حوار مع الشيخ الصفار عن شخصية الدكتور الفضلي

مكتب الشيخ حسن الصفار
الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي قدس سره
الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي قدس سره

نص إجابات سماحة الشيخ الصفار على اسئلة المعدين في قناة الإيمان اللبنانية، للحلقة الوثائقية الخاصة التي تستعرض سيرة حياة "آية الله العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي" ضمن برنامج أعلام:

معالم المنهج الفقهي

بماذا امتازت معالم المنهج الفقهي للدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي؟

الشيخ الفضلي من الفقهاء الرّواد المجدّدين، هناك فقهاء يمارسون فقاهتهم ضمن السّائد والمألوف، وهناك فقهاء يبدعون ويبتكرون، ويقدمون إنتاجًا فقهيًّا فيه تطوير لما هو سائد.

قدّم الشيخ الفضلي مشاريع ومقترحات لتطوير المنهج الفقهي، وأنتج مؤلفات وبحوثًا فقهيّة ضمن الرؤية التي طرحها لتشكل أنموذجًا وعينة.

فقد اهتم بتطوير مقرّرات الدرس الحوزوي استمرارًا لمهمّة أستاذه الشيخ محمد رضا المظفر، وقام بمشروع لصياغة معظم مقرّرات مرحلة المقدمات، منها: خلاصة المنطق، مبادى علم أصول الفقه، مختصر الصرف، تلخيص البلاغة، خلاصة علم الكلام وغيرها.

ولمرحلة الفقه الاستدلالي أو بحث الخارج ـ حسب المصطلح ـ كتب: دروس في فقه الإمامية 4 أجزاء، التقليد والاجتهاد، دروس في أصول فقه الإمامية جزآن، مبادئ أصول الفقه، الوسيط في قواعد فهم النصوص.. وغيرها.

كما اجتهد في وضع مقررات رأى غيابها في الحوزات، منها: تاريخ التشريع الإسلامي، أصول البحث، أصول علم الرجال، الدولة الإسلامية، أصول الحديث، أصول تحقيق التراث، التربية الدينية، القراءات القرآنية.

من معالم منهجه الفقهي على مستوى المضمون:

1/ التأكيد على الفهم العرفي للنصوص الدينية، على أساس أن الشارع في بيانه لا يبتعد عن الأسلوب العرفي الذي يتبانى عليه الناس.. لذلك ينتقد في مقدمة كتابه (دروس في فقه الإمامية) المنهج الفلسفي ويرى أنه قد تسرّبت قواعد ولغة الفلسفة وأدواتها إلى المتون الفقهية، فأثرت على لغة الفقهاء المتأخرين وفهمهم بما لم يعهد في متون المتقدمين.

فمثلاً لا يرى صحة تقسيم الاجتهاد إلى مطلق وتجزؤ، ويرى أنّ ذلك يرجع إلى التعليل الفلسفي لملكة الاجتهاد، التي يراها ملكة بسيطة توجد أو لا توجد، فإذا وجدت كقدرة فإنها قابلة للممارسة في مختلف أبواب الفقه، إلا أنّ تكون هناك عوامل خارجية لا علاقة لها بملكة الاجتهاد. فالاجتهاد لا يوصف بالإطلاق ولا يقيّد بالتجزؤ.

ومثل ذلك رأيه في مسألة عدم اشتراط الأعلمية في التقليد أو العدول في التقليد من مجتهدٍ إلى آخر اعتمادًا على الفهم العرفي للنص.

2/ الاهتمام بالبعد التاريخي بمعرفة بيئة صدور النص الشرعي، ومصاديقه آنذاك، وكذلك مسار تاريخ بحث المسألة، متى بدأ بحثها؟ وكيف تطورت؟ ويرى أنّ لذلك أثرًا في فهم النص.

وكمثال على ذلك بحثه حول الغناء، وأنّ النصوص الناهية عنه كانت تشير إلى حالة ظهرت آنذاك، وهي مجالس الطرب ومحافل الغناء في العصر العباسي، وهو القدر المتيقّن، مما يجعل حرمة الغناء عرضية وليست ذاتية.تأبين الفضلي

كما لاحظ أنّ مسألة اشتراط الحياة في المرجع، لم يحصل البحث فيها إلا في القرن العاشر، من قبل الشهيد الثاني.

