الإمام شرف الدين وثقافة التسامح

مكتب الشيخ حسن الصفار

البحث الذي قدمه سماحة الشيخ الصفار ضمن المحور الثاني الذي كان تحت عنوان (الحوار كمنهج للتعامل مع الاختلاف) في المؤتمر العالمي المنعقد في بيروت حول شخصية الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين...

بعد خمسين عاماً من رحيل الإمام شرف الدين، لا زالت شخصيته حاضرة في وعي الأمة ووجدان أبنائها المخلصين، ولا زالت آراؤه ومواقفه مصدر إلهام ودافع انطلاق في ساحة الإصلاح الديني، والتغيير الاجتماعي.

ذلك لأن شخصيته العظيمة ارتبطت في تاريخ الأمة المعاصر برسالة هامة، وقضية خطيرة، لا زالت تفرض نفسها على الواقع الديني والسياسي للأمة، هي قضية العلاقة بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، وخاصة بين السنة والشيعة.

هذه العلاقة المرتبكة المضطربة في أكثر فصول التاريخ، ولا زالت حتى اللحظة الراهنة مصدر بلاء وشقاء للأمة، بما تفرزه من حالات خصام واحتراب، تستنزف الجهود والطاقات، وتمزق وحدة المجتمعات والأوطان، وتعطي الفرصة للنفوذ الأجنبي.

لقد أدرك الإمام شرف الدين خطورة هذه القضية، ورأى قلة المبادرين للاهتمام بها من علماء الأمة، فتصدى لتحمل المسؤولية، وأمسك بهذا الملف الشائك، مستنفراً كل قدراته العلمية والأدبية، موظفاً مكانته الاجتماعية المرموقة، مسخراً حركته ونشاطه العملي، من أجل نزع فتيل النزاع والصراع المذهبي، وتصحيح مسار العلاقة بين طوائف الأمة.

يقول رحمه الله في مقدمة كتابه (الفصول المهمة في تأليف الأمة): (لا تتسق أمور العمران، ولا تستتب أسباب الارتقاء، ولا تنبت روح المدنية، ولا تبزغ شموس الدعة من أبراج السعادة، ولا نرفع عن أعناقنا نير العبودية بيد الحرية، إلا باتفاق الكلمة، واجتماع الأفئدة، وترادف القلوب، واتحاد العزائم، والاجتماع على النهضة بنواميس الأمة، ورفع كيان الملة... أما إذا كانت الأمة أوزاعاً متباينة، وشيعاً متباغضة، لاهية بعبثها، غافلة عن رقيها، لتكونن حيث منابت الشيح، ومهافي الريح، أذل الأمم دارا، واجدبها قرارا... فحذار حذار من بقاء الفرقة، وتشتت الألفة، واختلاف الكلمة، وتنافر الأفئدة) انتهى كلامه رحمه الله.

وإذا كان النزاع والاحتراب الداخلي بين أبناء الأمة سيئاً ومقيتاً تحت أي عنوان حصل، فإن الأشد سوءاً ومقتاً ما كان منه بعنوان ديني، ومن منطلق خلاف مذهبي.
ذلك أن الدافع الديني يشكل قوة هائلة في أعماق نفس الإنسان المسلم، فإذا وظفت هذه القوة في اتجاه الخصام والنزاع الداخلي، فإنها تنتج أسوأ الصراعات، وأفظع حالات العنف والتدمير.

كما أن الاحتراب بين أهل الدين باسم الدين، وممارسة العنف المتبادل تحت ظل شعاراته وراياته، يقدم صورة شوهاء عن الدين أمام الرأي العام العالمي، ويُحدث ردة فعل خطيرة في أوساط أبناء الأمة وأجيالها الصاعدة.

وقد شهدت الساحة الإسلامية في السنوات الأخيرة تصعيداً خطيراً على مستوى العنف الطائفي، في أكثر من بلد إسلامي كباكستان وأفغانستان والعراق.
إن هذا التصعيد الطائفي الخطير، الذي يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة كلها، وينذر بتمزيق أوصال الأمة من جديد، لم يحدث من فراغ، ولم يحصل فجأة دون مقدمات، بل انبثق من أرضية خطاب مذهبي متطرف، واستند إلى ثقافة طائفية تحريضية شارك في صناعتها مختلف الأطراف، بنسب متفاوتة.

