الشيخ حسن الصفار والموازنات الخمس

 

 

قدَّم سماحة الشيخ حسن الصفار تجربة فكرية وإصلاحية مهمّة، تطوَّرت هذه التجربة وتراكمت على مدى عدَّة عقود من الزمان، ظلَّت تتَّسع في أفقها متخطِّية حدود منطقة الخليج والجزيرة العربية، ممتدَّة إلى المنطقة العربية، وقد وصلت إشعاعاتها إلى أجزاء متفرِّقة من بلدان العالم الإسلامي، مسجِّلًا بهذه التجربة حضورًا لافتًا يمكن أن يُؤرَّخ له في تاريخ تطوُّر الفكر الإصلاحي الإسلامي المعاصر.

في هذه التجربة جمع الشيخ حسن الصفار بين موازنات فكرية وعملية دقيقة ميَّزت تجربته، وتفارقت بها مقارنة بتجارب مصلحين آخرين، من أبرز هذه الموازنات:

أولًا: الجمع بين الشفاهية والكتابية، بين الخطاب الشفهي والتأليف الكتابي، بين اللسان والقلم. فمن جهة يُعدُّ الشيخ حسن صاحب مكتبة صوتية كبيرة تخطَّت في تعدادها أربعة آلاف تسجيلًا صوتيًّا، ومن جهة أخرى يعدُّ صاحب مكتبة تأليفية تخطَّت في تعدادها مائة كتاب. وله في هذين المجالين سيرة طويلة وحافلة بدأت منذ وقت مُبكِّر، وتنامت مع مرور الوقت وتطوَّرت، وحافظت على ديمومتها ولم تنقطع أو تتوقَّف في جميع المحطات الزمنية الداخلية والخارجية التي عاصرها الشيخ حسن في سيرته الفكرية والإصلاحية.

ففي مجال الخطابة، يُذكر في سيرة الشيخ حسن أنه مارس الخطابة الدينية بدءًا من سنة 1968م، وكان عمره آنذاك إحدى عشرة سنة. ويعدُّ الحدث الذي غيَّر مجرى حياته، وفارق بينه وبين أقرانه ومن ينتمون إلى جيله، ورسم له دربًا جديدًا، لم يكن متاحًا أو مألوفًا بشكل كبيرة بالنسبة إلى الكثيرين في مجتمعنا آنذاك. ومن ثَمَّ فقد أصبحت له سيرة يُعرف بها بين الخطباء، ويُؤرَّخ لها عند أهل المنبر، ووصل إلى درجة بات يُحسب من طبقة الخطباء الكبار والمميَّزين أداءً وخطابًا.

وفي مجال الكتابة والتأليف، كانت للشيخ حسن كذلك سيرة مُبكِّرة ترجع إلى سنة 1974م، مع صدور باكورة تأليفاته كتابًا موسومًا بعنوان: (الصوم مدرسة الإيمان)، وكان عمره آنذاك ستة عشرة سنة تقريبًا. ثم توالت بعد ذلك هذه التأليفات وتواصلت ولم تتعثَّر أو تتوقَّف عامًا بعد عام، امتدَّت لأكثر من أربعين عامًا، أثمرت حصيلة كبيرة من التأليفات فاقت المائة كتاب، وضعت الشيخ حسن في عداد المؤلفين المعروفين بغزارة التأليف والإنتاج الفكري.

وتتأكَّد أهمية هذه الموازنة عند معرفة أن الطابع العام الغالب على الخطباء وأهل المنبر هو الاستغراق في الخطابة بعيدًا عن التأليف، أو ارتفاع وتيرة العناية بالخطابة وانخفاض وتيرة العناية بالتأليف، بشكل لا يُحقِّق توازنًا متعادلًا أو متقاربًا بين هذين المجالين. وأما عن جانب الكتابة والكتَّاب فإن الطابع العام الغالب عليهم -أيضًا- هو الاستغراق في الكتابة بعيدًا عن الخطابة، أو ارتفاع وتيرة العناية بالكتابة وانخفاض وتيرة العناية بالخطابة، قاصدين بها البيان الشفهي، بشكل لا يُحقِّق توازنًا متعادلًا أو متقاربًا بين هذين المجالين.

وقد استفاد الشيخ حسن كثيرًا من هذه الموازنة، فالخطابة وفَّرت له منبرًا حيويًّا ومؤثّرًا للتعبير عن أفكار ومواقفه، ووجد فيه أكبر فرصة أتاحت له إمكانية الإشهار والإعلان عن أفكاره ومواقفه. والكتابة وفَّرت له أفقًا حيويًّا لبلورة الأفكار والمواقف وتنضيجهما، ومثَّلت له زادًا معينًا لمنبر الخطابة، وأسهمت في دعم المحتوى وقوَّة المضمون، جعلت منه صاحب منبر مُتَّسم بأفقه الثقافي الإصلاحي والتنويري.

