للدكتور حيدر احمد اللواتي

تقديم كتاب «الكون والحياة.. قراءة علمية لقصة نشأة الكون والحياة»

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

لا شيء أكثر من الحديث عن الكون والحياة في القرآن الكريم، بعد الحديث عن الله تعالى، ومعظم الآيات القرآنية يندمج ويتداخل فيها الحديث عن الله تعالى بالحديث عن الكون والحياة، فالله تعالى مبدع الكون وخالق الحياة، وهما أجلي مظاهر قدرته وعظمته وحكمته.

فقد تحدثت آلاف الآيات القرآنية عن أهم وأبرز مظاهر الحياة والوجود الكوني، فمثلًا ورد ذكر الأرض (461) مرة، وذكر السماء - السماوات (310) مرة. ومئات الآيات جاء فيها ذكر سائر مفردات الطبيعة وعناصرها، وذكر الإنسان والموجودات المتنوعة في هذا الكون الفسيح.

إن هذا الحديث المكثّف في القرآن الكريم عن الظاهرة الكونية، يستهدف لفت نظر الإنسان، وإثارة فكره، وتحفيز عقله، للبحث عن أسرار الخلق والوجود، ولمعرفة السنن والقوانين المسيّرة لهذا النظام الكوني البديع، ليترسخ إيمان الإنسان بخالقه، وليدرك عظيم صفاته، وليكون أقدر على التعامل مع ظواهر الطبيعة التي يعيش في أحضانها، والاستفادة من إمكاناتها الهائلة، في تطوير مستوى حياته.الكون والحياة.. قراءة علمية لقصة نشأة الكون والحياة

وتحمل عدد من الآيات القرآنية دعوة صريحة للإنسان للتأمل في آفاق الكون والحياة، ومعرفة كيفية نشأة الوجود والموجودات، ورصد أنظمة الطبيعة، وحركة الحياة.

يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ. [سورة الأعراف، الآية: 185]

لم يقدّم القرآن الكريم نظريات علمية تفصيلية يفرضها على عقل الإنسان، لتفسير نشأة الكون وحركة الحياة، بل فتح المجال أمام العقل البشري، ليمارس دوره ووظيفته، في التفكير والبحث والرصد الميداني، وخوض التجارب العلمية، ليتدرج في معارفه، ويرتقي بمستوى علمه وخبرته.

يقول تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ. [سورة العنكبوت، الآية: 20]

وما قد يظهر من تفسير لبعض الظواهر الكونية في الآيات القرآنية، لا يصل إلى مستوى الدلالة القطعية، وغالبًا ما يحتمل التأويل ويتسع لأكثر من معنى، فلا يشكّل سقفًا للبحث العلمي، ولا يمنع من قبول النظريات المختلفة.

ما يركّز عليه القرآن الكريم، في الحديث عن الظاهرة الكونية، هو الدلالة على وجود الخالق القدير، وهي دلالة يقبلها العقل والوجدان، ولا يمكن لاي نظرية علمية في تفسير الظاهرة أن تنفي مصدرها.

كان من المفترض أن ينعكس هذا الاهتمام القرآني البالغ بقضايا الحياة والوجود، على انشغالات العقل المسلم، وثقافة الأمة، بالتوجه إلى ميادين البحث العلمي، وتكثيف الجهود والتجارب، لاستكشاف حقائق الكون والحياة، وإنتاج النظريات والطروحات العلمية، التي تسعى لتقديم الإجابات الملهمة على الأسئلة الكثيرة الغامضة، وتفتح آفاق التطور والتقدم أمام البشرية.

لكن المؤسف أن الاستجابة لهذه الدعوة القرآنية كانت ضعيفة محدودة، بل منعدمة في كثير من العصور، لأسباب تستحق كثيرًا من الدراسة والبحث.

إننا نفخر بعهد سابق في تاريخنا الإسلامي، لمعت فيه أسماء علماء وباحثين مسلمين، كانوا روّادًا في ميادين علوم الطبيعة، وقدّموا إنجازات علمية باهرة في تلك العصور، كجابر بن حيان، وابن الهيثم، وعباس بن فرناس، ومريم الاسطرلابية، وابن البيطار، وأمثالهم.
لكن هؤلاء الرواد لم يتحولوا إلى ظاهرة عامة، ونهج مستدام، في تاريخ الامة، يحقق تراكم المعرفة وتطورها.

وعلى مستوى الثقافة العامة لجمهور الأمة، فإن مساحة الاهتمام فيه بقضايا الكون ونشأة الحياة، كانت ولا تزال ضعيفة جدًا، مع أنهم يتلون القرآن أناء الليل وأطراف النهار، وتطرق أسماعهم، وتلهج السنتهم بمئات الآيات التي تدعوا إلى النظر في الظواهر الكونية، وتأمر بالبحث عن كيفية نشأة الوجود وتطور حركة الحياة.

بل لا نبالغ إذا قلنا إن هناك أُمِّية معرفية ثقافية على هذا الصعيد، تسود معظم أوساط الجمهور، وتفسح المجال أمام انتشار الأوهام والخرافات والأساطير، التي يأخذ بعضها صبغة دينية، من خلال الأحاديث والروايات الزائفة، التي تسللت إلى التراث الإسلامي.

