أسباب العداوات

لماذا يعادي الإنسان أخاه الإنسان؟ ولماذا يمارس العدوان ضده؟

إنها ظاهرة قديمة بدأت منذ الأيام الأولى لهبوط الإنسان على وجه الأرض، وضمن أول أسرة بشرية صغيرة لأبينا آدم حيث اشتعلت نار العداء والكراهية في نفس قابيل على أخيه هابيل، ودفعته إلى قتله وتصفية حياته!! ثم رافقت المجتمع الإنساني هذه الحالة المرضية طوال مسيرة حياته، فلا تخلو مسافة زمنية، ولا منطقة جغرافية، يعيش فيها بشر، من حالات العداء، وممارسات العدوان ..

وقد لاحظ العلماء أن الإنسان أكثر من سائر الحيوانات توحشاً وقسوة في عدائه الضمنوعي حيث لا يوجد عدوان يؤدي للقتل بين الحيوانات من نفس النوع، فالذئب لا يقتل ذئباً، والأسد لا يقتل أسداً، لكن الإنسان يتجرئ على قتل أخيه الإنسان!! بل إن معاناة الإنسان والآمه ومآسيه، التي تجرعها من أبناء نوعه وجنسه، هي أكبر بكثير مما لاقاه من كوارث الطبيعة، واعتداء سائر الحيوانات المفترسة ..

وخالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى حذره من مغبة هذه النزعة، منذ صدور القرار الإلهي بخروج آدم وحواء عليهما السلام من الجنة، وبدء حياتهما على سطح الأرض، يقول تعالى: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [1]  .

أما أسباب هذه الظاهرة، وتفسير هذه الحالة، فقد أصبحت ميداناً لبحوث العلماء، ومسرحاً لآرائهم المختلفة، ونظرياتهم المتعددة، ونشير إلى إبرز تلك النظريات والآراء.



نظريات بيولوجية :


هناك مدرسة علمية تحليلية، ترى أن ظاهرة العداوة والعدوان، تعود إلى سبب تكويني في خلقة الإنسان وجسمه، فهي حتمية بيولوجية. ومن أبرز أعلام هذه المدرسة سيزار لومبروزو
(1836- 1909م ) وهو إيطالي، اختصاصي بعلم الجريمة.

ينطلق أساس نظرية (لومبروزو) من الحتمية البيولوجية للعدوان، وربط هذه الحتمية بسببين:

السبب الأول: يعود إلى مرحلة سابقة في التطور، هي مرحلة الإنسان البدائي المتوحش، إذ يرجع إجرام الشخص إلى ارتداده الوراثي لهذه المرحلة.

والسبب الثاني: يرتبط بالإنحطاطية المرضية، التي تنشأ من مرض الصرع الذي ينتقل بالوراثة.

وبرر السبب الأول، من خلال الفحوصات التي أجراها على عدد كبير من جماجم المجرمين ورؤسهم، إذ وجد أن جمجمة المجرم تشبه في تركيبها التشريحي، ذلك التركيب التشريحي الذي تتميز به جمجمة الإنسان البدائي المتوحش. كما برر السبب الثاني، بتكرار السلوك الإجرامي لدى مرضى الصرع. ويرى أن المجرمين يتميزون بخصال تشريحية ونفسية لا تتبدى لدى غيرهم.

وضمن هذه المدرسة، تبنى آخرون نظرية المورّث الزائد، وتعتمد هذه النظرية على أن شذوذ الكرموزومات، وبالتحديد ذلك الشذوذ المتعلق بالمورّث الذكري الزائد (y) يؤدي إلى نتائج جسدية وعقلية خطيرة، وقد ساد الاعتقاد بأن المورّث (y) يسبب العدوان، نتيجة للملاحظات حول العلاقة بين الزيادة الشاذة لـهذا المورث لـدى البعض وتكرار السلوك العدواني لديهم.

وهناك دراسات وبحوث تربط بين العدوان وتخطيط المخ، وتشير إلى أن الأفراد الذين يعانون من انحرافات في مخططات أمخاخهم، يظهر عليهم العدوان، وتشير كذلك لوجود خلل عضوي يرافقه اختلال وظيفي .