ثانيًا: الجمع بين التواصل الجماهيري والتواصل النخبوي، وهذه من الموازنات الدقيقة التي عُرف بها الشيخ حسن الصفار وطَبعت تجربته الفكرية والإصلاحية. فمن جهة تمكَّن الشيخ حسن من التواصل مع الوسط الجماهيري العام محقِّقًا نجاحًا واضحًا في هذا الشأن، متميّزًا بخطابه الجماهيري القريب إلى أذهان الناس على تعدُّد فئاتهم الاجتماعية، وتمكَّن من جهة أخرى من التواصل مع الوسط النخبوي محقِّقًا كذلك نجاحًا واضحًا في هذا الشأن.

وقد حافظ الشيخ حسن على هذا التواصل المزدوج بطريقة فعَّالة وحيوية، فتواصله مع الوسط العام بقي متواصلًا ومحافظًا على فعاليته ولم ينقطع أو يتوقَّف، ولم يبرد أو يفتر، ولم يكن مؤقَّتًا بوقت ولا محدَّدًا بزمن. وكان راغبًا بقوة في هذا التواصل، ومندفعًا إليه، ومتمسِّكًا به، مؤكِّدًا بصورة مستمرَّة على أهميته الفائقة. وهكذا في تواصله مع الوسط النخبوي من أهل العلم والفكر والثقافة والأدب والإعلام والسياسة وغيرهم، فقد بقي الشيخ محافظًا على التواصل مع هؤلاء بلا توقُّف أو انقطاع. فلا التواصل الحيوي مع الوسط العام منعه أو حجبه من التواصل مع الوسط النخبوي، ولا التواصل الحيوي مع النخب منعه أو حجبه من التواصل مع الجمهور العام.

وتتأكد أهمية هذه الموازنة كذلك، عند معرفة حالة الانقسام أو التباعد في الجمع بين هذين النمطين من التواصل عند البعض، فهناك من يرغب أو يُفضِّل أو لا يُحسن إلَّا التواصل مع الجمهور العام، ويكون منقطعًا أو باردًا أو سلبيًّا في جهة التواصل مع النخب على أقسامها، في المقابل هناك من يرغب أو يُفضِّل أو لا يُحسن إلَّا التواصل مع النخب على أقسامها، ويكون منقطعًا أو باردًا أو سلبيًّا في جهة التواصل مع الجمهور العام.

وهذه الموازنة -أيضًا- أفادت كثيرًا الشيخ حسن، فتواصله الفعّال مع الجمهور العام عزَّز من موقعيته الاعتبارية مع النخب، الذين تعاملوا معه بوصفه صاحب رصيد جماهيري كبير، كما وجدوا فيه صاحب خطاب جماهيري يفتقدون إليه ويُدركون أهميته وفاعليته. وتواصله مع النخب استفاد منه في تحصيل مشورتهم بما يُعزِّز خطابه الفكري التواصلي مع الجمهور العام.

ثالثًا: الجمع بين فعل الحركة وفعل الثقافة والإنتاج الثقافي، وهذه من الموازنات الصعبة والدقيقة التي عُرف بها كذلك الشيخ حسن الصفار وطبعت تجربته الفكرية والإصلاحية. فمن جهة عُرف الشيخ حسن بفعل الحركة متمثِّلًا في النشاط المستمر والدؤوب الذي لا يهدأ ولا يتوقَّف، ولم يكن في قاموسه مكان لشيء اسمه التعب أو الكسل أو الخمول، كان وما زال على هذه الحال منذ أن سلك هذا الدرب، وهذا ما يعرفه عنه كل من عاصره وعايش تجربته. كما عُرف من جهة أخرى ليس بالإنتاج الثقافي فحسب، وإنما بغزارة الإنتاج الثقافي على مستوى النشر والتأليف. فعامل الحركة بالنسبة إليه لم يكن عائقًا أو مانعًا أو مُعطِّلًا لناحية العناية بالإنتاج الثقافي، كما أن الالتفات إلى الإنتاج الثقافي والعناية به لم يكن عائقًا أو مانعًا أو مُعطِّلًا لناحية العناية بفعل الحركة.

