أيام ومشاهد «جداوية»

جريدة عكاظ أ. نجيب الخنيزي
نجيب الخنيزي

كان من ضمن الوفد المشارك في حفل تكريم سماحة الشيخ باثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة من المنطقة الشرقية الأستاذ نجيب الخنيزي الكاتب والناشط السياسي المعروف، وقد كتب حول الرحلة إلى جدة وحفل التكريم عدة حلقات في جريدة عكاظ، وهذه أولى حلقاته...

في الأسبوع المنصرم أمضيت أياما معدودة لكنها حافلة وغنية بالنسبة لي في مدينة جدة أو «عروس البحر الأحمر» وفقا لوصف محبيها وعشاقها وأنا ازعم إني أصبحت منهم، مع أني لاحظت علائم الشيب يغزو شعرها ومظاهر الهرم تعلو جسدها من ناحية الشكل والمظهر وليس المضمون والجوهر ، كنت اتساءل لماذا تهرم وتهزم المدن العربية؟ نفس الإحساس خامرني أثناء زيارتي الأخيرة لمدينة بيروت (قبل أن تتعطل حركتي) منذ سنوات .

عموما أنا مفتون إلى حد العشق والهيام بالمدن القديمة العريقة التي تحمل عبق وعمق الأصالة (تراث وثقافة وأحياء شعبية وفلكلور وطرق وزوايا) حضارية والتي تزهو بها مدينة جدة (ومنطقة الحجاز) مما يجعلها في مصاف المدن العربية (المشرقية ) القديمة والعريقة كقاهرة المعز ودمشق الأمويين وبغداد الرشيد، وقبل كل شيء فان أصالة وعراقة وحيوية وحداثة جدة (المدينة التي لا تنام) مستمدة من أصالة وحيوية أهلها وساكنيها الطيبين وقدرتهم المدهشة على التكيف والمواءمة الخلاقة بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، المحلي والوافد، الخاص والعام على الرغم من كل المعيقات الطارئة المحبطة. ومع أني زرت مدينة جدة سابقا لمرات عديدة وفي مناسبات مختلفة، وكنت دائما أتلمس فيها حميمية وألفة المكان غير أنني أجد نفسي دائما في حاجة إلى زيارات أخرى لعلي استطيع أن أحيط بكل خزينها النفيس والمكتنز، وهنا عندما اذكر مدينة جدة لا أنسى أنها بوابة الحجاز المسكون بالدفء الروحي والأسرار والأوهام والشعر والصخب الهادئ .

مناسبة زيارتي إلى جدة هي دعوة كريمة من رجل فاضل مسكون بحب هذا الوطن وأهله، موظِّفا جزءا مهما من وقته وماله (وهذا شيء نادر في هذه الأيام) في خدمة الثقافة والفكر والأ دب ليس في بلادنا فقط وإنما على صعيد الوطن العربي كله وهو رجل الأعمال والمثقف الأستاذ عبد المقصود بن محمد سعيد خوجة وذلك لحضور فعاليتين مهمتين الأولى هي جدة المدينة التي لا تنام مستمدة
من أصالة أهلها وساكنيها الطيبين مناسبة تكريم الأديب والمؤرخ والباحث المرحوم الأستاذ محمد سعيد خوجة والذي نظمته جامعة أم القرى في مكة المكرمة وحضرها جمع غفير من أساتذة الجامعة والمثقفين والأدباء من مختلف مناطق المملكة،

والمعروف بان الأديب الراحل يعتبر من الرعيل الأول من أدباء مكة والمملكة وله عدة أبحاث وإصدارات من أهمها الكتاب الشهير «وحي الصحراء» الذي أصدره بالاشتراك مع الأديب الراحل عبدالله عمر بلخير، وكذلك بحثه «الأدب الحجازي والتاريخ «كما رأس إدارة تحرير جريدة أم القرى، ومع أن الأديب الراحل عاش حياة قصيرة (1324 – 1360هـ) غير أنها كانت حافلة وغنية بانجازاته وإسهاماته الثقافية والأدبية والاجتماعية المميزة، وكانت بادرة طيبة من جامعة أم القرى لتكريمها ابن مكة والوطن البار وهي مناسبة للتذكير بان للأدباء والمفكرين والمثقفين ولكل المبرزين في مجالاتهم حقاً في أعناق الوطن وينبغي تكريمهم والاحتفاء (الأحياء منهم قبل الأموات) بهم لأنهم يمثلون ضميره ووجدانه ومستودع آماله وأحلامه.