نظريات سيكولوجية :


يرى بعض العلماء أن السلوك العدواني لدى الإنسان والكائنات الحية الأخرى، ينبعث من قوة داخلية تسمى الغريزة العدوانية. وينظّر لهذا الرأي (كونراد لورنز) - عالم نفس وحيوان، من النمسا ولد عام 1903م - في كتابه الشهير (في العدوان) الذي صدر عام 1963، مؤكداً غريزية العدوان، وأن هذه الغريزة تحتاج إلى تحرير أو افراغ بين فترة وأخرى، من أجل تخفيف الضغط الداخلي الذي تسببه على صاحبها، وسبب هذا الضغط هو تراكم الطاقة العدوانية، بعد إفراغها بوقت معين. فالسلوك العدواني يتوقف حدوثه على تراكم هذه الطاقة داخل المتعضية ( الكائن الحي ) من جهة، وعلى درجة فعالية منبهات العدوان الخارجية من جهة أخرى. وكلما زاد تراكم هذه الطاقة، عمل أضعف منبه خارجي للعدوان على إثارتها في شكل عدوان صريح. أما إذا مضى وقت كاف دون افراغ هذه الطاقة، فإن العدوان يحدث تلقائياً في غياب المنبه الخارجي.

ويرى (لورنز): أن جميع المحاولات للقضاء على العدوان ستكون فاشلة، وأن الإجراء الأكثر فاعلية للتخفيف من العدوان، هو تحرير الطاقة العدوانية، من خلال ممارسات يقرّها المجتمع، كالرياضة والمنافسات غير الضارة.

ولعل من أشهر نظريات المدرسة النفسية لتفسير السلوك العدواني، نظرية الإحباط -العدوان. إذ ينظر للعدوان باعتباره نتيجة للاحباط دائماً. فكلما حدث موقف محبط، ظهر العدوان كاستجابة لهذا الإحباط.

والإحباط: عملية تتضمن إدراك الفرد لعائق يعوق إشباع حاجة له، أو توقع حدوث هذا العائق في المستقبل.. وينتهي الإحباط في الكثير من الحالات إلى العدوان، ويظهر المصاب بالإحباط شديد التوتر ميالاً إلى اقتناص اية فرصة تتاح له، للخلاص من ضغط التوتر لديه. وقد يتجه العدوان نحو مصدر الإحباط، وقد يتجه نحو آخرين.



نظرية التعلم الاجتماعي:


وتعتمد هذه النظرية على المحيط الاجتماعي كأساس أو كأصل لنشوء حالة العداوة والعدوان، من خلال الملاحظة والمحاكاة.

ومن ابرز أعلام هذه النظرية (البورت بندورا) - ولد عام 1925م بكندا واختير رئيساً للجمعية النفسية الأمريكية 1973م وعمل مدرساً لمادتي علم نفس العدوان وتغيّر الشخصية -. وكان كتابه (العدوان: تحليل اجتماعي) محاولة للإجابة على سؤال: لماذا يعتدي البشر؟.

ويرى (بندورا) ان السلوك البشري يكتسب من خلال ملاحظة النماذج السلوكية، التي تحدث في البيئة الاجتماعية المحيطة بالفرد أو الجماعة.. فإذا انتبه الطفل الى نماذج عدوانية، خلال حياته العائلية، أو عبر مشاهدة أفلام عنف في التلفزيون مثلاً، فانه يقوم بتخزين هذه النماذج السلوكية، والاحتفاظ بها في الذاكرة، فإذا ما حصل تعزيز أوتشجيع، تحوّل ذلك إلى سلوك عدواني.

وعلى هذا الاساس، فالناس لا يولدون مزودين بغريزة للعدوان، بل انهم يتعلمونه مثل أي سلوك متعلّم آخر. فالأفراد الذين شاهدوا غيرهم يعتدي، تكون احتمالية اعتدائهم اكبر من أولئك الذين لم يشاهدوا النماذج العدوانية.

هذه بعض النظريات حول تفسير ظاهرة العداوة والعدوان في المجتمع البشري، وهناك نظريات اخرى عديدة، ضمن هذه التوجهات أو غيرها، وقد استعرض أكثرها وناقشها الباحث الأستاذ/ اسعد النمر في كتابه القيّم (في سيكولوجية العدوان) [2] ، والذي اعتمدناه مصدراً في الحديث عن تلك النظريات، وحول كل نظرية هناك نقاشات وردود وملاحظات، للمهتمين بدراسة هذا الموضوع، يمكن الرجوع اليها في المراجع المختصة.

وواضح انه لا يمكن القبول بالنظريات التي تعتبر العدوان حتمية بيولوجية، لأن ذلك يعني إنكار إرادة الإنسان واختياره، وبالتالي فانه لا يتحمل مسؤولية عمله ما دام مجبوراً عليه، فلا يستحق بذلك عقاباً أو جزاءا، كما لا جدوى اذاً من التصدي للسلوك العدواني، مما يعطي تبريراً ايديولوجياً لهذه الممارسات. كما ان العوامل النفسية تهيء الفرد وتجعله مستعداً للسلوك العداوني، دون ان تشكل حتمية تلغي ارادته واختياره.

