسانيد الكتب الستة)، محمد جعفر الطبسي، مؤسسة المعارف الاسلامية، قم – إيران، ط1، 1420هـ.
[5] فقد أفتى الشيخ الصدوق في بعض الموارد بناءً على رواية وحيدة منقولة في الباب، هي رواية السكوني، ومنها، الأبواب التالية: الشفاعات في الأحكام، دية مفاصل الأصابع، ما يجب على من عذّب عبده حتّى مات، ما يجب على من أشعل نارًا في دار قومٍ فاحترقت الدار وأهلها، من مات في زحام الأعياد أو عرفة أو على بئرٍ أو جسر لا يُعلم من قتله..
[6] http://www.alanba.com.kw/kottab/badr-alkhodhari/181966/26-03-2011
[7] جمعها الأستاذ/ عبدالباري الدخيل في كتاب بعنوان: (السلفيون والشيعة تجربة حوار)، الانتشار العربي، ط1، 2012م.
[8] بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٢ - الصفحة ٧٧ – حديث 60.
[9] المصدر السابق - ج ٢ - الصفحة ٦٨، حديث 15.
[10] عيون أخبار الرضا - الشيخ الصدوق - ج 1 - الصفحة ٢٧٥- حديث 69.