الإمام الرضا (ع) واستثمار الانفتاح

مبايعة الإمام علي الرضا (148هـ-203هـ) ولياً للعهد سنة (201هـ) من قبل الخليفة المأمون العباسي يعتبر حدثاً يتيماً وفريداً من نوعه في تاريخ العلاقة بين أئمة أهل البيت والسلطات الحاكمة في عصورهم، تلك العلاقة التي كانت قائمة على الإقصاء والتعتيم والقمع من قبل الحكومات الأموية والعباسية تجاه أهل البيت.

وفجأة تفتق ذهن عبد الله المأمون بن هارون الرشيد (170هـ-218هـ) عن هذا القرار، وقاده دهاؤه السياسي لاتخاذه وتنفيذه، وكان المأمون آنذاك مقيماً في (مرو) شرق خراسان (مرو الآن جزء من تركمانستان) لأن أباه هارون الرشيد قد ولاّه أمر فارس، وجعلها منطقة نفوذه وامتيازه، فبدأ مراسلة الإمام الرضا في المدينة، يطلب منه الشخوص إليه، ولم يكن الإمام راغباً في مفارقة المدينة، ولا الاقتراب من المأمون، ثم بعث المأمون وفداً رسمياً لتنفيذ أمر انتقال الإمام، برئاسة رجاء بن أبي الضحّاك، وهو قرابة وزيري المأمون الفضل والحسن ابني سهل، كما أنه من قادة جيش المأمون وكان والياً على خراسان لفترة، فهو شخصية سياسية عسكرية، وتكليفه بتنفيذ هذه المهمة إشارة إلى عزم المأمون واهتمامه بإنجاز ذلك وتحقيقه.

وغادر الإمام الرضا المدينة منتصف سنة 201هـ تقريباً، وبعد وصوله إلى (مرو) عرض عليه المأمون أن يتنازل له عن الخلافة والحكم، كما تشير بعض الروايات، لكن ذلك كان مجرد مقدمة وتمهيد للمطلب الرئيسي، وهو أن يقبل بتعيينه ولياً للعهد، فاعتذر الإمام الرضا عن ذلك، واستمرت المحاولات لإقناعه بالقبول، لمدة شهرين أو أكثر[1] ، من قبل المأمون شخصياً، ومشاركة وزيريه الفضل والحسن ابني سهل، ولمّا لم تجد محاولات الإقناع، استخدموا مع الإمام أسلوب التهديد والإلزام.

يروي أبو الفرج الأصفهاني (284هـ-356هـ) في مقاتل الطالبيين: أن المأمون بعث الفضل والحسن ابني سهل إلى علي بن موسى الرضا، فعرضا ذلك عليه -ولاية العهد- فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله أمرني -أي المأمون- بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد. ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع، فقال له قولاً شبيهاً بالتهديد، ثم قال له: إنّ عمر ـ بن الخطاب ـ جعل الشورى في ستة أحدهم جدك، وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولا بد من قبول ذلك[2] . فوجد الإمام الرضا نفسه بين خيار الاستجابة أو الاصطدام مع المأمون، ورأى أنّ الخيار الأول أفضل وأصلح، فقبل ولاية العهد، بشرط أن لا يتحمل شيئاً من المسؤوليات التنفيذية والسياسية «أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد»[3]  وبذلك أخلى نفسه من أي مسؤولية تجاه نظام الحكم وسياساته وممارساته، وموقعه شكلي ليس إلاّ.

لقد أحاط المأمون تعيين الإمام الرضا ولياً للعهد بإجراءات وأجواء احتفائية وإعلامية كبيرة، مما يوحي بأنّ له غرضاً في استثمار هذا القرار على الصعيد السياسي والشعبي. فعقد مهرجاناً رسمياً وشعبياً عاماً لمبايعة الرضا، في اليوم الثاني أو الخامس أو السابع (على اختلاف الروايات) من شهر رمضان سنة 201هـ. حضره الوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة القوات المسلحة، وأعيان العباسيين والعلويين، وشجّع الشعراء بالجوائز والمكافآت على التفاعل مع هذا الحدث بالإشادة به، ومدح الإمام الرضا، وبهذه المناسبة أمر بإعطاء الجنود رواتبهم سنة كاملة، وأثبت اسم الإمام الرضا في الدراهم والدنانير المسكوكة، ووجّه ولاته وعمّاله في جميع الأقطار والأقاليم الإسلامية، بأخذ البيعة من جميع المواطنين بولاية العهد، وبالدعاء للإمام الرضا في خطب الجمعة.

