التنمية الإيمانية

 

من دعاء الإمام زين العابدين في مكارم الأخلاق «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ»

يتطلع الإنسان بفطرته إلى الكمال، ويرغب في زيادة مكاسبه في مختلف المجالات، إذا وجد أمامه فرصة للزيادة فإنه يسعى إلى ذلك، فعلى سبيل المثال: مهما كان عند الإنسان من ثروة ومال فإنه يرغب في زيادة ثروته وإمكاناته، وهو أمر مشروع محبذ من الناحية الشرعية.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَعْطى أَبُو عَبْدِ اللهِ (الإمام جعفر الصادق ) أَبِي أَلْفا وَسَبْعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ: «اتَّجِرْ بِهَا» ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ لِي رَغْبَةٌ فِي رِبْحِهَا وَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مَرْغُوباً فِيهِ، وَلكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِيَ اللهُ مُتَعَرِّضا لِفَوَائِدِهِ»[1] .

إنّ الله تعالى يحب أن يرى عبده ساعياً للمزيد من الفوائد وتحصيل النعم المشروعة، فالإنسان يرغب ويسعى في زيادة ماله وثروته والشرع يشجعه على ذلك. 

وفي مجال الصحة واللياقة الجسمية، يسعى الإنسان أن يكون جسمه أكثر صحة ولياقة، خاصة بعد انتشار الوعي الصحي، تجد كثيرًا من الناس يسعون للرشاقة، والالتزام بالتوصيات الصحية، وهناك شركات ومؤسسات متخصصة في الغذاء الصحي، تنشر إعلاناتها بشكل مستمر، مما جعل الناس يراقبون وزن أجسامهم، ويقدمون على التحاليل التي تكشف مستوى الكلسترول ونسبة السكر في الدم، وإذا ما لاحظ الإنسان تقدماً في مستواه الصحي يفرح ويرتاح نفسياً، وهو توجه صحيح سليم.

وفي مجال النفوذ والمكانة الاجتماعية، يسعى الموظف للحصول على الترقية في وظيفته، والتقويم الأعلى لأدائه الوظيفي، وإذا وجد تقويم المدير لأدائه متدنياً فإنه ينزعج ويتأثر نفسياً، فهو يريد أن يعزّز مكاسبه على صعيد الوظيفة والمنصب.

التنمية الإيمانية

كما يسعى الإنسان لتنمية إمكاناته المادية المختلفة، ينبغي ألّا يغفل عن التفكير في الارتقاء بمستوى إيمانه، فالمجال مفتوح أمام المؤمن لتنمية مستوى إيمانه، وكذلك على صعيد المجتمع، ينبغي التفكير في تنمية الحالة الإيمانية في المجتمع، فلها انعكاسات على نفس الإنسان وسلوكه، كما أنّ لها تأثيرًا كبيرًا على الأمن والاستقرار الاجتماعي، فكلما كان الإنسان أكثر إيماناً، كان أكثر التزاماً في سلوكه بمراعاة حقوق الآخرين. 

من هنا فإنّ على المهتمين بالشأن الاجتماعي، الذين يفكرون في تنمية المجتمع من الناحية السياسية والاقتصادية، ألّا يغفلوا مجال التنمية الإيمانية.

نعم.. قد تشوب الحالة الدينية بعض الأخطاء والانحرافات، كحالة التعصب والتشدد، مما يؤدي إلى رد فعل من الحالة الدينية، فنجد بعض الكتاب يعبر عن انزعاجه من وجود الحالة الدينية في المجتمع!

ينبغي أن نفرّق بين الدين وبين سلوك بعض المنتسبين للدين، وإذا كانت هناك أخطاء في الوسط الديني، فهذا لا يدعو إلى إضعاف الحالة الدينية الإيمانية، بل يجب أن يدفع إلى العمل على ترشيدها وتصحيح المسار الخطأ فيها.

هل حالة الإيمان قابلة للارتقاء؟ 

النصوص الدينية تؤكد أنّ مستوى الإيمان يمكن الارتقاء به، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ.

وفي دعاء الإمام زين العابدين : «وَبَلِّغْ بِإِيمَانِي أَكْمَلَ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ».

فزيادة الإيمان أمر ممكن ومطلوب.

الوسائل والتجليات 

أولاً: المعرفة 

إذا انبثق التديّن من المعرفة فإنه يكون أفضل وأعمق، وأكثر ثواباً عند الله تعالى، لذلك على الإنسان أن يسعى لزيادة معرفته في الدين، ومنه زيادة معرفته بالحياة، يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ فزيادة المعرفة بالنظام الكوني والطبيعة البشرية، تدعو إلى زيادة المستوى الإيماني، وفي رواية عن الإمام علي أنه قال: «ركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل»[2]  هي نفس الصلاة ولكن ثواب الصلاة في حالة المعرفة أفضل وأعظم عند الله.

