احترام الآخر الديني

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. [الحج: 17].

بمناسبة أعياد ميلاد المسيح نبي الله عيسى بن مريم ، التي يحتفي بها المسيحيون، وهم من أكثر أتباع الديانات عددًا ونفوذًا في العالم، لذلك أصبحت هذه المناسبة توقيتًا عالميًّا، نريد أن نتأمل في بعض الآيات القرآنية التي يمكننا أن نستنتج منها رؤية حول تعدّد الديانات، والتعامل مع أتباعها.

الاعتراف والقبول بوجود الآخر

أولًا: نلحظ في الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. [الحج: 17] اعترافًا وقبولًا بوجود أتباع الديانات المختلفة، وتسميتهم بأسماء دياناتهم، وقد تكرّر مثل هذا الاعتراف في آيتين أخريين.

ففي سورة البقرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‎﴿٦٢﴾.

وفي سورة المائدة، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‎﴿٦٩﴾‏.

مع تأكيد القرآن الكريم على أحقية الشريعة الإلهية التي جاء بها النبي محمد ، وأنّها خاتمة الشرائع الإلهية، وأنّ على كلّ من بلغته هذه الدعوة الإلهية أن يتبعها، فالنبي محمد رسول إلى البشرية جمعاء.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. [سبأ: 28].

لكنّ القرآن الكريم يلفت نظر المؤمنين به إلى حقيقة واقعية، هي وجود مجتمعات ذات ديانات أخرى، تتمسّك بدياناتها، ولا تنضوي تحت راية الإسلام.

فلا بُدّ من الإقرار والاعتراف بوجودها، وتنظيم العلاقة معها.

وقد جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدّث عن أتباع الديانات الأخرى، وسبل التعامل معهم.

في هذه الآيات إشارة إلى استمرار وبقاء تعدّدية الديانات، والاختلاف بين أتباعها حول أحقية كلٍّ منها إلى يوم القيامة، فالفصل والحسم هناك يكون من قبل الله تعالى.

يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. [البقرة: 113].

ويقول تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ‎﴿٦٧﴾‏ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‎﴿٦٨﴾‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. [الحج: 67-69].

ولعلّ تكرار الإشارة إلى هذه الحقيقة، في عدد من الآيات الكريمة، يستهدف معالجة حالة الحماس والاندفاع، عند بعض أتباع كلّ ديانة، لإنهاء وجود الديانة الأخرى.

كما تؤكد الآيتان (62 من سورة البقرة، و69 من سورة المائدة) أنّ المعيار عند الله هو الإيمان بالمبدأ والمعاد، والعمل الصالح، وليس التسميات والعناوين.

الدين نشأة عائلية اجتماعية

ثانيًا: تشير الآيات القرآنية إلى أنّ غالب الناس يتلقون دينهم عبر نشأتهم العائلية، ويرثونه من آبائهم وأسلافهم.

يقول تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ. [الزخرف: 22].

ويقول تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ. [الزخرف: 23].

وروى ابن عباس أنّ النبي قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجّسَانِهِ»[1] .

كما يكسب الطفل اللغة والعادات وأنماط الحياة من عائلته التي يتربى في أحضانها، كذلك يتشرّب معتقدها الديني، وينشأ على حبّ ذات الرموز والمقدّسات التي تؤمن بها عائلته، ويلتزم مذهبها ومسلكها.

هذا هو واقع الناس الديني في كلّ الأزمنة والبقاع، وهو السبب الرئيس لبقاء الأديان والمذاهب، حيث تتوارثها الأجيال عن طريق التربية والتنشئة.

فمن يولد ويتربّى في عائلة مسيحية كاثوليكية يصبح مسيحيًّا كاثوليكيًّا، وسيكون أرثوذكسيًّا لو ولد من عائلة أرثوذكسية، أو بروتستانتيًا إن تربى في أسرة بروتستانتية.

وكذلك من يولد في أسرة يهودية، يصبح يهوديًّا على مذهب أسرته، والشيء ذاته يحصل لدى العوائل الإسلامية، حيث يكون أبناؤها مسلمين على مذاهب أهلهم، سنة وشيعة وغيرها.

وقد يفارق الإنسان فيما بعد دين أهله ومذهب عائلته، إلى دين ومذهب آخر يقتنع به، لكنها تبقى حالات استثنائية قياسًا إلى واقع الحال العام في مسيرة المجتمعات البشرية.

كما أنّ للبيئة التي يعيش فيها الإنسان دورًا في تعزيز ما ورثه من دين، حيث يصبح هوية اجتماعية، ويجد الإنسان نفسه منساقًا للتفاعل والتكيّف مع بيئته، ليحظى بحمايتها ولا يكون شاذًا عنها، منبوذًا من قبلها.