3/ التفاعل مع العصر بالانطلاق بالفقه إلى مسارات جديدة تلبّي حاجات المجتمع المعاصر. وتستفيد من تطور العلم والمعرفة في مختلف المجالات.

فهو يشير إلى الاجتهاد الجماعي، ويعرض رأيه حول سنّ اليأس عند المرأة، واختلاف القرشية عن غيرها، وأنّ ذلك على نحو المثالية، فقد تكون المرأة ضمن بيئة أو سلالة معيّنة كذلك، وليس خاصًّا بالقرشية.

وكذا موقفه من صلاحية المرأة لتولي الوظائف العامة، ومنها القضاء، ورئاسة الدولة، فقد وضع المسألة في سياق تغيّر واختلاف الزمان (يوم كانت المرأة ربة بيت غير متعلمة ولا مطلعة، لم تكن مؤهلة لتلك المسؤوليات، أما اليوم فقد اختلف الوضع، وأصبحت والرجل على صعيدٍ واحدٍ من حيث المستوى والقدرة).

4/ منهجية البحث العلمي الموضوعي: بتتبع الأقوال والآراء والاتجاهات، في موضوع البحث، ومناقشتها حسب المعايير العلمية، دون قيود نفسية، حيث استبعد المعيار المذهبي للتقييم، فلو كان هناك رأي فقهيٌّ معتمد عند أهل السنة، يعضده الدليل فلا بُدّ من قبوله، وإن لم يكن مقبولاً لدى مشهور الشيعة. ولا يرى التهيّب من الإفتاء خلاف الرأي المشهور ورأي الأسلاف، متى ما كان هناك دليل مقبول، كما في تعليقه على رأي الكاشاني في (الغناء) وما تعرّض له من هجوم واتّهام بالتأثر برأي السنة، فقال:

أ/ إنّ اختيار الرأي العلمي وتبنّيه من قبل عالم آخر، ظاهرة علمية شائعة، لا مجال لإنكاره، ولا المؤاخذة عليه.

ب/ كون الرأي لغير أبناء المذهب ليس سببًا مسوّغًا للرفض.

ج/ إنّ اختيار الرأي، إمّا للاقتناع بصحة دليل القائلين به، وهذا صحيح، أو لوجدانه في مذهبه ما يسنده. وهذا ما فعله الكاشاني حيث استدلّ بصحيحة أبي بصير حول الموضوع. فهو يدعو إلى دراسة الآراء غير المشهورة، وليس رفضها مبدئيًّا، ويدعو إلى استحضار مقاصد الشريعة والإطار العام للتشريع.

وأخيرًا يؤكّد على الالتزام بنتائج البحث العلمي والتعبير عن الرأي الناتج دون رهبة أو خوف. كما يُحذّر من تأثير الميول الشخصية على عملية الاستنباط.

على مستوى الأسلوب والشكل:

تحديث أسلوب ولغة الطرح في الأبحاث والفتاوى، وتغيير المصطلحات القديمة كالمقادير والأوزان والفراسخ والصاع والمد، وما له نفس سائلة. وحتى بعض المصطلحات المتداولة كالحدث الأصغر، فقد انتقده وقال: إنه لا مبرّر لإطلاق الأصغر؛ لأنه يستدعي وجود حدث صغير دونه، فالأصوب أن يقال الحدث الصغير والكبير. وكذلك مصطلح الأعلم، والأصح أن يقال الأفقه؛ لأنه أوضح في تعريف المفهوم والدلالة على المعنى.

2/ تطوير تبويب الفقه إذ يقترح المنهج التالي:

أحكام الفرد.

أحكام الأسرة.

أحكام المجتمع.

أحكام الدولة.

3/ يؤكد على بحث المسائل المستحدثة كالمصارف والتأمين، وقد كتب بحثاً حول المعاملات البنكية.

4/ ينتقد أسلوب الشروح على المتون. وذلك بأن يعمد الفقيه إلى كتاب لفقيه سابق فيشرحه استدلاليًّا، مما قد يفوّت عليه بحث كثير من الفروع ذات الأهمية والابتلاء، التي لم يتطرق لها المتن، ويحشره في بحث فروع غير ذات أهمية. فيقترح اتباع طريقة التأليف المستقل.