الإنسان المؤمن يرغب في ثواب الله تعالى، لذلك يسعى لزيادة العبادة، وهو توجه صحيح، لكن زيادة المعرفة لا تقلّ ثواباً عن العبادة، بل هي التي تعطي للعبادة قيمة أكبر عند الله تعالى.

يفكر الواحد منّا في الذهاب إلى الحج والعمرة والزيارة، ويصرف المال والوقت من أجل الثواب، ولعل حضوره حلقة أو دورة علمية تحقق له ثواباً أكثر. 

ورد عن رسول الله أنه قال: «فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ»[3] .

وعن أبي عبدالله الإمام الصادق عن أبيه الإمام الباقر أنه قال: «يا بُنَي، اعْرِفْ مَنَازِلَ الشِّيعَةِ عَلَى قَدْرِ رِوَايتِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ هِي الدِّرَايةُ لِلرِّوَايةِ، وَبِالدِّرَاياتِ لِلرِّوَاياتِ يعْلُو الْمُؤْمِنُ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ»[4] .

فالمعرفة والوعي وسيلة للارتقاء الإيماني، إذا أردت زيادة إيمانك عليك أن تثقف نفسك لتزداد معرفة ووعياً بالدين.

البعض يبخل على نفسه في مجال المعرفة الدينية، وحتى المسائل الفقهية المرتبطة بتكاليفه العملية، لا يكلف نفسه عناء الاطلاع عليها من مصادرها، بل يتصل بأحد العلماء ليسأل عنها!

صحيح أنّ السؤال أحد مصادر المعرفة، لكن بإمكانك أن تقرأ الرسالة الفقهية العملية، فإذا لم تستطع أن تفهم المسألة منها يمكنك الاتصال بمن يشرحها لك.

وكذلك بالنسبة لتفسير بعض الآيات، يمكن للإنسان أن يقرأ كتب تفسير القرآن وهي متوفرة ورقياً والكترونياً، لكن البعض لا يكلف نفسه عناء البحث والقراءة!!

ثانياً: العمل الصالح 

يزداد الإيمان بشكل تلقائي من خلال الاستمرار في العمل الصالح، إذا أردت أن يزداد إيمانك فلتزد في أعمالك الصالحة يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ.

وورد عن رسول الله أنه قال: «الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا الله، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ»[5] .

إنّ تطبيق الإنسان للمبادئ والقيم التي يؤمن بها يعمق الإيمان في قلبه، ويشعره بالانسجام الداخلي.

ثالثاً: حسن الخلق 

ورد عن رسول الله : «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَة»[6] .

الدرجات في الآخرة وفي الجنة لا تنال فقط عن طريق العبادة، فحسن الخلق مع الناس، وحسن التعامل داخل الأسرة، بين الزوجين، ومع الأولاد والجيران والأقرِباء والأرحام، ومع الناس الذين تعيش معهم يرتقي بمستوى إيمانك.

وورد عن الإمام الباقر إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانا أَحْسَنُهُمْ خُلُقا»[7] . 

رابعاً: التعبّد والتهجّد 

يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا.

ويقول تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

والنصوص والروايات كثيرة في فضل العبادة والتهجد، وأنها وسيلة لنيل ثواب الله والارتقاء بمستوى الإيمان.

ورد عن رسول الله : «إِنَّ الله عزّ وجلّ يَقولُ: ما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أُحِبَّهُ؛ فَأَكونَ أَنَا سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ، ولِسانَهُ الَّذي يَنطِقُ بِهِ، وقَلبَهُ الَّذي يَعقِلُ بِهِ، فَإِذا دَعا أَجَبتُهُ، وإِذا سَأَلَنـي أَعطَيتُهُ»[8] .

شهر رمضان المبارك هو بمثابة دورة تأهيلية، لتعزيز الإيمان في النفس والارتقاء به ورفع مستواه.

والبرامج العبادية والتوعوية في شهر رمضان لا ينبغي أن تكون مقتصرة على الشهر الكريم، وإنما تكون منطلقاً لبرنامج دائم، ودافعاً لاهتمام مستمر بالارتقاء بمستوى الإيمان في حياة الفرد، كما أنّ علينا أن نهتم بالارتقاء بهذه الحالة على مستوى المجتمع الذي نعيش فيه. 

* خطبة الجمعة بتاريخ 26 رمضان 1440هـ الموافق 31 مايو 2019م.
[1]  الكافي، ج 9،ص526، حديث12.
[2]  محمد بن محمد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد)، الاختصاص، ص٢٤٥.
[3]  بحار الأنوار، ج٢، ص١٨.
[4]  المصدر نفسه، ج١، ص١٠٦.
[5]  صحيح مسلم، ص39، حديث58.
[6]  الملا محسن الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج ٥، ص٩٣.
[7]  الكافي، ج 3، ص256، حديث1.
[8]  كنز العمال، حديث 1155.