التكريم ظاهرة حضارية

 

يقول تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[1] .

ظاهرة اجتماعية رائعة تشكلت أخيرًا في مجتمعنا، هي ظاهرة التكريم لبعض الشخصيات المميّزة في عطائها العلمي والثقافي والاجتماعي، ولبعض المؤسّسات الرائدة في التنمية بمختلف أبعادها.

ويمكننا أن نؤرخ لهذه الظاهرة بأول مبادرة في آخر شهر من شهور سنة 1415هـ، حيث كُرِّم الأديب الكبير أحمد بن سلمان الكوفي قبل وفاته بخمس سنوات، وتوفي رحمه الله عام 1420هـ.

وقبل تكريم الكوفي لم يحصل حفل تكريم لأحد من رموز المجتمع في حياته، بل كان يُنتظر موت العالم أو الأديب أو الوجيه، لتكريمه بالتأبين بعد وفاته. حيث تعقد المجالس لذكر محاسنه، وتعداد فضائله، وإعلان الحسرة على فقده، وقد يكون متجاهلًا في حياته، وتلك هي سمة المجتمعات غير الحضارية.

التكريم المؤجل بعد الرّحيل

ذكروا في ترجمة العالم الجليل الشيخ عبد العلي بن جمعة الحويزي (توفي سنة 1112هـ) صاحب التفسير المعروف (نور الثقلين) وهو من علماء الأهواز، وكان معاصرًا للشيخ المجلسي صاحب بحار الأنوار، والحرّ العاملي صاحب الوسائل، أنّ تلميذه السّيد نعمة الله الجزائري، سأل أحد العلماء، عن قيمة ومستوى كتاب تفسير (نور الثقلين) لأستاذه الشيخ الحويزي، وقال: إن كان هذا التفسير قابلًا للاستكتاب، مشتملًا على جملة من الفوائد كتبناه، وإلّا فلا؟

فأجابه ذلك العالم الكبير على سؤاله بما يلي: ما دام مؤلفه حيًّا فلا تساوي قيمته فلسًا واحدًا، وإذا مات فأوّل من يكتبه أنا، وهذا إخبار عمّا في الضمير، ثم أنشد:

ترى الفتى ينكر فضل الفتى              ما دام حيًّا فإذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة                 يكتبها عنه بماء الذهب[2] 

وكما قال الشاعر عبيد بن الأبرص:

لَأَعرِفَنَّكَ بَعدَ المَوتِ تَندُبُني              وَفي حَياتِيَ ما زَوَّدتَني زادي

فإنْ حَييتُ فلا أحسِبْك في بَلَدِي               وإنْ مَرِضْتُ فلا أحسِبْك عوّادِي

إنّ تشكّل هذه الظاهرة حديثًا في مجتمعنا تدلّ على تقدّم مستوى الوعي الاجتماعي.

ارتقاء أخلاقي

كما تدلّ هذه الظاهرة على رقي أخلاقي؛ لأنّ من أسباب تجاهل الكفاءات والطاقات، انتشار نزعة الأنانية والتحاسد خاصة في أوساط نخب المجتمع، ومن الطبيعي ألّا يبادر من تسكنه هذه النزعات إلى تكريم أنداده ومنافسيه.

إنّ البعض تمتلئ نفسه بحبّ ذاته بشكل نرجسي، ويسيطر عليه الغرور، وتتضخم لديه الأنا بحيث لا يرى أحدًا غيره مستحقًّا للمدح والتقدير، بل وينزعج ويتذمّر حينما يشاد بآخرين، وقد يكون ذلك ناتجًا من شعور عميق بالنقص والضعف، يستثيره ذكر كمال الآخرين وتفوقهم.

وقد يشعر بعض من يجد في نفسه الكفاءة بالغبن حينما يرى تكريم غيره من المبدعين، والحقيقة أنه يجب أن يغتبط ويفرح بذلك؛ لأنّ تقدير أيّ كفاءة في المجتمع، يعتبر تكريسًا لمنهجية صحيحة، إذا تأكد وجودها، فستشمله بركاتها وآثارها كغيره من المؤهلين.

آثار التكريم ومعطياته

إنّ تكريم العناصر المتميّزة في كفاءتها وعطائها ليس أمرًا بروتكوليًا شكليًّا، لا أهمية له. بل إنّ لذلك آثارًا إيجابية ومعطيات كبيرة، نشير إلى أهمها:

أولًا: التكريم يعزّز تقدير الذّات في نفس المكرّم، ويجلب له الرضا ويدخل على قلبه الراحة والسّرور. ويشير علماء النفس إلى أنه لا شيء يسعد الإنسان كشعوره باهتمام الآخرين به، وفرحه بهذا المكسب المعنوي قد يكون أكثر من فرحه بالمكاسب المادية.