وتنقل لنا السيرة النبوية، كيف أن رسول الله كان يتصدى لأي تفسير خرافي زائف لحركة النظام الكوني، ويؤكد على ثبات السنن الإلهية الناظمة للحياة، ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. [سورة فاطر، الآية: 43]

فحين مات إبراهيم ابن رسول الله ، حزن على موته رسول الله ، وصادف في ذات اليوم أن انكسفت الشمس، فأشاع الناس أن الكسوف كان بسبب موت إبراهيم، لمكانة النبي عند الله، ولو قيل مثل ذلك في حق زعيم آخر، ربما يأنس بهذا القول، ويستفيد من الحادثة في تعظيم شأنه ومكانته، لكنّ نبي الحق لا يقبل تضليل الناس بالجهالات والاوهام.
فصعد رسول الله المنبر: «فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَلشَّمْسَ وَاَلْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ تَجْرِيَانِ بِأَمْرِهِ، مُطِيعَانِ لَهُ، لاَ تَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا اِنْكَسَفَتَا، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَصَلُّوا، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلاَةَ اَلْكُسُوفِ»[1] .

ومع هذا الموقف النبوي الصارم، ومواقف مماثلة من قبل أئمة أهل البيت ، إلا أننا نجد في كتب الأحاديث والروايات نصوصًا كثيرة عن قضايا الكون والحياة، لا تتفق مع منطق القرآن ومعطيات العلم، وتؤدي إلى تشويش وتضليل ذهن الإنسان المسلم، وتوجيه سلوكه اتجاهًا خطأ.

يقول الفقيه الشيخ محمد آصف محسني، معلقًا على روايات تتحدث عن الظواهر الكونية في الجزء (55) من كتاب «بحار الأنوار» للشيخ المجلسي: (ففي هذا الجزء روايات غير معتبرة سندًا أصبح بطلان متونها وكذب محتوياتها من الواضحات عند المراهقين في المدارس، فهل يصح أن ننسبها إلى أئمة الدين فتبطل نبوة النبي وإمامة أوصيائه عند الناس، ويتهم الإسلام بالكذب والجهل؟ والعياذ بالله)[2] .

ولا تزال مثل هذه الروايات تحتل مساحة في الخطاب الديني المعاصر.

من هنا تأتي أهمية إنتاج ثقافة علمية عن الكون والحياة، موجهة لجمهور الأمة، في إطار استهدافات الآيات القرآنية، التي تعزز الإيمان بالله تعالى، وتؤكد على روعة ودقة النظام الكوني، وتمنح الإنسان الوعي بطبيعة الوجود والحياة.

وبين أيدي القرّاء الكرام كتاب قيّم، يمثل استجابة نموذجية لهذه الحاجة المعرفية الملحة، حيث يقدّم قراءة علمية وتاريخية لقصة نشأة الكون وتطوره، وفق أحدث النظريات والمعطيات العلمية، وأكثرها قبولًا في أوساط المختصين، بلغة رشيقة تسدّ الفجوة بين لغة التخصص العلمي، ولغة الثقافة العامة للجمهور.

والميزة المهمة في هذه القراءة، الانطلاق من عمق وأصالة الإيمان بالله تعالى، وبالدين الالهي. بينما تنطلق معظم الكتابات التي أنتجها الباحثون الغربيون والمترجمون لهم في هذا المجال، من خلفية ثقافية مادية، تتنكر للإيمان بالله تعالى وبعالم الغيب.

والمؤلف الدكتور حيدر أحمد اللواتي، باحث متميّز وعالم من ذوي الاختصاص، بروفيسور في علم الكيمياء، مارس التدريس لهذا العلم، وترأّس قسم الكيمياء بكلية العلوم، في جامعة السلطان قابوس، بسلطنة عمان.

وتشهد أوراقه العلمية البحثية، التي قدمها في مؤتمرات علمية عالمية، ونشرتها دوريات علمية محكّمة، بجديته وتمكنه في مجال اختصاصه، كما تؤكد ذلك الجوائز العلمية التي حصل عليها.

ولعمق أصالته الدينية، وانتمائه الاجتماعي، فإن انشغاله العلمي التخصصي، لم يصرفه عن الاهتمام بقضايا الفكر الديني، والثقافة العامة، والهموم المجتمعية.

وقد قرأت له عددًا من المقالات نشرتها بعض الصحف والمواقع الالكترونية، تظهر سعة أفق اطلاعه ومعارفه، وشدة حرصه على نقاء الدين ومصلحة المجتمع.

وفي هذا السياق جاء الفصلان الأخيران من هذا الكتاب، الفصل الرابع بعنوان (وتواصوا بالحق) وفيه نقد ذاتي بنّاء للداخل الديني، ومعالجة للثغرات ومواقع الخلل في الثقافة السائدة في معظم المجتمعات الإسلامية.

أما الفصل الخامس بعنوان (هاتوا برهانكم) فهو نقاش علمي رصين، لتحصين العقل المسلم من تأثير أمواج الثقافة المادية ذات التوجه المناوئ للإيمان، والتي تريد توظيف تطور العلوم الطبيعية، في التشكيك بالدين، وخدمة الاتجاهات الإلحادية واللاأدرية.

وإني إذ أبارك للمؤلف الفاضل هذا العمل العلمي المميز، لأرجو أن يأخذ الكتاب موقعه المناسب من الاهتمام في الساحة الاجتماعية، من قبل المعنيين بالشأن الديني والثقافي، وذلك بإيصال الكتاب بنسخته الورقية أو الإلكترونية، إلى أكبر مساحة ممكنة من أبناء وبنات المجتمع.

اسأل الله تعالى للمؤلف، المزيد من التوفيق والعطاء، في خدمة العلم والدين والمجتمع، وأن يتقبل الله عمله بأحسن القبول، إنه جواد كريم.

حسن موسى الصفار

1 رمضان 1445هـ

11 مارس 2024م

 

 

 

 

مركز العلوم الطبيعية، الكويت، الطبعة الأولى، 2024م.
[1]  الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: الكافي، ج3، ص463، ح1. ومثله في صحيح البخاري، ح5713.
[2]  الشيخ محمد آصف محسني، مشرعة البحار، ج2، ص273.