أمام هذه الموازنة تفارقت سيرة الكثيرين من المصلحين في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، بين من غلّب فعل الحركة في سيرته الإصلاحية وعرف بهذا الفعل نشاطًا وسلوكًا، مُتفوِّقًا على فعل الإنتاج الثقافي الذي شهد تقلُّصًا أو تراجعًا أو غيابًا في سيرة هؤلاء، ويبرز من هؤلاء ويتقدَّم في الأزمنة الحديثة السيد جمال الدين الأفغاني الذي وسم حركته الإصلاحية بفعل الحركة، مُتفوِّقًا بهذه السّمة على الكثيرين من المصلحين في عصره وما بعد عصره.

وبين من غلّب فعل الإنتاج الثقافي في سيرته الإصلاحية وعرف بهذا الفعل نشاطًا وسلوكًا، مُتفوِّقًا على فعل الحركة الذي شهد تقلُّصًا أو تراجعًا أو غيابًا في سيرة هؤلاء، ويبرز من هؤلاء ويتقدَّم في الأزمنة المعاصرة الشيخ محمد جواد مغنية في لبنان الذي وسم حركته الإصلاحية بفعل الإنتاج الثقافي الواسع والغزير، مُتفوِّقًا بهذه السّمة على كثير من المصلحين في عصره وما بعد عصره.

رابعًا: الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد عُرف الشيخ حسن الصفار بهذه الموازنة الفكرية الدقيقة وطبعت تجربته الفكرية الإصلاحية، فمن جهة نرى الأصالة متجلِّية بقوة في كتاباته وتأليفاته وأحاديثه، قاصدين بالأصالة العودة والاستلهام من المصادر الإسلامية الرئيسة والفرعية، الكتاب والسنة (سنة النبي وأئمة أهل البيت عليهم السلام جميعًا)، والتراث الإسلامي (تاريخًا وفكرًا ومعرفةً). ومن جهة أخرى نرى المعاصرة متجلِّية بقوة كذلك في كتاباته وتأليفاته وأحاديثه، قاصدين بالمعاصرة الانفتاح على التراث الإنساني وعلى المعارف الحديثه.

في هذه الموازنة نجد الشيخ حسن يذهب بعيدًا في أصالته لكنه لا يغفل أبدًا عن معاصرته، ونجده -أيضًا- يذهب بعيدًا في معاصرته لكنه لا يغفل أبدًا عن أصالته، في دلالة منه على وعي شديد بهذه الموازنة. كما أن التمسك بالأصالة لم تمنع الشيخ حسن من توجيه النقد إلى بعض الظواهر وبعض الممارسات في ساحة الاجتماع الديني.

وتتأكد أهمية هذه الموازنة عند ملاحظة ما نراه من اختلالات حادثة ظهرت في ساحة الفكر الديني، خصوصًا في هذه الأزمنة المعاصرة، فهناك من تغلَّبت معاصرته على أصالته، وهناك من تخفَّفت أصالته بسبب معاصرته، وهناك من قادته معاصرته إلى التخلِّي عن أصالته، إلى جانب من دفعت به معاصرته إلى الانقلاب على أصالته مندفعًا إلى نقدها والتهجُّم عليها، وهكذا تتعدُّد الظواهر والحالات كاشفة عن اختلال هذه الموازنة بين الأصالة والمعاصرة.

خامسًا: الجمع بين الهمّ الوطني والهمّ الإسلامي العام، وقد عُرف الشيخ حسن الصفار بهذه الموازنة كذلك وطبعت تجربته الفكرية والإصلاحية، فمن جهة نلحظ الهم الوطني حاضرًا في كتاباته وتأليفاته وأحاديثه ومتجلِّيًا، ومن جهة أخرى نلحظ الهم الإسلامي العام حاضرًا -أيضًا- في كتاباته وتأليفاته وأحاديثه ومتجلِّيًا. فلا الهم الوطني صرفه عن الالتفات إلى الهم الإسلامي العام، ولا الهم الإسلامي أخذه بعيدًا من الاقتراب إلى الهم الوطني.

وكان من ثمرة الهمّ الوطني أن قاده لأن يسجل حضورًا مشهودًا في المجال الوطني، والهمّ الإسلامي قاده لأن يسجل حضورًا مشهودًا في المجال الإسلامي العام. وفي المنظور الإسلامي فإن الرابطة الوطنية على مستوى الأوطان لا تتعارض أو تتصادم مع الرابطة الإسلامية على مستوى جماعات المسلمين.

هذه لعلها من أبرز الموازنات التي عرف بها الشيخ حسن الصفار، وطبعت تجربته الفكرية والإصلاحية.

 

كاتب وباحث سعودي «القطيف» رئيس تحرير مجلة الكلمة.