الدافع السياسي

ترى ما الذي دفع المأمون لاتخاذ هذا القرار الغريب الخطير؟ وكيف انعطف بالعلاقة مع أهل البيت من حال المناوئة والمواجهة، التي سار عليها أسلافه، إلى هذا المنحى من إشراكهم في الحكم، والاعتراف بمكانتهم وفضلهم على المستوى الرسمي والشعبي؟

يذهب قلة من الكتّاب والباحثين إلى القول بإخلاص المأمون وانطلاقه من دافع مبدئي، فهو يكن الولاء الصادق لأهل البيت، ويتشيع لهم، ويتحدث عن بعض المواقف التي أوجبت اقتناعه بأئمة أهل البيت، كمشاهدته لتعامل أبيه الرشيد مع الإمام موسى الكاظم ، والذي أثار تساؤل المأمون، فأجابه أبوه الرشيد بتأكيد المكانة الشرعية، والأولوية القيادية للأئمة، وهناك مؤشرات عديدة قد يستدل بها على تشيعه كرده فدك للعلويين، وإعلانه لتفضيل الإمام علي بن أبي طالب وأحقيته في مجلس عقده في قصره للمناظرة مع أربعين عالماً من علماء الحديث والكلام في بغداد انتخبهم يحي بن أكثم، فناقشهم المأمون بدقة علمية واستدلال قوي لإثبات ذلك وأفحمهم. وكذلك قوله بخلق القرآن وجواز المتعة، وما شابه من القضايا التي يتبناها خط أهل البيت. وفي هذا السياق يأتي عرضه الخلافة وولاية العهد على الإمام الرضا.

أو هو قد نذر لله تعالى إن انتصر على أخيه الأمين ليجعلن الأمر في الأصلح والأفضل، ولا ينطبق ذلك إلا على الإمام الرضا. وينقل عنه قوله: «إني عاهدت الله أن أخرجها إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل»[4] .

وممن يتبنى هذا الرأي صديقنا الدكتور السيد محمد علي البار في شرحه وتقديمه لرسالة الإمام الرضا في الطب (الرسالة الذهبية) يقول: «ولله در المأمون إذ فضّل الإمام علي الرضا على بنيه وآل بيته أجمعين مبتغياً في ذلك رضا الله تعالى... والواقع أنّ المأمون بفعله هذا أثار البيت العباسي، وكادت الخلافة تخرج من يده عندما ولّى بنو العباس عمه إبراهيم بن المهدي الخلافة، وقد نقم عليه بنو العباس ذلك الفعل، ونصحه وزيره الحسن بن سهل ألاّ يقدم على هذا العمل، الذي فيه إغضاب البيت العباسي بأكمله، مع أنصارهم وهم كثر. ولكن المأمون آثر الله والدار الآخرة، ونصح للأمة جهده فولّى علي الرضا العهد من بعده، بل أراد أن يتنازل له عن الخلافة ولكن الرضا أبى ذلك..»[5] .

لكن من يقرأ شخصية المأمون، ويدرس مواقفه وممارساته السياسية، بدءاً من حربه لأخيه الأمين وقتله، ثم صلب رأسه في صحن داره، ليلعنه كل من يقبض عطاءه، وبعد ذلك تطويف رأس الأمين في أنحاء خراسان، ومروراً بما فعله بوزيره الفضل بن سهل، حيث دبّر لاغتياله، بعد أن استهلك دوره، وكذلك تصفيته لقائد جيشه الكبير هرثمة بن أعين، ومؤامراته للتخلص من طاهر بن الحسين وأبنائه..[6]  والأهم من كل ذلك ما تشير إليه الروايات التاريخية من أنه كان وراء قتل الإمام الرضا بدس السّم إليه.. هذه الأمور تجعل احتمال المبدئية والصدق في توليته العهد للإمام الرضا، بعيداً كل البعد عن التحليل الصحيح، والتفسير الصائب. بل يجب التفتيش عن الدافع السياسي، والذي لا يحتاج الباحث في إدراكه إلى الكثير من الدراسة والتأمل.