المناسبة الثانية التي دعيت إليها تمثلت في أمسية ثقافية في غاية الأهمية استضافتها اثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجة المشهورة والغنية عن التعريف والتي تعتبر بحق رائدة على صعيد المنتديات والصالونات الأدبية والثقافية في المملكة من خلال استضافتها العديد من رجال الفكر والثقافة والأدب والسياسة والمجتمع في داخل المملكة وعلى صعيد الوطن العربي وذلك على امتداد عمرها (25سنة )المديد الحافل بالعطاء المتواصل، حيث أصبحت الاثنينية بحق إحدى العلامات الحضارية المميزة لمدينة جدة،

والأمسية التي اعنيها (سأتحدث عنها لاحقا)هي المحاضرة القيمة التي ألقاها الشخصية الدينية والفكرية والاجتماعية البارزة الشيخ حسن الصفار والتي محورها «حوار المذاهب» والمعروف بان الشيخ حسن الصفار هو احد رموز الفكر الديني المستنير والمنفتح في بلادنا والمنطقة العربية ليس على صعيد المذهب (الشيعي) الذي ينتمي إليه فقط وإنما على صعيد الفكر الإسلامي بوجه عام حيث يتمتع بميزة الانفتاح والتفاعل والتعاطي الايجابي مع مختلف التيارات والأطياف الثقافية والفكرية وهو ما نحن بأمس الحاجة إليه فتكريس تعددية قرارات الواقع واحترام الآراء والاجتهادات المختلفة والقبول بالآخر المختلف هو ضرورة الحاضر فالحقيقة (البشرية) تظل نسبية وتستطيع تلمسها بدرجات متفاوتة في مختلف التيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والدينية والمذهبية وبالتالي فان علاقة الخاص (الهويات الفرعية الخاصة) بالعام (الهوية الجمعية والثقافية والوطنية المشتركة) هي (أو ينبغي أن تكون) علاقة تفاعل جدلي . فالعام وعلى الدوام يتجلى من خلال الخاص والعكس فان الخاص هو احد مكونات العام، هذه العلاقة الصحية والصحيحة هي مصدر قوة وغنى وثراء لا ينضب، وتظل في الذاكرة والوجدان، حفل الغداء الذي أقامه معالي وزير الإعلام السابق الدكتور محمد عبده يماني الذي سعدت بحضوره مع رفقة طيبة ضمن رجالات الدولة والأدب والفكر والإعلام والمجتمع وقبل كل شيء فان ما شدني هو طبيعة ومستوى النقاش والحوار الحضاري الراقي الذي جرى مع النخبة المثقفة في جدة والحجاز ولا اغفل هنا بطبيعة الحال حرارة الاستقبال وحسن الضيافة ودفء المشاعر التي جعلتني والمجموعة القادمة من المنطقة الشرقية نشعر إننا بين أهلنا ومع أصدقاء ومحبين ومهما باعدت بيننا المسافات أو تباينت الآراء والمرجعيات فان هناك قواسم وتطلعات متشابهة تصب أو تطمح أن تكون في خدمة وطننا الغالي .

البعض ممن التقيتهم هم أصدقاء أعزاء اعرفهم منذ زمن وجمعتني معهم ذكريات ورؤى وأحلام وآمال مشتركة، والبعض الآخر ممن سعدت بالتعرف عليهم لمست وشعرت إنهم لا يقلون عن ما ذكرت من حيث المشاعر النبيلة المسكونة بحب وعشق هذا الوطن وإنسان هذه الأرض الطيبة والتطلع إلى أن يكون أجمل وأبهى، الهاجس والقاسم المشترك الأعظم في كل النقاش والحوار الذي جرى هو السعي لتوسيع مجال النقاش المعرفي ورفع سقف حرية الفكر والرأي والتعبير بما يخدم ترسيخ وصيانة الوحدة الوطنية ورفعة وتقدم وازدهار المجتمع وتحصينه إزاء كافة التحديات الداخلية والخارجية في الآن معاً... وللحديث صلة.

عكاظ:18/4/1427هـ