سنة العطاء في الحياة

 

عن أبي هاشم الجعفري قال: سَمِعتُ أبا مُحَمَّدٍ الإمام الحسن العسكري يَقولُ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَبَابًا يُقَالُ لَهُ: (الْمَعْرُوفُ)، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ». فَحَمِدْتُ اللَّهَ فِي نَفْسِي، وَفَرِحْتُ بِمَا أَتَكَلَّفُهُ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ. فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: «نَعَمْ، فَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ، جَعَلَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَا أَبَا هَاشِمٍ، وَرَحِمَكَ»[1] .

إنّ وجود الكون والحياة هو من فيض كرم الله وعطائه، فهو واهب الحياة والوجود.

وإذا تأملنا طبيعة الكون والحياة، نجد أنها تحكي عن عظيم صفات الخالق جلّ وعلا، وتعبّر عن أسمائه الحسنى.

الكريم الوهّاب

ومن عظيم صفاته وأسمائه الحسنى أنه كريم وأنه وهاب.

وقد تكرّر ذكر هاتين الصفتين لله تعالى في القرآن الكريم.

والكريم هو كثير العطاء والإحسان من غير طلب أو سؤال، وهو الذي لا يبالي من أعطى ولا يستقصي، وهو الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء.

يقول تعالى: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. [سورة المؤمنون، الآية: 116].

ويقول تعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. [سورة النمل، الآية: 40].

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. [سروة الانفطار، الآية: 6].

والوهاب مبالغة في الوهب، أي كثرة الهبات. والهبة: العطاء دون عوض.

يقول تعالى: ﴿وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ. [سورة آل عمران، الآية: 8].

ويقول تعالى: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. [سورة ص، الآية: 8].

ونجد هاتين الصفتين جليتين فيما يغدقه الله تعالى من العطاء والنعم لعباده، فإمكانات الطبيعة، وثروات الكون الهائلة متنامية متاحة لجميع أصناف الخلائق والموجودات.

ويتنعم بها البشر مؤمنين وكافرين، مطيعين وعاصين.

السخاء والعطاء الإلهي

إنّ نظام الخلق والوجود قائم على أساس السخاء والعطاء الإلهي، فكلّ موجودات الكون التي خلقها الله تعالى تغدق على الحياة كرمًا وعطاءً بأمر الله تعالى.

جاء في خطبة لأمير المؤمنين علي : «أَلَا وَإِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُقِلُّكُمْ وَالسَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَمَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعًا لَكُمْ وَلَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَلَا لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَأُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا»[2] .

وفي سورة النحل يستعرض الله تعالى بعض ما تجود به الطبيعة على الإنسان من نعم وخيرات.

يقول تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. [سورة النحل، الآية: 5].

ثم يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‎﴿١٠﴾‏ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‎﴿١١﴾‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.‏

ثم يقول تعالى:‏ ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‎﴿١٤﴾‏ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

ثم يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. [سورة النحل، الآيات: 10-18].

وتقدِّم لنا التقارير والإحصاءات العالمية، عيّنات من وفرة الثروات المتاحة للبشر في مختلف المجالات.

فحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية، إنّ الإنتاج العالمي من مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية سنة 2022م بلغ 223.2 مليون طن[3] .

وبلغ الإنتاج العالمي للعسل سنة 2022م حوالي 1.8 مليون طن[4] .

ومن البيض تنتج الصين سنويًّا 462 مليار بيضة، وهي أكبر دولة منتجة للبيض في العالم، ويصل إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية السنوي إلى 99 مليار بيضة، ويصل إنتاج الهند إلى 93 مليار بيضة[5] .

وبلادنا المملكة العربية السعودية تنتج سنويًّا 5.4 مليار بيضة[6] .

فبكرم الله وفضله يعيش الإنسان في أحضان طبيعة ثرية، وكون معطاء، تفيض فيه الخيرات على ساكنيه.

الإنسان بين مساري العطاء والبخل

وإذا كانت سائر الموجودات في الكون تقدّم العطاء وتمارس السخاء دون إرادة واختيار منها، بل بمقتضى تكوينها بمشيئة الله تعالى، فإنّ الإنسان مطلوب منه أن يكون منسجمًا مع نظام الطبيعة والكون، فيمارس العطاء والسخاء، لكن بوعيه واختياره، نظرًا لما ميّزه الله تعالى به على سائر مخلوقاته من عقل وإرادة واختيار.

إنّ ما يحوزه الإنسان في هذه الحياة من إمكانات وقدرات وثروات هي من نعم الله تعالى التي أفاضها عليه، ليستفيد منها، ويستمتع بها في حياته، ويعطي مما زاد منها على حاجته للآخرين.