وتشير آيات قرآنية إلى أهمية هذا الجانب حتى بالنسبة للأنبياء مع عمق إخلاصهم وانقطاعهم لله تعالى، إلّا أنّ تكريمهم يخدم رسالتهم، لذلك طلب نبي الله إبراهيم من الله تعالى أن يجعل له ذكرًا وثناءً حسنًا في الأجيال، كما يفيد قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ[3] .

ومن بين النعم التي يمتنّ الله بها على نبيّه محمد رفع ذكره، وهو أبرز مصداق للتكريم والتمجيد، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‎﴿١﴾‏ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ‎﴿٢﴾‏ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ‎﴿٣﴾‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[4] .

ثانيًا: يحفّز المكرّم لمواصلة دوره وزيادة عطائه.

ورد في المستدرك على الصحيحين، عنه : (إذا مُدِحَ المؤمنُ ربا الإيمانُ في قلبِهِ)[5] .

وسمع الإمام علي مدح قوم له، فقال: (اللَّهُمَّ اجعَلنا خَيرًا مِمّا يَظُنّونَ، وَاغفِر لَنا ما لا يَعلَمونَ)[6] .

ويستوحى من هذا الدّعاء، أنّ من يتلقى التكريم ينبغي أن يتطلع إلى زيادة نقاط القوة في شخصيته، (اللَّهُمَّ اجعَلنا خَيراً مِمّا يَظُنّونَ)، كما يسعى لتجاوز نقط ضعفه وإن كانت خافية على الناس، (وَاغفِر لَنا ما لا يَعلَمونَ).

ثالثًا: يرسّخ القيمة والصّفة التي كرّم من أجلها في أوساط أبناء المجتمع، حيث يصبح أنموذجًا وقدوة، ويتطلّع الآخرون من خلال تكريمه إلى تمثّل تلك القيمة والصفة في شخصياتهم وسلوكهم.

مؤسّسات عالمية للتكريم

لذلك تتنافس المجتمعات المتحضّرة في تكريم أبنائها المبدعين، وروّاد العمل الاجتماعي، بل تعدّت ذلك لتكريم المتميّزين والمبدعين على المستوى العالمي، كجائزة نوبل التي أسّسها الصّناعي السّويدي (ألفريد نوبل) عام 1895م، وتُمنح كلَّ عام في العاشر من ديسمبر لأفضل المتميّزين من مختلف دول العالم في مجال الفيزياء والكيمياء والأدب والسّلام والاقتصاد، ويعطى الفائز مبلغ 1.25 مليون دولار.

وقد حظي بهذه الجائزة أكثر من 880 مكرّمًا من 27 بلدًا.

وفي المملكة العربية السعودية هناك عدة جوائز عالمية، كجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب، والطب، والعلوم، وخدمة الإسلام. وقد كرّمت منذ عام 1979 (275) فائزًا من 43 جنسية.

وتأسّست في مجتمعنا المحلي جائزة القطيف للإنجاز سنة (2008م)، التي نأمل أن يتجدّد نشاطها ويتّسع دورها بتعاون المواطنين الواعين.

تطوير مبادرات التكريم

وقد شهدنا في السّنوات الأخيرة تكريم عدد من الكفاءات العلمية والأدبية، وروّاد العمل الاجتماعي، والشّخصيات المعطاءة في المجالات المختلفة من أبناء المجتمع.

نأمل استمرار هذه الظاهرة الرائعة واستثمارها اجتماعيًّا، بتعزيز القيم والصّفات المستوجبة للتكريم، وأن تتحول مبادرات التكريم إلى حالة مؤسّسية، وترصد لها أوقاف خاصّة بها. كما هو الحال في المجتمعات الأخرى، فكلّ الجوائز العالمية تعتمد على تمويل مستدام من أوقاف خاصّة بها، أو من ميزانية الدولة.

ونتفاءل أنّ مستوى الوعي والعطاء في مجتمعنا يؤهّل إلى مستوى تحقيق هذه التطلّعات وأكثر إن شاء الله.

 

خطبة الجمعة 24 رجب 1443هـ الموافق 25 فبراير 2022م.

[1]  سورة الشرح، الآية: 4.
[2] الشيخ عبد العلي الحويزي: تفسير نور الثقلين- ترجمة المؤلف، ص8 ج1، الطبعة الأولى 2001م، مؤسسة التاريخ العربي- بيروت.
[3]  سورة الشعراء، الآية: 84.
[4]  سورة الشرح، الآيات: 1-4.
[5]  المستدرك على الصحيحين، ح6535.
[6]  نهج البلاغة: حكمة رقم: 100.