لقد أعادت سنوات الحرب العراقية الإيرانية إنتاج ثقافة التحريض على الكراهية بين السنة والشيعة، بعد أن كادت الأمة أن تتجاوز هذه العصبية البغيضة، بفعل جهود العلماء المصلحين من دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان للإمام شرف الدين موقع الصدارة من هذه الجهود، وبفضل عامل آخر هو انشغال العالم الإسلامي بمواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي.

في سنوات الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988م) تبلور خطاب التطرف المذهبي، وضخّت في ساحة الأمة ثقافة طائفية مرعبة، حيث كان طلاب الجامعات الإسلامية في بعض دول المنطقة يتبارون في كتابة البحوث ذات الإثارة الطائفية، ليكسبوا بها ودّ أساتذتهم وعمادات كلياتهم، والجهات السياسية من ورائهم، ولينالوا عبرها الدرجات العلمية بيسر وسهولة.

وطبعت آلاف الكتب، وملايين التسجيلات الصوتية، وصدرت مختلف الفتاوى، واستخدمت بعض منابر الجمعة ووسائل الإعلام، في مجال التعبئة والتحريض الطائفي، وكان بعض أئمة الجمعة يدعو في ختام خطبته بالهلاك على أبناء الطائفة الإسلامية الأخرى إلى جانب دعائه على الكفار والمشركين.

لكن احتلال صدام للكويت، وتهديده لدول المنطقة، وما أعقب ذلك من تحرير الكويت بقيادة قوات التحالف، قلب الأوضاع والمعادلات رأساً على عقب، وترتب على ذلك تجميد مفاعيل الشحن الطائفي، دون إلغائها والتخلص منها، فقد تحسنت العلاقات بين دول المنطقة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهدأت أصوات المعارضة الشيعية في أكثر من بلد خليجي على إثر حوارات وانفراجات بينها وبين الأنظمة الحاكمة.

وانحسر خطاب التحريض الطائفي إلى حد كبير، عدا بعض الإثارات الجانبية والأصوات الشاذة من أوساط متشددة في هذا الطرف أو ذاك. وانتعشت آمال المصلحين ودعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية، لدفع ساحة الأمة نحو الوحدة والوئام، ومواجهة تحديات التنمية والعولمة، وتجاوز الانشغال بالخلافات المذهبية التي أكل عليها الدهر وشرب.

حتى جاء الاحتلال الأمريكي للعراق ضمن مشروع الهيمنة على المنطقة، وإعادة تشكيل الأوضاع السياسية فيها، وتفجرت آثار السياسة الطائفية القمعية للنظام العراقي الزائل، فانزلقت الساحة العراقية نحو صراع واقتتال طائفي، فتح الباب من جديد أمام خطاب التحريض والتعبئة الطائفية في المنطقة كلها.

ويبدو أن الأمر حالياً أكثر خطورة من الماضي، حيث تتكئ مختلف الأطراف على تجربة سابقة في إدارة الصراع، وتمتلك مخزوناً من ثقافة التعبئة والتحريض، وموازين القوة طرأ عليها شيء من التعديل والتغيير يمنح كل جهة قدرة أكبر على المواجهة والصمود، والأخطر من كل ذلك دخول عنصر العنف والإرهاب في معادلة الصراع الطائفي، ووجود إرادات سياسية دولية وإقليمية لاستثماره في خدمة أغراضها وتوجهاتها.

وهنا يأتي دور الخطاب الديني في الدائرة المذهبية، فهو الذي يمكن أن يلعب دور الصاعق في تفجير الصراع الطائفي، حين يأخذ منحى التعبئة والتحريض، كما يستطيع أن يقوم بدور صمام الأمان ودرع الوقاية حين يبشّر بقيم الوحدة والتسامح، ويذكر الأمة بقضاياها الكبرى.

وهذا هو المفصل الحساس الذي أمسك به الإمام شرف الدين، حيث وجه الأنظار إلى أهمية ترشيد الخطاب المذهبي، وتخليصه من شوائب العصبية والانفعالية، ليرتقي بوعي الجمهور إلى أفق الانفتاح، والقبول بالتعددية المذهبية، والقراءة الموضوعية للآخر، واحترام حرية الرأي، والالتزام بحقوق الإنسان وحقوق الأخوة الإسلامية.

