العمالة المنزلية وأخلاق النبوة

أن يحترم الإنسان من هو أعلى منه رتبة ومكانة، فذلك أمر طبيعي، تفرضه معادلة الحياة الاجتماعية، وكذلك الحال في احترام الإنسان لأنداده حيث يتوقع منهم مبادلته الاحترام.

إما أن يحترم الإنسان من يعمل تحت سلطته ونفوذه، كالخادم والأجير عنده، فذلك لا يصدر إلا عن صاحب خلق رفيع، وشعور إنساني عميق.

حيث يجد الإنسان نفسه في موقع الآمر والناهي لخادمه وأجيره، ويكون الخادم والأجير في موقع الباحث عن رضاه، والخاضع له، وقد يكون مضطرًا للقيام بهذه المهنة وهذا الدور.

لذلك عادة ما يعاني أفراد هذه الشريحة، كالعمالة المنزلية، من سوء التعامل والجور على حقوقهم، وامتهان كرامتهم. وقد تحدثت تقارير دولية عن هذه المشكلة في مختلف الدول.

ووثقت حوادث كثيرة من التنكيل، والاعتداء، ومصادرة الحقوق، وعدم إعطاء المستحقات المالية.

فقد أصدرت منظمة «هيومن رايتس واتش» في يوليو 2008 تقريرًا جاء في أكثر من 173 صفحة بعنوان «كأنني لست إنسانة» تحدث عن وضع العاملات في المنازل السعودية، ولخّصت حالتهن بالقول «في أحسن الأحوال تتمتع النساء المهاجرات في السعودية بظروف عمل طيبة وأصحاب عمل طيبين وفي أسوأ الأحوال يعاملن كما العبيد.. ومعظم العاملات تتراوح معاملتهن بين هذين المستويين».

وذكرت بعض الدراسات أن عاملات المنازل يتعرضن للعنف بأشكاله المختلفة مثل: سوء المعاملة، عدم صرف الرواتب، اعتداء جنسي، قيام الأسرة بإعارة الخادمة للعمل لدى الغير... ويتمثل العنف الجسدي بالضرب، والكي، والحجز في غرفة ما، أو منعها من الطعام، وضربها بالعصا أو الطعن بالسكين. واحتمال تعرضها للعنف الجنسي من قبل أحد أفراد الأسرة. مما يجعل بعضهن يلجأن إما للانتحار أو الهروب من المنزل والتعرض لحوادث السقوط والإصابات الخطيرة من جراء محاولة الهروب .

يحدث هذا التعدي عليهن رغم أن نظام العمل في المملكة أكد من خلال أحكامه على حفظ كرامة العامل وتهيئة بيئة عمل صحية، وأوضح حقوق وواجبات كل طرف من أطراف العلاقة العمالية تجاه الآخر .

الخلق النبوي الرفيع

ومما تميزت به سيرة رسول الله تعامله الأخلاقي الإنساني الرفيع مع خدمه والقائمين بأداء ما يرتبط بشؤونه الشخصية.

التواضع والاحترام

أولاً: كان لا يتعالى على خادميه، بل كان متواضعًا لهم، وربما أكل مع خدمه إذا أكلوا، وورد أنه كان لا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا في ملبس.

وكان يقول لأم أيمن (خادمته): يا أُمَّه. وقال: أُمُّ أَيْمَنَ، هِيَ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، وَكَانَ يَزُورُهَا فِي بَيْتِهَا.

وكان يوصي أصحابه قائلا: لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ عَبْدِي وأَمَتي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وكُلُّ نِسائِكُمْ إماءُ اللهِ، ولَكِنْ لِيَقُلْ غُلامِي وجارِيَتي وفَتايَ وفَتاتِي" .

وورد عنه : إذا أتَى أحَدَكُمْ خادِمُهُ بطَعامِهِ، فإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ معهُ، فَليُناوِلْهُ لُقْمَةً أوْ لُقْمَتَيْنِ أوْ أُكْلَةً أوْ أُكْلَتَيْنِ، فإنَّه ولِيَ عِلاجَهُ .

كما روى عنه أبوذر أنه قال: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ" .

الرفق والعفو

ثانيًا: كان رفيقًا بهم، لا يجرح مشاعر أحد منهم، ولا يسيء لمن أخطأ منهم.

فقد ورد في سيرته أنه: مَا شَتَمَ أَحَداً بِشَتْمَةٍ، وَلاَ لَعَنَ اِمْرَأَةً، وَلاَ خَادِماً بِلَعْنَةٍ، وَلاَ لاَمُوا أَحَداً إِلاَّ قَالَ: دَعُوهُ .