ولسنا مضطرين لتفسير العدوان برؤية احادية، بل قد تتفاعل عوامل مختلفة لانبعاث حالة عدوانية، كما تتمايز حالات عن أخرى في جذورها واسبابها.



تضارب المصالح:


وإذا ما تجاوزنا الحديث عن النظريات التحليلية، وفتشنا عن الأسباب الميدانية المباشرة، التي تنجم منها حالات العداء والعدواة بين الناس لوجدنا أن في طليعتها: تضارب المصالح.

فلكل إنسان في هذه الحياة مصالحه وتطلعاته، التي تعبر عن احتياجاته ورغباته، فإذا ما حال أحد أو تصور انه يحول بينه وبين حاجة له أو رغبة عنده، فسيتخذ منه موقف العداء، ويواجهه بالعدوان.

واغلب الصراعات والنزاعات في عالم البشر، تحصل بسبب اصطدام المصالح، كالنزاع على السلطة والحكم، أو على الثروة والمال، أو على الامتيازات والمواقع.

ثم قد تحدث هذه النزاعات بين أفراد وقد تكون بين فئآت وجماعات، وبين دول وحكومات.

ان سعي الإنسان لتحقيق مصالحه، وإشباع حاجاته ورغباته، أمر مشروع، لكن ذلك يجب أن يكون ضمن حدود الاحترام لحقوق الآخرين، وحريتهم في السعي لخدمة مصالحهم، مما يستلزم وجود نظام وقانون عادل، ينظم سير الناس وتنافسهم في توفير شؤون حياتهم، ومتعلقات ميولهم ورغباتهم.

وغياب ذلك القانون، أو تحيزه لبعض دون آخر، أو عدم وضوحه، قد يكون مسبباً لحالات من التصادم والتضارب في المصالح.

وفي أحيان كثيرة تدفع الأطماع والرغبات اصحابها، الى تجاوز الحدود، وانتهاك حقوق الآخرين، وهم يعلمون ان ما يقدمون عليه مخالف للنظام والقانون، ومدان من قبل الضمير والوجدان، لكن الطمع والرغبة تقود الإنسان إلى الظلم والعدوان، ورد في الحديث عن رسول الله : «حبك للشيء يعمي ويصم» [3] .



عداوات الأقارب:


علاقة الإنسان مع أرحامه وأقربائه يفترض أن تكون وثيقة متينة، فهناك ارتباط وجودي تكويني تثبته الجينات والمورثات، والتي اصبح العلم يعتمدها للتأكد من الانتساب والانتماء العائلي، وبالتعبير الشعبي إنها علاقة لحم ودم. وايضاً فهي صحبة عمر حيث يبدأ الإنسان حياته في أحضان عائلته، ورعاية اسرته، ويبقى في ظل هذه العلاقة يلوذ بها وخاصة عند عواصف الزمن، وشدائد الحياة، وهناك الوشائج العاطفية، التي تشده الى أرحامه وأقربائه.

هذه العلاقة المتجذرة والعميقة، من المؤسف جداً ان تعصف بها في بعض الأحيان، رياح الأطماع وتضارب المصالح المادية الزائلة، فتنسفها وتجتثها، حتى بين الأخوان الأشقاء المنحدرين من صلب أب واحد، ورحم أم واحدة!!

والعداوة بين الأقرباء من اسوأ انواع العداوات، لما تتركه في النفس من عظيم الألم، وعمق الجراح، ولما تخلفه من قطع الأرحام، ووشائج القربى، وتمزيق العوائل والاسر، ولأن الأقرباء اقدر على الأضرار ببعضهم، لمعرفتهم نقاط الضعف فيما بينهم.. لذلك روي عن الامام علي قولـه: «عداوة الأقارب أمضّ من لسع العقارب» [4] .

وكم نجد في مجتمعاتنا من عداوات بين الأقرباء بسبب الخلاف على الإرث؟ وكم من اخوة أشقاء أو غير أشقاء خاضوا ضد بعضهم معارك العداء والكراهية، وانفصمت بينهم عرى الاخوة ووشائج الرحم لاختلافهم على شيء من تركة أبيهم؟

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 1 صفر 1421هـ
[1]  سورة البقرة الآية 36.
[2]  النمر : اسعد/ في سيكولوجية العدوان - الطبعة الاولى 1995م المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت.
[3]  المجلسي: محمد باقر/ بحار الانوار ج74 ص164.
[4]  الآمدي التميمي: عبد الواحد/ غرر الحكم.