مراحل الدراسة الحوزوية:

كما كان للشيخ الفضلي تصورٌ متكامل لمقرّرات الدرس الحوزوي، حيث قسمها إلى ثلاث مراحل:

دراسة العلوم المساعدة للتخصص في الفقه: مبادئ علم الاجتماع والنفس والقانون والاقتصاد والكلام والفلسفة والتربية وإحدى اللغات الحيّة.

المقدمات: النحو والصرف والتجويد والبلاغة والمنطق ومناهج البحث ومبادئ أصول الفقه ومبادئ الفقه.

علوم التخصص بالفقه: علم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، والدراية والرجال والفقه الاستدلالي.

كما كان للشيخ الفضلي رحمه الله دعوة لإنشاء جامعات تُعنى بشؤون الفكر الإسلامي، وتطوير الحوزات وفق متطلبات حياة المسلمين المعاصرة.

التجديد والعوائق الاجتماعية

للشيخ الفضلي محاضرة بعنوان التجديد والعوائق الاجتماعيّة. ولطالما تطرّق إلى التجديد في مختلف كلماته وندواته ومؤلّفاته. وفق أيّة رؤية دعا إلى التجديد؟ وما هي أبرز العوائق التي ربطها به؟

يرى الفضلي أنّ التجديد تفرضه طبيعة الاستجابة لتطورات الحياة، ومستجدات حاجات المجتمع، وتقدم العلم والمعرفة.

وإذا كانت الأصول والقيم الدينية ثابتة، فإنّ الثقافة والتشريعات متغيّرة، حسب طبيعة الدين الإلهي، لذلك توالت الشرائع السماوية، ولم تكن واحدة، وفتح الإسلام باب الاجتهاد.

أما عوائق التجديد التي واجهها الفضلي وسائر المصلحين، فأهمّها: تشبّث المجتمع بالمألوف والموروث، وتقديس رأي وأسلوب السّابقين.

والعائق الآخر: وجود مراكز قوى تستفيد من الواقع القائم، وتواجه من تراه مزاحمًا لنفوذها ومصالحها.

عاشوراء وأهل البيت

كيف أطلّ من خلال فكره ومؤلّفاته على قضايا عاشوراء وأهل البيت؟

كان يدعو لدراسة الحسين وتقديمه كحركة معارضة في مقابل الظلم والطغيان. وينتقد بعض أدب عاشوراء الذي يصور كربلاء وكأنها صراع عائلي بين بني أميّة وبني هاشم.

ويرى ضرورة إبراز روح المسؤولية العالية لدى أهل البيت تجاه الإسلام والأمة.

كما يرى أنّ تركيز الخطاب الشيعي على القضايا التاريخية، ذات الطابع المذهبي الخلافي، استصحاب لحالة سابقة في عهود التناحر الطائفي، كما حدث بين السلاجقة والبويهيين، وبين الصفويين والعثمانيين. وأنّ هناك الآن تغذيةً له من الاستكبار العالمي.

ويؤكد على دراسة الأئمة من خلال فكرهم السياسي وتطبيقاته، وفكرهم الإداري وتطبيقاته.. فذلك هو ما يوضح الإمامة ويُجسّدها.. وليس مجرّد الأدلة الكلامية والفلسفية، وهو ما يأخذه على القراءة المجردة للإمامة.

يقول: لم أقف من خلال قراءاتي للكثير مما كتب عن سيرة الأئمة، على من تناول سيرتهم في هدي منهج سياسي تاريخي، مستمد من واقع الإسلام، وهذا ما يمكن أن نستفيد منه كامل الأحكام الإسلامية في الادارة والسياسة.

فمثلا يقول: إنّ الامام عليًّا يمكن أن يقدّم نموذجًا إذا درسناه من خلال فكره الإداري وتطبيقاته، ومن خلال فكره السياسي وتطبيقاته.

وبالنسبة للإمام الحسين ، فإننا ندرسه من جهة أن يزيد حاول أن يأخذ البيعة منه، وامتنع الامام الحسين وقتل.. بينما الإمام الحسين كان يمثل حركة المعارضة عند المسلمين في مقابل تجاوزات وانحرافات الحكام آنذاك.