إن الجهات المنتجة للخطاب الديني من فقهاء وعلماء وخطباء ضمن مختلف المذاهب، هي التي تتحمل بشكل رئيس مسؤولية واقع العلاقات المذهبية بين أبناء الأمة. باعتبارها مصدر الفتوى والتوجيه للجمهور.

صحيح أن هناك عاملاً سياسياً من الداخل والخارج يفرض تأثيره، لكن توظيف هذا العامل السياسي للحسّ المذهبي، رهن بمدى استجابة الخطاب الديني ونوعية اهتماماته وتوجهاته.

ويمكننا أن نرصد ثلاثة اتجاهات لمواقف الجهات الدينية من إشكالية العلاقات المذهبية:

الاتجاه الأول: يتبنى موقف التشدد والتعبئة ضد الآخر المذهبي، حيث يرى نفسه مالكاً ناصية الحق والحقيقة، وأن الآخر خال منها وبعيد عنها، وأنه مكلف شرعاً بمواجهة الآخرين الحائدين عن الدين، المبتدعين فيه.
إن بعض هؤلاء المتشددين ينطلقون من فهم خاطئ لبعض النصوص والمفاهيم الدينية، ومن قراءة تعسفية للآخر المخالف.
وبعضهم ينطلق من موقع ردة الفعل لما يعتبره اعتداءً وإساءة من الآخر تجاه رموزه أو مصالح طائفته.

وقد يتحرك البعض في اتجاه التشدد المذهبي بغرض كسب الجمهور حيث يأخذ دور الدفاع عن العقيدة والمذهب، وحماية مصالح الطائفة.
ويتمظهر التشدد الطائفي عند السنة والشيعة في خطاب التعبئة ضد الآخر المذهبي، وتفنيد مقولاته وآرائه بأسلوب الإثارة والتهريج، وإلصاق مختلف التهم به، والنيل من رموزه ومقدساته.

وفي التركيز على مواقع الخلاف معه عقدياً وفقهياً وثقافياً، وتضخيم جزيئات ذلك الاختلاف على حساب كليات الاتفاق والأصول المشتركة، حتى ليصبح المستحب الخاص مذهبياً أكثر أهمية من الواجب المتفق عليه إسلامياً.
وينشغل هؤلاء المتشددون بقضايا الخلاف المذهبي، ويشغلون الساحة معهم، على حساب قضايا الأمة المصيرية، والتحديات الكبيرة التي تواجهها، ويصبح الأعداء المذهبيون في نظرهم أخطر من أعداء الدين والأمة.

وقد تصدى الإمام شرف الدين لمواجهة تيار التشدد والتعصب المذهبي، فألف كتابه القيم (الفصول المهمة في تأليف الأمة) ورسالته في (أجوبة موسى جار الله) هذان الكتابان اللذان اعتبرهما الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله نموذجاً ريادياً لما أطلق عليه (فقه الوفاق) يقول شمس الدين:

(كرس الإمام شرف الدين قسطاً كبيراً من جهده العلمي لتأصيل هذا الفرع الفقهي الهام في الفقه السياسي الإسلامي، وهو ما سميناه فقه الوفاق.

إن هدف فقه الوفاق ليس إثبات صحة الموقف الكلامي لهذه المدرسة الكلامية التي ينتمي إليها مذهب الفقيه، وليس المقارنة بين موقف هذه المدرسة من مسألة كذا ومقارنته بموقف المدارس الأخرى، والوقوف عند المقارنة، أو تعديه إلى التصحيح والإبطال.

بل هدف فقه الوفاق هو إثبات عدم الملازمة بين الاختلاف في المسائل الكلامية ذات العلاقة بالأصول، وبين التكفير والقطيعة السياسية، وتجزئة الأمة الواحدة إلى شيع مختلفة.
لقد كشف الإمام شرف الدين عن أن هذه الخلافات في الإمامة والخلافة، وحول الصحابة وسنة الصحابي، وغير ذلك مما يتصل بالأصول، وكذلك الخلاف في الفروع الفقهية، لا تخرج المسلم المخالف عن كونه مسلماً يجب أن يكون كامل الحرمة، وكامل الإسلام عند المسلم الآخر، انطلاقاً من أصول عقدية كبرى في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة المسلمة.

