موقف الإمام علي (ع) من الخلفاء درس أخلاقي

 

أورد المحدِّث أحمد بن حجر الهيتمي المكي (توفي 974هـ) في كتابه (الصَّواعق المحرقة) أنَّ النبيَّ قال: «يوم غدير خم، بعد أن جمع الصحابة، وكرَّر عليهم: ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ ثلاثًا، وهم يجيبون بالتَّصديق والاعتراف، ثم رفع يد عليٍّ، وقال: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبَّ من أحبَّه، وأبغضْ من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدِر الحقَّ معه حيث دار». وأكَّد ابن حجر: «أنَّه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنّسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جدًّا، رواه ستة عشر صحابيًّا، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي ثلاثون صحابيًّا، وشهدوا به لعليٍّ، وكثير من أسانيدها صِحاح حِسان، ولا التفات لمن قدح في صحَّته، ولا لمن ردّه»[1] .

حديث الغدير ثابت عند السنة والشيعة، لكنَّ الاختلاف وقع في فهم مدلوله، حيث لا يرى فيه السنة أكثر من التبيين لفضل عليٍّ ووجوب محبَّته ومودَّته، بينما يستدلُّ الشيعة بمنطوق الحديث وسياقه، والقرائن التي حفَّت به على أنه نصٌّ في تعيين الإمام عليٍّ إمامًا وواليًا على الأمة بعد رسول الله ، إلى جانب نصوص وأدلة أخرى تثبت هذه الولاية لأمير المؤمنين عليٍّ .

وقد أُشبع هذا الموضوع بحثًا ونقاشًا من الطرفين في الماضي والحاضر، ويهمُّنا بمناسبة ذكرى يوم الغدير أن نسلِّط الضوء على تعامل الإمام علي مع الخلفاء كدرس أخلاقي نستفيد منه في واقع حياتنا الاجتماعية.

كيف تعامل علي مع الخلفاء؟

فالإمام عليٌّ كان يؤمن بحقِّه في قيادة الأمة بعد رسول الله ، لكنَّه حين رأى أنَّ الأمور أخذت مسارًا آخر، وتولَّى الخلافة غيره، سجَّل موقفه المعترض، وامتنع عن البيعة لمدة، لكنَّه تغاضى عن ذلك الحقّ، حيث رأى أنَّ السَّعي للوصول إليه يستلزم انشقاق الأمة، واحترابها الداخلي، في وقت كانت تواجه فيه تحدِّيات خارجية كبيرة، تتمثل في حركة الارتداد عن الإسلام، وتآمر قوى اليهود والنَّصارى والمنافقين على كيان الدِّين والأمة.

وهذا ما بيَّنه في عدد من الموارد والمواقف، ومنها كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر حين ولاه إمارتها، الذي جاء فيه كما في نهج البلاغة: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا نَذِيرًا لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِنًا عَلَى الْمُرْسَلِينَ. فَلَمَّا مَضَى تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهَ وَسَلَّمَ ـ فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْمًا أَوْ هَدْمًا، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ"[2] .

إنَّ الإمام عليًّا رغم إيمانه بحقِّه، تعامل مع الخلفاء تعاملًا إيجابيًّا، حيث كان يقدِّم لهم المشورة الهادية، ويدعم جهودهم في الدفاع عن كيان الإسلام. وأذن لعدد من خلَّص أصحابه بتولِّي مسؤوليات في إدارة دولة الخلافة، ومنهم:

1/ سلمان الفارسي، كان واليًا على المدائن من قبل الخليفة عمر.

2/ وكان حذيفة بن اليمان، أول الولاة على أذربيجان، ثم نقله عمر إلى ولاية المدائن بعد استعفاء سلمان الفارسي، ثم عيَّنه عثمان واليًا على أرمينية.

3/ عمَّار بن ياسر، كان أميرًا على الكوفة من قبل الخليفة عمر، كما بعثه الخليفة عثمان مفتِّشًا إلى مصر، للنَّظر في أوضاع الولاة.

درس لأجيال الأمة

إنَّ هذا الموقف من الإمام عليٍّ يقدِّم لأجيال الأمة درسًا أخلاقيًّا، بأن يقدِّم الإنسان المصلحة العامة على حساب حقوقه الخاصَّة.