دور وواجب عالم الدين

كيف كان يُحدّد العلّامة الفضلي دور وواجب عالم الدين؟

كان يرى أنّ لعلماء الدين دوراً محوريًّا في حفظ وحدة الأمة، وكيان المجتمع الإسلامي، وأنّهم يتحمّلون مسؤولية كبيرة في نزع أسباب الفرقة الناشئة عن الفهم المغلوط للدين. كما في كتاب جمع بعض محاضراته عن الوحدة الإسلامية.

ويمكننا أن نستخلص رؤيته لدور وواجب عالم الدين في المهام التالية:

1/ بذل الجهد في استكشاف مفاهيم الدين وتشريعاته، وكان - رحمه الله - أنموذجًا في البحث والاستكشاف. والنتاج المعرفي ليبين مفاهيم الدين وتشريعاته.

2/ فهم واقع الحياة الذي يعاصره العالم، فقد يفتي حول مسألة ترتبط بواقع لم يتعرف عليه بالشكل الكافي. وتحدث عن ذلك في بحثه عن البنوك والمعاملات المصرفية، حيث وجد أنّ هناك عدم اطلاع كافٍ لدى بعض الفقهاء، على طبيعة العمل المصرفي في واقعه المعاصر.

وحول كثرة لجوء الفقهاء المتأخرين في الفتوى للاحتياطات، يقول: إنه يعود إلى عدم ارتباط الفقيه بأجواء الحياة التي سوف تتحرك فيها فتواه، فلو علم الفقيه مدى حرج المكلفين لما أفتى بذلك.

كان يطالب العلماء بالاطّلاع على مناهج البحث الحديثة، وعلى الدراسات الفقهية الحديثة، وهو شخصيًّا كان يحرص على قراءة أيّ دراسة فقهيّة من أيّ مذهب عن الموضوع الذي يبحث فيه، حيث اجتهد كثيرًا للحصول على بعض كتب المذهب الزيدي من اليمن.

3/ التزام عالم الدين بقيم الإسلام وأخلاقه، ليثبت مصداقيته، وتطابق عمله مع علمه، وليكون قدوة، وصورة مشرقة عن الدين.

كان رحمه الله يرى: أنه بسبب هذا التطور الهائل المتحقق في حياة الإنسان المعاصر، لا بُدّ أن يتوفر الفقيه على عنصرين يضافان إلى شروط الإفتاء المعروفة، وهما:

الثقة المتينة بالنفس، وبقدرته الفقهية والعلمية في مجال الاستنباط.

فهم الحياة وفهم كيفية التعامل معها.

موضحا ذلك: إذا كان الفقه هو نظام هذه الحياة، فمن المفترض أن الفقيه يفهم الحياة، حتى يطوّر الفقه ويطوعه ليكون نظامًا لهذه الحياة، (فهم الموضوع نصف الحكم).

ويقول: يجب أن ندرس أوضاع الحياة لنقول إنّ فقهنا يعيش الحياة وليس في عزلة عنها.

ترسيخ الوحدة

عُرف الشيخ الفضلي كشخصيّة وحدويّة. كيف عمل على ترسيخ الوحدة على ضوء المواقف التي تثبت حرصه وتمسّكه بالوحدة في وجه الفتن؟

يمكننا أن نرى في خطابات وكتابات وحوارات الشيخ الفضلي التركيز على موضوع الوحدة من خلال الأمور التالية:

1/ التوجه للاهتمامات المشتركة في الأمة

حيث يرى ضرورة تنمية روح الانتماء للمبدأ الإسلامي، والوطن الإسلامي، عند الفرد المسلم، وهم المحافظة على وحدة الصف، ووحدة الكلمة، مستشهداً بقول عليٍّ : (لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ) وهذا يعني الأخذ بمبدأ المسالمة الموصل إلى سلامة أمور المسلمين. على حدّ تعبيره.

2/ التعارف والقراءة السليمة بين المذاهب الإسلامية

فقد كتب (مذهب الإمامية بحث في النشأة وأصول العقيدة والتشريع) وقدم فقه الإمامية ومعارفهم بصورة مقبولة.

ودعا لفتح باب الدراسات المقارنة وتعميمه في المعاهد والمؤسّسات.

3/ يرى أنّ التعصب والذاتية هي جذر المشكل الطائفي، وليس الاختلاف الفكري. ويدعو إلى مواجهة ذلك.

فقد كان يرى أنّ الطائفية تتحرك على خطي الفكر والعاطفة، ففي خط الفكر هناك اختلافات في الآراء الاعتقادية والفقهية، وفي خط العاطفة هناك التعصب.