إنّ معظم الناس في مختلف الأديان والمذاهب لا يتعاطون مع المعتقد الديني كمسألة شخصية وقرار فردي، كما هو الواجب عقلًا على الإنسان، بل يتعاطون مع المعتقد كخيار اجتماعي، فيوفّرون على أنفسهم عناء التفكير فيه، ومسؤولية البحث في الخيارات البديلة.

لذلك يشعر أتباع كلّ دين ومعتقد بالرضا عمَّا هم عليه، وتوحي لهم أجواء التوافق العام في مجتمعهم بالثقة في معتقدهم، خاصة وهم ينشأون على حبِّ وتقديس زعامات وقيادات تأخذ في نفوسهم موقع التأثير والإجلال، ولا يتصورون أنّها تسير بهم على خطأ أو توجههم لباطل.

وهذا ما نبّه إليه الإمام جعفر الصادق بعض أتباعه ممن بدا منهم الحماس والاندفاع في دعوة الآخرين إلى المعتقد والمذهب، قال : «لاَ تُخَاصِمُوا اَلنَّاسَ لِدِينِكُمْ فَإِنَّ اَلْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ لِلْقَلْبِ... ذَرُوا اَلنَّاسَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ أَخَذُوا عَنِ اَلنَّاسِ»[2] .

ويقول تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [الأنعام: 108].

فكلّ أمة يعيش أبناؤها الرضا عن دينهم، والاقتناع بانتمائهم.

لا إكراه في الدين

ثالثًا: عدم إمكانية الغاء أتباع أيّ ديانة، أو قسرهم وقهرهم على ترك ديانتهم.

إنّ الدين كعقيدة ورأي شأن يرتبط بداخل الإنسان وأعماق نفسه وقلبه، ولا يمكن أن تفرض عليه دون اقتناع منه، وقد يضطر في حال القهر أن يتظاهر بالقبول والاقتناع، لكنه في الحقيقة غير معتقد ولا مقتنع، وإذا ما سنحت له الفرصة بزوال القهر، فسيلعن رأيه، ويمارس ديانته.

يقول تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. [البقرة: 256].

ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. [يونس: 99].

ويقول تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. [آل عمران: 20].

احترام إنسانية الآخر وحقوقه

رابعًا: إنّ التعامل مع أتباع الديانات الأخرى ينطلق من احترام إنسانيتهم واختيارهم، إنّ الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ. [الإسراء: 70].

فكلّ بني آدم مشمولون بمنحة الكرامة الإلهية، على اختلاف أديانهم وتوجهاتهم، حيث لم تقل الآية ولقد كرمنا المسلمين أو المؤمنين.

وورد عن الإمام علي : «إِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ»[3] .

ويقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. [الممتحنة: 8].

والتعامل الحسن مع الآخرين يقدّم لهم صورة مشرقة عن انتمائك ودينك.

إنّ احترام إنسانية الآخر واختياره، هو القاعدة للتعايش السلمي بين الناس.

ورد عن الإمام محمد الباقر : «صَلاَحُ شَأْنِ اَلنَّاسِ اَلتَّعَايُشُ»[4] .

إنّ البعض يصْعُبُ عليه أن يعترف للآخرين بحقّ الاختيار لتوجهاتهم وآرائهم، ويرى أنّ كلّ من خالفه في الدين أو المذهب، أو الاتجاه الفكري فهو خبيث وسيّئ ومغرض، وهذه نظرة خطأ، غالبًا ما يكون سببها العقد النفسية، أو الروح العنصرية، أو ضيق الفكر.

إنّ ما تراه حقًّا قد لا يراه الآخر كذلك، لذلك يشير القرآن الكريم إلى أنّ أكثر الناس لا يعلمون.

يقول تعالى: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. [الأعراف: 187].

ويقول تعالى: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. [الأنعام: 37].

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: «كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النبيِّ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، فَهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ، ويقولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ»[5] .

ولقد ورد أنّ النبي محمدًا بعد ما أصابه العنا والأذى في أحد، قيل له: لو دعوت عليهم، فقال : «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»[6] .

دعا لهم بالهداية ولم يدعو عليهم بالهلاك والنار.

 

خطبة الجمعة 29 جمادى الأولى 1444هـ الموافق 23 ديسمبر 2022م.

[1]  صحيح البخاري، ح1358.
[2]  الكافي: ج1، ص166.
[3]  نهج البلاغة، رسالة رقم: 53، ومن كتاب له كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
[4]  بحار الأنوار: ج71، ص167.
[5]  صحيح البخاري، ح6929.
[6]  بحار الأنوار، ج20، ص116، الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج1، ص105.