لقد كان وعي الإمام شرف الدين لهذه القضية من جانبها العلمي الديني، ومن جانبها السياسي العملي، هو الحافز له على أن يبحث في (فقه الوفاق) الذي يكشف عن أن مسلمات الإسلام تلحظ التنوع في داخل الوحدة، ولا تعتبر التنوعات انشقاقاً وتفرقاً، بل تعتبر الانشقاق والتفرق جريمة في حق الأمة، وجريمة في حق الدين)( ).

وفي جميع بحوثه المعنية بهذا الموضوع يؤكد الإمام شرف الدين على ضرورة القراءة الموضوعية للآخر، لمعرفة وجهة نظره على حقيقتها، ولفهم أدلته وبراهينه عليها، مما يقطع الطريق على الشائعات والاتهامات والنقولات المغرضة، ويعيد الاختلاف إلى إطاره العلمي.
يقول رحمه الله في مقدمة (المراجعات):
(ولو أن كلاً من الطائفتين نظرت في بينات الأخرى نظر المتفاهم لا نظر الساخط المخاصم، لحصحص الحق، وظهر الصبح لذي عينين).

وقد وجه رسالة (إلى المجمع العلمي العربي بدمشق) طبعت في كتاب مستقل، عتاباً على مجلة المجمع التي تحدثت على الشيعة وبعض آرائهم، بطريقة استفزازية تشويهية، مطالباً لهم بالرجوع إلى مصادر الشيعة وعلمائهم عند الحديث عن آرائهم العقدية والفقهية، وليس الاعتماد على مصادر الخصوم ونقولات المستشرقين.

الاتجاه الثاني: يأخذ موقف الحياد تجاه الصراعات المذهبية ومراقبة ما يجري، إما لعدم امتلاكه رؤية معينة، أو لعدم ارتباطه بجهة معنية، أو لخشيته على نفسه ومصالحة من مضاعفات الاقتراب من هذه القضايا.
موقف الحياد هذا يعني الهروب من تحمل المسؤولية وتجاهل الأخطار التي تحيط بالإسلام والأمة. كما أن هذا الموقف يصب أخيراً في مصلحة خط التشدد الطائفي بما ينطوي عليه من إقرار ضمني.

الاتجاه الثالث: هو الدعوة إلى الانفتاح والحوار بين المذاهب الإسلامية، والتبشير بقيم الوحدة والتعاون في خدمة الإسلام والأمة، ومواجهة الأخطار المحدقة.
ويحتل الإمام شرف الدين دوراً ريادياً في طليعة هذا الاتجاه، بما أنجز من دراسات وبحوث تأصيلية، تؤكد العمق العلمي الشرعي لهذا المسار، وتتجاوز به إطار الشعار والاستجابة لدواعي الظروف السياسية.

إن علماء آخرين قد بذلوا جهوداً كبيرة على صعيد التقريب بين المذاهب الإسلامية، لكن الجهد التنظيري التأصيلي الذي قام به الإمام شرف الدين، يعتبر جهداً مميزاً.
لقد استخدم أدوات الاجتهاد الفقهي ببراعة فائقة ليقرر الرؤية الدينية و الحكم الشرعي، للقبول بواقع التعددية المذهبية، وأن واجب الوحدة ولم شعث المسلمين، لا يعني قسر أي طرف على التخلي عن قناعاته التي قاده الدليل إليها، (فذلك تكليف بغير المقدور) على حد تعبيره، إن فتح باب الاجتهاد ومشروعية النظر في الأدلة والبراهين، يعني الالتزام بنتائجه، وكما قال رحمه الله في المراجعة الرابعة من مراجعاته: (لم شعث المسلمين ليس موقوفاً على عدول الشيعة عن مذهبهم، ولا على عدول السنة عن مذهبهم).
إن تعدد المذاهب من سنة وشيعة واقع قائم يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، والمراهنة على الإلغاء والتجاهل مراهنة فاشلة، تقود إلى تجاوز الحدود الشرعية، وانتهاك الحقوق والحرمات، وتبقى الأمة أسيرة لحال الصراع والنزاع، والطريق الصحيح هو الاعتراف والاحترام المتبادل.