وعن زوجه عائشة قالت: ما ضَرَبَ رسول اللَّهِ شيئا قَطُّ بيده، ولا امْرَأَةً، ولا خَادِمًا.

وعن أَنَسٍ قَالَ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ وَلَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً قَطُّ وَلَا عَبَسَ فِي وَجْهِي وَلَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَطُّ فَتَوَانَيْتُ فَعَاتَبَنِي عَلَيْهِ فَإِنْ عَاتَبَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ دَعُوهُ فَلَوْ قُدِّرَ شَيْءٌ كَانَ.

وعن ابن عمر: أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ فقال إنَّ خادمي يسيءُ ويَظلِمُ أفأضرِبُه قال تعفُو عنه كلَّ يومٍ وليلةٍ سبعينَ مرَّةً .

وعن أبي مسعود: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ .

التفقّد والاهتمام

ثالثًا: كان يتفقدّ خادميه ويهتم بشؤونهم الشخصية.

عنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» .

وورد عن خادم للنبي : كَانَ النبي مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟

وعن ربيعة بن كعب الأسلمي: كُنتُ أخدُمُ النَّبيَّ نَهاري، فإذا كان اللَّيلُ آوَيْتُ إلى بابِ رسولِ اللهِ فبِتُّ عنده فلا أزالُ أسمَعُه يقولُ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ ربِّي! حتَّى أمَلَّ أو تَغلِبَني عيني فأنامَ، فقال يومًا: يا رَبيعةُ، سَلْني فأُعطيَكَ؟ فقلتُ: أَنظِرْني حتَّى أَنظُرَ، وتذَكَّرْتُ أنَّ الدُّنيا فانيةٌ مُنقطِعةٌ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أسأَلُكَ أنْ تَدعُوَ اللهَ أنْ يُنجيَني مِنَ النَّارِ ويُدخِلَني الجنَّةَ، فسكَتَ رَسولُ اللهِ ، ثمَّ قال: مَن أمَرَكَ بهذا؟ قلتُ: ما أمَرَني به أحدٌ، ولكنِّي علِمتُ أنَّ الدُّنيا مُنقطِعةٌ فانيةٌ، وأنتَ مِنَ اللهِ بالمكانِ الَّذي أنتَ منه؛ فأحبَبْتُ أنْ تَدعُوَ اللهَ لي، قال: إنِّي فاعِلٌ، فأَعِنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السُّجودِ .

عنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَتْ سَوْدَاءُ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَتُوُفِّيَتْ لَيْلاً، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ، أُخْبِرَ بِمَوْتِهَا، فَقَالَ: أَلاَ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟ فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ، فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهَا، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ مِنْ خَلْفِهِ، وَدَعَا لَهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ" .

أوضاع العمالة المنزلية والوافدة

وعلى ضوء هذه السيرة النبوية الهادية، يجب الاهتمام بأوضاع العمالة المنزلية، وعموم أوضاع العمالة الوافدة، وهي تشكل نسبة كبيرة في عدد من بلداننا، ففي بلادنا السعودية أكثر من 13 مليون أجنبي من أصل 34 مليون هم عدد سكان المملكة. منهم أكثر من 3.60 مليون عمالة منزلية من خدم وعمال تنظيف وسائقين وحراس منازل ومربيات وممرضين.

ويعاني بعضهم من سوء المعاملة وانتهاك الحقوق، وهذا ما لا يجوز حصوله في مجتمعات تنتمي إلى الدين.

فيجب الاهتمام بتطوير التشريعات والقوانين التي تحمي حقوقهم، وتصون كرامتهم الإنسانية.

وقد كشفت الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمواجهة جائحة كورونا أن قسمًا من هذه العمالة الوافدة يعيشون في بيئة غير مناسبة لحياة بني البشر، حيث يتكدسون في مساكن محدودة المساحة، ولا تتوفر فيها أدنى الاشتراطات الصحية.

وقد أكد رئيس جمعية حقوق الإنسان الدكتور مفلح القحطاني لـ«صحيفة الوطن»: استمرار تكدس العمالة في مقار سكنهم، إذ بلغ متوسط الكثافة 60 عاملا في بعض تلك المساكن من كل الجنسيات في أحواش عشوائية تفتقد مقومات النظافة، إضافة إلى عدم التزام العاملين بالاشتراطات الصحية في التباعد أو لبس الكمام والقفاز .

ولا بد من نشر ثقافة التعامل الإنساني مع أفراد هذه الشريحة من قبل مستخدميها، ومن عامة المواطنين. لنحقق الاقتداء بسيرة نبينا والالتزام بأحكام وآداب شريعته.