ورد عن عليٍّ : "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيها جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خاصَّةً"[3] .

ولا نريد أن نقارب هذا الدرس الأخلاقي مقاربة سياسية؛ لأنَّ العمل السِّياسي تمارسه فئة محدودة من الناس.

بل نريد مقاربة هذا الدَّرس الأخلاقي على الصَّعيد الاجتماعي؛ لعموم الحاجة إليه، ونشير إلى مجالين:

المجال الأول: مجال العمل في المؤسَّسات الاجتماعيَّة كالجمعيَّات الخيريَّة والأندية الرياضَّية، والهيئات الدينيَّة، والأنشطة الثقافيَّة.

ففي هذه المؤسسات قد تختلف وجهات النظر بين العاملين فيها، وقد يتنافسون على إدارتها، وقد يرى البعض نفسه أجدر بهذا الموقع أو ذاك، أو أنَّ رأيه أصح وأصوب في هذه القضيَّة أو تلك، وقد يشعر البعض بالحيف على دوره أو حقِّه.

وهنا يتمايز موقفان:

1/ الموقف الانفعاليُّ الشَّخصيُّ، الذي ينسحب من المؤسَّسة، ويمنع دعمها، وقد يعرقل مسارها، أو يشوِّه سمعة القائمين على إدارتها.

2/ وفي مقابله الموقف الأخلاقي المسؤول الذي يسعى للحفاظ على كيان المؤسَّسة، ودعمه، وتقويته، وترشيد إدارته ومساره.

المجال الثاني: المجال العائلي: حيث تحصل الخلافات العائلية، ويرى أحد الزوجين أنَّ هناك حيفًا وجورًا على حقِّه.

وهنا نجد أيضًا تمايزًا بين موقفين:

1/ موقف يصرُّ على مطالبه، ويستخدم كلَّ جهده ضدَّ الطَّرف الآخر على حساب كيان الأسرة، ومصلحة أبنائها.

2/ وموقف واعٍ يقدِّم التنازلات لحماية كيان الأسرة، وحفظ مستقبل أبنائها.

علينا أن نستحضر هذا الدَّرس الأخلاقي من سيرة الإمام علي ، ونحن نحيي ذكرى يوم الغدير، عيد الولاية لأمير المؤمنين.

أولوية المصلحة العامة

إنَّ سيرة الإمام عليٍّ تمثل أنموذجًا مشرقًا في تقديم المصلحة العامَّة على المصلحة الخاصَّة، وفي التَّسامي على الذَّات من أجل حفظ كيان الدين والمجتمع.

إنَّ محبَّة الإمام علي والاعتقاد بولايته، وإمامته، يعني اتباعه والاقتداء بسيرته وهديه.

إنَّ وجود المؤسَّسات الاجتماعية مكسب للوطن والمجتمع، ولا يصحُّ لأحدٍ إضعاف أيِّ مؤسَّسة اجتماعيَّة من أجل حسابات شخصيَّة أو فئويَّة.

لا بُدّ من التَّأكيد على أخلاق، ومناقب العمل الجمعيِّ، الذي يقتضي الاستعداد للتَّنازل عن الرأي والموقف الخاصِّ لحفظ كيان المؤسَّسة واستمراريتها.

كما أنَّ ما نلحظه من زيادة في حالات الطلاق، والشَّكاوى الزوجية، يستلزم نشر ثقافة التَّسامح والمرونة في العلاقات الأسرية، وتقديم التنازلات المتبادلة، لتعزيز كيان الأسرة، وحفظه من التفكُّك، وحماية مستقبل الأبناء، وأمن المجتمع.

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=P_fRP3gmSBM

للاستماع:

https://www.saffar.me/?act=av&action=view&id=1480

خطبة الجمعة 20 ذو الحجة 1442هـ الموافق 30 يوليو 2021م.

[1]  الصواعق المحرقة، ص40.
[2]  نهج البلاغة، كتاب رقم: ٦۲.
[3]  نهج البلاغة، خطبة 64، ومن خطبة له لما عزموا على‌ بيعة عثمان‌.