وحين يكون الاختلاف موضوعيًّا فلا مشكلة، لكن المشكلة إذا أصبح في منحى الذاتية، وهذا يتأثر بالتعصب، ولمعالجة الطائفية لا بُدّ من معالجة الذاتية والتعصب.

ودعوته للوحدة لا تعني عدم الدعوة إلى الفكرة الحقّة التي يؤمن بها الفرد أو تؤمن بها الجماعة.

ويرى أنه بعد عهود من التعصب لا بُدّ من التمهيد للتخفيف من غلواء التعصب ولتبديد الأوهام.

مكانته قياساً بإنـجازاته

حقّق الشيخ الفضلي مكانة رائدة، ورغم ذلك، ثمّة من يقول: إنّه لم يحقّق الشهرة التي يستحقّها، مقارنة بالمكانة والإنجازات التي حقّقها، وذلك لأسباب كثيرة رغم أنّه أهل لذلك. البعض يقول إنّ السبب خروجه من النجف إلى السعودية، وليس إلى البيئة الشيعيّة الشعبيّة، حيث حقّق آخرون لا يقلّ هو خبرة عنهم الشهرة الأوسع. والبعض يعتبر أنّ السبب هو تركيزه على الجانب الأكاديمي أكثر من الحوزوي، فدفع الضريبة! والبعض يعزو السبب إلى عدم توافق آرائه مع آراء الأغلبيّة من المراجع والعلماء في حينها من الناحية الفقهيّة. والبعض أيضًا يحمّله المسؤوليّة؛ لأنّه لم يكن يحبّ الظهور والتباهي والتفاخر بإنجازاته. فهل صحيح أنّه لم يبلغ الشهرة والمكانة الشعبيّة المطلوبة للتأثير على الناس؟ وكيف تقرأ في هذه الأسباب التي ذكرناها بصفتها عائقًا؟

يبدو لي أنّ الشيخ الفضلي قد اختار الدور الذي يريد القيام به، واختار الشريحة التي يريد مخاطبتها.

هو لم يرد دور الزعامة السياسية ولا الاجتماعية، ولم يتصدّ للقيام بدور سياسي، عدا عن مشاركته الأولى في التأسيس لحزب الدعوة الإسلامية في العراق، وكانت بداية شبابه، ومن منطلق المواجهة الفكرية مع الاتجاهات المناوئة للإسلام، كالشيوعية التي كانت تيارًا جارفًا في العراق.

لكنه انسحب فيما بعد من الارتباط بالحزب، كما أنّه لم يرد التّصدي لدور جماهيري، بأن يمارس الدور التقليدي الجماهيري لرجل الدين، من إمامة الجماعة، والخطابة، واستلام الحقوق الشرعية.

وابتعد عن البروتكولات الاجتماعية. ويمكنني القول إنه كان يبتعد عن كلّ نشاط جماهيري ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا يقبل الدعوات والضيافات، كما هو سائد في المجتمع، وحتى مشاركاته في المناسبات الاجتماعية محدودة جدًّا، ومعروف أنه إذا اضطر للذهاب للتعزية بوفاة أحد، ممن لا يمكنه التأخر عن حضور عزائه، فإنه يذهب مبكرًا قبل اجتماع الناس، ويؤدي واجب التعزية وينصرف.

من ناحية أخرى، لم تكن حوله حاشية أو جماعة تتبنى الدعوة إليه، وتعمل لالتفاف الناس حوله، حيث كان يهرب من ذلك، حتى مجلسه الذي كان يستقبل فيه الزائرين ليالي محددة، لم يكن له بروتكول للاستقبال والضيافة، بل كان مجلسًا عاديًّا عفويًّا، ميزته ما يطرح فيه من أفكار وآراء.

ولا شك أنّ انشغاله بالدراسة الجامعية سنينًا في القاهرة، وسنينًا أخرى بالتدريس في الجامعة بجدة، كان من أسباب ضعف تواجده الاجتماعي.

وكذلك عزوفه عن الإعلام، حيث لم يتجه للظهور في وسائل الإعلام، كلّ هذه العناصر والأسباب، جعلت شهرته ومكانته تقتصر على الأوساط النخبوية.