يقول رحمه الله في المراجعة الرابعة: (نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت، واعتباركم إياه كأحد مذاهبكم، حتى يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية إلى شيعة آل محمد ص كنظر بعضهم إلى بعض، وبهذا يجتمع شمل المسلمين، وينتظم عقد اجتماعهم).

كما قدم الإمام شرف الدين نموذجاً رائعاً للحوار المذهبي من خلال مراجعاته حول أساس موضوع الخلاف بين السنة والشيعة وهو موضوع الإمامة، حيث عرض الموقف الشيعي بدقة ووضوح،وقدم الأدلة والبراهين عليه من النصوص الشرعية الثابتة السند، مع التزام أدب الحوار، واحترام الطرف الآخر، بالتماس الأعذار له، وعدم التشكيك في نواياه، يقول رحمه الله: (إن تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة، لم يكن لتحزب أو تعصب، ولا للريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملا. لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة... ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من آل محمد، أو تمكنا من تحصيل نية القربة لله سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم، لقصصنا أثر الجمهور، وقفونا إثرهم، تأكيداً لعقد الولاء، وتوثيقاً لعرى الإخاء).

ومع تمسكه بثبوت النص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، بعد رسول الله ص، وعرضه للعشرات من الأحاديث النبوية التي أثبت صحة إسنادها عند السنة والشيعة، كما أثبت دلالتها على ذلك، إلا أنه يرفض الإساءة إلى الخلفاء الثلاثة الذين تبوأوا موقع الخلافة بعد رسول الله ص، بل يلتمس لهم التبرير والعذر، بأنهم كانوا يرون أن موضوع السلطة والحكم ليس شأناً دينياً يُتعبد فيه بقول رسول الله ص، وإنما هو شأن دنيوي تدبيري، يصح لهم أن يجتهدوا فيه برأيهم وأن يختاروا ما يجدون فيه حفظاً للمصلحة العامة، كما ذكر ذلك بالشواهد المفصلة في المراجعة رقم 84 و 85.

بل إنه وبموضوعية مثالية و أخلاقيه رائعة يلتمس العذر حتى للمسيئين لأهل مذهبه، باعتبارهم ضحايا التباس نقولات السابقين، يقول في الفصول المهمة: (وهناك أفاضل نحملهم على الصحة في سوء ظنهم بالشيعي، ونبزهم إياه بالرفض تارة، ونسبتهم الأباطيل إليه، حيث أنسوا بناحية من تقدمهم ممن رأوه ينبز الشيعة ويلمزهم فنحوا نحوه، وتلوا في ذلك تلوه، إخلاداً إليه بثقتهم، واعتماداً عليه في كل ما يقول). الفصول المهمة ص 164 الطبعة الخامسة/ دار النعمان/ النجف.
ويؤكد الإمام شرف الدين على جامعية الإسلام لكل أبنائه على اختلاف مذاهبهم العقدية والفقهية، رافضاً تكفير أحد من أهل القبلة، ممن نطق بالشهادتين وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وأقر بفرائض الإسلام وأركانه، مؤصلاً ذلك بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة وآراء فقهاء الأمة.
وأن من قال (لا إله إلا الله محمد رسول الله) محترم دمه وماله وعرضه، مسجلاً لطائفة من الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة الحاكمة بنجاة مطلق الموحدين، ليعلم حكمها بالجنة على كل من الشيعة والسنة، مفرداً فصلاً مستقلاً لتقرير رأي الشيعة (في الحكم بإسلام أهل السنة وأنهم كالشيعة في كل أثر يترتب على مطلق المسلمين) مستشهداً لذلك بالنصوص الثابتة في مصادر الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

إن بحوث الإمام شرف الدين وآراءه القيمة تمثل مدرسة رائدة في ثقافة التسامح، وإرساء العلاقة الإيجابية بين أتباع المذاهب الإسلامية.
هذه الثقافة التي تشتد حاجتنا إليها خاصة في هذا الزمن الصعب، الذي تعالت فيه أصوات المتعصبين وأصبحت ساحة الأمة مسرحاً لقوى التطرف والإرهاب.