تقديم لكتاب المنافقون.. تأملات قرآنية في الفكر والسلوك للشيخ أمجد الأحمد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اهتم الفلاسفة من قديم الزمن بوضع تصنيف لشخصيات الأفراد في المجتمع الإنساني، ينطلق من ملاحظة الاختلاف والتفاوت في الطبائع والصفات التي تتشكّل منها شخصياتهم.

فكما يختلف الناس في بنية أجسامهم من حيث لون البشرة، وملامح الشكل، وكتلة الوزن، ومقدار الطول والعرض، وسائر المواصفات الجسمية، كذلك فإنهم يختلفون في طبائعهم النفسية وصفاتهم السلوكية.

ويعتبر الفيلسوف اليوناني «ثيوفراسطس» أحد تلاميذ أرسطو، أول من حاول وضع تصنيف لأنواع الشخصيات الإنسانية، من خلال السمة الغالبة على كل واحدة منها. وألّف كتابًا يسمّى «شخصيات» قدّم فيه ثلاثين صورة لشخصيات متعددة، من خلال رصده لطبائع وسمات أفراد مجتمع أثينا.

وتبلور في تاريخ الفكر الإنساني اتجاهان لنظريات تصنيف الشخصيات: اتجاه نظريات الأنماط واتجاه نظريات السمات.

ويضم الاتجاه الأول، نظريات تقوم على تقسيم الأفراد إلى فئات، يطلق على كل واحدة منها اسم، وتتصف كل فئة بعدد من الصفات الجسمية أو العقلية أو المزاجية، كلها مجتمعة.

بينما يضم الاتجاه الثاني، نظريات تركز على السمة أو الخاصية التي يمكننا أن نفرّق على أساسها بين شخص وآخر، وتعني الاستعداد العام أو النزعة العامة التي تطبع سلوك الفرد.

ويبدو أنّ النّمط أوسع وأعم من السمة، فضمن عنوان كل نمط يمكن تسجيل عدد من السمات.

ومن أقدم نظريات الانماط نظرية الطبيب اليوناني القديم «هيبوقراط» (400ق.م)، حيث صنّف الناس إلى أربعة أنماط من الأمزجة:تقديم لكتاب المنافقون.. تأملات قرآنية في الفكر والسلوك للشيخ

1/ المزاج الدموي ويتميز أصحاب هذا المزاج بعدة سمات منها: السرعة والمرح والتفاؤل والانفعال الشديد.

2/ المزاج السوداوي ويتميزون بالميل إلى الحزن والاكتئاب، وبطء الاستثارة.

3/ المزاج الصفراوي ويتميزون بسمة العصبية، وتقلّب المزاج، وسرعة الغضب، وقوة الانفعالات الحزينة.

4/ المزاج البلغمي ومن سماتهم: التبلد، والهدوء والانفعالات الهادئة.

وفي العصر الحديث، ومع تقدم وتطور مدارس علم النفس، سادتْ نظريات الأنماط السيكولوجية، التي تصنّف الأفراد انطلاقًا من طبائعهم النفسية، ومن أشهرها نظرية عالم النفس السويسري «كارل يونج»، والذي اعتمد تصنيفًا ثنائيًا، قسّم من خلاله الأفراد إلى نمطين:

1/ النمط المنطوي: وهو الشخص الذي يفضل العزلة والاتجاه نحو الذات، وضعف الثقة بالآخرين، ويفتقد المرونة، والقدرة على التكليف السريع، والتوافق الاجتماعي، ويميل إلى التشاؤم والكآبة.

2/ النمط المنبسط: وهو الذي يميل إلى الاهتمام بغيره من الناس والأحداث، والأشياء التي تحيط به، ويتميز بالنشاط والحيوية، والثقة بالنفس، والقدرة على التوافق والمشاركة مع للآخرين.

ونجد في الفكر الإسلامي نهجًا لتصنيف شخصيات الأفراد، ضمن اتجاه الأنماط واتجاه السمات، على أساس الانتماء العقدي، والالتزام القيمي السلوكي، حيث تتحدث النصوص الدينية عن أنماط ثلاثة وهي:

1/ المؤمن الذي يستجيب لنداء الفطرة والعقل، فيؤمن بوجود الله تعالى، وبرسالته وشريعته، ويلتزم بالقيم والأحكام في سيرته وسلوكه.

2/ الكافر الذي يستكبر عن الحق، ويعرض عن الهدى، ويتبع أهواءه وشهواته.

3/ المنافق الذي يعلن الإيمان بالدين، والانتماء إلى مجتمع المسلمين، لكنه في قرارة نفسه لا ينطوي على حقيقة الإيمان، ويتهرّب من الالتزام بقيم الدين وأحكامه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ويعمل على إضعاف الكيان الديني من داخله.

وهناك نصوص دينية كثيرة، تصنّف الناس على أساس الصفات والسمات، التي تغلب على نفوسهم وسلوكهم، في الجانب السلبي أو الإيجابي، وذلك ما نجده في الحديث عن المحسنين والخاشعين والمتقين والمجاهدين والصابرين إلى آخر قائمة السمات الإيجابية، وفي المقابل نجد الحديث عن الظالمين والفاسقين والفاسدين والكاذبين والخائنين ضمن قائمة الصفات السيئة.

وقد أفرد القرآن الكريم مساحة كبيرة من آياته، للحديث عن هذه الأنماط الثلاثة، والسمات التي تطبع شخصيات أفرادها، من أجل صناعة رؤية، وخلق وعي اجتماعي، لفهم طبيعة الشخصية الإنسانية، وتقويمها من خلال معايير ومقاييس موضوعية صحيحة.

وفي هذا الكتاب القيّم، تناول فضيلة الأخ الخطيب الشيخ أمجد يوسف الأحمد (أدام الله توفيقه) البحث عن ثالث الأنماط في التصنيف الديني للشخصية الإنسانية، وهم «المنافقون»، من خلال التأمل في آيات سورة «المنافقون».

ولا شك أن الحديث عن هذا النمط من الشخصية، أكثر حساسية وخطورة من الحديث عن النمطين الآخرين: المؤمنين والكافرين، كما أوضح المؤلف في مقدمة بحثه.

وقد أبدع المؤلف في رسم ملامح صورة هذه الشخصية الخطيرة، على ضوء آيات القرآن الكريم، والأحاديث الواردة عن النبي والأئمة الهداة ، عبر منهج التدبر الرصين، والتأمل الواعي، في النصوص الدينية، وفي حركة الواقع الاجتماعي.

لذلك انطوى البحث على رسائل مهمة لإثارة الوعي، وإمعان النظر، في خلفية بعض المواقف والممارسات على الساحة الاجتماعية.

والمؤلف ينتمي إلى مدرسة الوعي والإصلاح الاجتماعي، وهو منفتح على مختلف شرائح المجتمع، خاصة شريحة الشباب والمثقفين، وقد وظّف موهبته الخطابية في نشر الوعي والثقافة الهادفة.

وإني إذ أبارك له هذا العطاء الجديد، أسأل الله تعالى له المزيد من التوفيق والتقدم في خدمة الدين والمجتمع، وأن يكثّر أمثاله في رجال العلم والدين.

والحمد لله رب العالمين

حسن بن موسى الصفار

5 ذو القعدة 1445هـ

 13 مايو 2024م

 

 

منشورات كلمات - مصر، الطبعة الأولى، 2024م.