الدور الذي اختاره هو البحث والإنتاج العلمي، وخاصة ضمن المنحى الأكاديمي، حيث اهتم بتطوير المناهج الدراسية، وربى جيلاً من العلماء والشباب المثقفين الملتزمين.

على صعيد الإنتاج والتربية مكانته عظيمة في الحوزات والأوساط العلمية والمثقفين، ففي الوسط الأكاديمي الذي عايشه في جدة (جامعة الملك عبدالعزيز) له مكانة واعتبار.

كما أنّ كتبه الدراسية اعتمدت مقرّراتٍ في حوزات علمية كثيرة، ومن النادر أن تُدرّس كتب عالم في حياته، وأن تتعدّد الكتب التي تدّرس من مؤلفاته.

صفاته الإنسانية وتعامله مع المسيئين

كيف كان يردّ على منتقديه والمسيئين إليه؟ (مع ذكر موقف)؟ حدّثنا عن أبرز معالم شخصيّته وصفاته الإنسانيّة على ضوء معرفتك به؟ وما هي أكثر عباراته ومواقفه التي ما تزال تؤثّر فيك؟

من أهمّ الصفات الإنسانية التي تحلّى بها: التواضع، كان يحترم الصغير والكبير، ومع عظيم علمه ووافر فضله، إلا أنه ما كان يستعرض عضلاته العلمية أمام الآخرين، بل يطرح رأيه بتواضع وهدوء، ويشجع السّامعين على إبداء آرائهم، ويناقش الرأي المخالف برفق، لذلك كان الشباب يرتادون مجلسه، على اختلاف توجهاتهم، ولا يتردّدون في طرح أسئلتهم وإشكالاتهم، كانوا يحترمون أبوّته وعلمه، لكن لا يتهيّبونه، كما الشائع في العلاقة بين الناس وبعض العلماء.

ومن صفاته المهمة تشجيع الطاقات والقدرات، بترغيبهم في الكتابة والبحث، وتقديم المساعدة لهم في منهجية البحث، وإعطائهم الملاحظات، ولا يرفض التقديم لكتاب يطلب منه مؤلفه تقديمه، مهما كان مستوى الكتاب، ودون نظر لمكانة المؤلف، لذلك تقدّر تقديماته بـ 121 تقديمًا.

وكان منفتحًا على جميع الاتجاهات، حيث تسامى على الخلافات المرجعية السائدة، فينقل آراء مختلف الفقهاء في بحوثه، وبعضهم قد يكون ندًّا له أو اقلّ منه مرتبة علمية.

كما كان منصفًا مشيدًا بالعلماء العاملين والرساليين، مهما كانت الأجواء مناوئة لهم، وأذكر في هذا السياق موقفه الصادق الشجاع في القول بمرجعية السيد فضل الله؛ لاقتناعه بفقاهته وأهليّته. رغم أنّ ذلك قد سبّب له بعض المشكلات في بعض الأوساط المرجعية.

وقد رفض أن يردّ بعض تلامذته على كتابات ضده في الشبكة العنكبوتية، من قبل بعض المزايدين، حينما أصدر كتابه (مذهب الإمامية.. دراسة في النشأة).

ويُذكر أنّ إحدى دور النشر طبعت له كتابًا دراسيًّا في علم الأصول، وكانت الأخطاء فيه كثيرة، لدرجة أنها أغفلت ثلاث صفحات من الكتاب، وكان يتواصل مع الدار لتعديل الأخطاء دون استجابة منها.. وأثناء ذلك جاءه أحد المثقفين الشباب يستشيره في طباعة كتاب له في هذه الدار، فشجّعه الشيخ دون أن يذكر له ما يعانيه من تعاملها معه، وقصارى ما قاله بأنّ هذه الدار لا يوجد لديها مدقق لغوي، ونصحه بأن يسلّم الكتاب إليهم بعد تدقيقه جيّدًا.

لقد كان الشيخ الفضلي أنموذجًا للعالم الصادق المخلص، المجتهد في خدمة العلم والمجتمع، تغمده الله بواسع رحمته، ووفق العلماء المخلصين والمثقفين الواعين، لمتابعة مسيرته، وتطوير مشاريعه.

 

 

 

قناة الإيمان اللبنانية، برنامج أعلام، حلقة وثائقية خاصة تستعرض سيرة حياة "آية الله العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي"، إعداد زينب برجاوي، بث بتاريخ 21 يوليو 2017م.