وإذا اختار الإنسان طريق العطاء والسخاء، يكون مرضيًّا عند الله تعالى، منسجمًا مع النهج الإلهي في تسيير نظام الحياة، أما إذا تغلّبت عليه نزعة الأنانية المفرطة، وسيطرت عليه حالة الشحّ والبخل، فسيكون معرّضًا لسخط الله تعالى، مخالفًا لما أراده الله نهجًا في مسيرة الكون والحياة.

إنّ الإنسان المعطاء يكون أسعد في حياته، بينما يعيش البخيل العقد النفسية والأزمات الاجتماعية.

يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ ‎﴿٥﴾‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ ‎﴿٦﴾‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ‎﴿٧﴾‏ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ ‎﴿٨﴾‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ ‎﴿٩﴾‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ. [سورة الليل، الآيات: 5-10].

وعلى مستوى المجتمعات، فإنّ المجتمع الذي تسوده روح العطاء، يكون مستحقًّا للتقدّم والرقي، بينما يعيش مجتمع البخل حالة التخلّف والضعف.

يقول تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. [سورة البقرة، الآية: 195].

الرسالات الإلهية توجيه للعطاء

وقد جاءت الرسالات الإلهية لتوجه الإنسان لاختيار طريق العطاء، وتجاوز نزعة البخل والشحّ، لينال النجاح والفلاح.

يقول تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. [سورة التغابن، الآية: 16].

إنّ الدين يربّي الإنسان ليكون معطاءً للآخرين، مبادرًا لفعل الخير، لينال رضا الله تعالى، وحسن المصير في الآخرة.

ومن عناوين العطاء صنع المعروف، بأن يبذل الإنسان من جهده وماله وجاهه في مساعدة الآخرين، وقضاء حوائجهم، والإحسان إليهم.

إنّ صنع المعروف والإحسان إلى الآخرين ينبغي أن يكون مسلك الإنسان الواعي في تعامله مع جميع الناس بمختلف أصنافهم.

جاء عن رسول الله أنه قال: «رَأْسُ اَلْعَقْلِ بَعْدَ اَلدِّينِ اَلتَّوَدُّدُ إِلَى اَلنَّاسِ، وَاِصْطِنَاعُ اَلْخَيْرِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ بَرٍّ وَفَاجِرٍ»[7] .

وورد عن أمير المؤمنين علي : «اُبْذُلْ مَعْرُوفَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ فَضِيلَةَ فِعْلِ اَلْمَعْرُوفِ لاَ يَعْدِلُهَا عِنْدَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ»[8] .

قال رجل عند الإمام الحسين : إِنَّ اَلْمَعْرُوفَ إِذَا أُسْدِيَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ضَاعَ. فَقَالَ اَلْحُسَيْنُ : «لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ تَكُونُ اَلصَّنِيعَةُ مِثْلَ وَابِلِ اَلْمَطَرِ تُصِيبُ اَلْبَرَّ وَاَلْفَاجِرَ»[9] .

هكذا يجب أن يحاكي الإنسان نظام الطبيعة الذي أرساه الله تعالى.

توجيه الإمام الحسن العسكري

وهذا ما يؤكد عليه الإمام الحسن العسكري في توجيهه لأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، نسبة لجعفر الطيّار فهو من أحفاده، وهو من أهل بغداد، كان جليل القدر، عظيم المنزلة عند الأئمة ، فقد عاصر الإمام الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وروى عنهم، وكانت له منزلة عند السلطات الحاكمة، يستفيد منها في مساعدة الناس.

والإمام العسكري أراد تعزيز هذا السلوك عند أبي هاشم الجعفري، فهو يتكلّف في قضاء حوائج الناس، وقد أفرحه كلام الإمام له، حيث أكّد عليه الاستمرار في هذا النهج، وحدّثه عن معطيات بذل المعروف والإحسان للناس في الآخرة، فأهل المعروف لهم باب خاص يدخلون منه إلى الجنة، يقال له (المعروف). وأنّ أهل المعروف في الدنيا، تكون لهم وجاهة في الآخرة، ويطلبون من الله للآخرين المغفرة ورفع المقام والدرجة في الجنة.

 

خطبة الجمعة 10 ربيع الأول ١٤٤٦هـ الموافق 13 سبتمبر ٢٠٢٤م.

[1]  المحدث الإربلي: كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص925.
[2]  نهج البلاغة، خطبة: 143.
[3]  https://www.fao.org/newsroom/detail/fao-report-global-fisheries-and-aquaculture-production-reaches-a-new-record-high/ar
[4]  https://ajbah.com/blog/%D8%A3%D8%B1%D9%82%D8%A7%D9%85-%D9%87%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A5%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%84/
[5]  https://eqtisadnow.com/%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85/
[6]  https://saudipedia.com/article/13666/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%B4%D8%A4%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9/%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9
[7]  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص38، ح77.
[8]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص149.
[9]  بحار الأنوار، ج75، ص117، ح3.