اهتزاز حكم المأمون

كان هارون الرشيد قد نصب ولده محمد الأمين ولياً لعهده، وولده عبد الله المأمون، ولياً لعهد أخيه الأمين، ومع أن المأمون أكبر سناً ولو بشهور، وأقوى شخصية وفطنة، لكنه ابن جارية أعجمية طباخة، بينما أم محمد الأمين زبيدة حفيدة المنصور، وصاحبة الأمر والنهي والنفوذ في حكم هارون الرشيد، وكان العباسيون يدعمون الأمين، وكذلك البرامكة النافذون، والوسط العربي بشكل عام.. كل ذلك شجع الأمين بعد أن تولى الخلافة على خلع أخيه المأمون عن ولاية عهده، وأخذ البيعة لولده موسى وهو طفل صغير في المهد، مما أثار حفيظة المأمون، فبادر لخلع أخيه الأمين، وأعلن نفسه خليفة على الأمة، وجهّز جيشاً لمواجهة جيش أخيه وحصلت المواجهة في (الري) والتحم الجيشان في معركة رهيبة، جرت فيها أنهار الدماء، وانهزم جيش الأمين، وواصل جيش المأمون زحفه حتى حاصر العاصمة بغداد، وقُتل الأمين وبُعث برأسه إلى أخيه المأمون.

لقد انتصر المأمون على أخيه، لكنه لم يكسب تعاطف العباسيين والعرب، وقد اختار العباسيون فيما بعد إبراهيم بن المهدي عم المأمون ليبايعونه بالخلافة، رغم أنه كان مغنياً ليس له اهتمام سياسي.

من جانب آخر فإن ثورات العلويين المتلاحقة، وفي بقاع مختلفة، كانت تربك الحكم وتزيد في اهتزازه، فقد فجّر أبو السرايا ثورته في الكوفة، وخرج زيد النار بن موسى بن جعفر في البصرة، وسمي بزيد النار لأنه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وثار محمد بن جعفر في مكة، وقاد التمرد في اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، وأشعل الثورة في المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن، وتحرك في واسط جعفر بن محمد بن زيد والحسين بن إبراهيم بن الحسن، وفي المدائن محمد بن إسماعيل بن محمد.. بل إنك قد لا تجد قطراً إلا وفيه علوي يمنّي نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين، حسبما نص عليه بعض المؤرخين[7] .

هذا عدا عن ثورات غير العلويين، وهي كثيرة، كثورة الحسن الهرش سنة 198هـ وتغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، ونصر بن شبث على كيسوم، وسميساط وما جاورها، وهناك حركات الزط، وثورة بابك، وثورة المصريين بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون.. وغيرها.

ولاية العهد لتعزيز الحكم

تجاه هذه التحديات الكبيرة التي واجهها المأمون، والتي جعلت حكمه في موقع الضعف والاهتزاز، كان لابد له من مبادرة ذكية شجاعة تغيّر المعادلة، وتقلبها رأساً على عقب، وتحوّل الموقف لصالح المأمون.

وكان المأمون مهيئاً لاتخاذ مبادرة بهذا الحجم، لما يتصف به من دهاء وذكاء ومعرفة، حتى قال بعضهم: «لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون» وقال الأستاذ محمد فريد وجدي: «لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين أكفأ منه»[8]  بل روي عن الإمام علي أنه قال - وهو يصف خلفاء بني العباس-: «سَابِعُهُمْ أَعْلَمُهُمْ»[9] .

فتفتق رأيه عن هذا القرار الذكي، أن يجلب الإمام علي الرضا  إلى جانبه ليعزز بشخصيته موقع الحكم والسلطة، وذلك لما للإمام الرضا من شخصية محترمة مقبولة في أوساط الأمة، فهو ثامن أئمة أهل البيت، وتدين له كل القواعد الشيعية بالولاء والطاعة، وكما قال عنه المأمون نفسه: «هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم» وهو موضع تقدير وثقة الجميع، وإنما أطلق عليه (الرضا) «لأنه رضي به المخالفون من أعدائه، كما رضي به الموافقون من أوليائه» على حد تعبير ولده الإمام محمد الجواد [10] .

ويكفي للتدليل على هذه المكانة المرموقة، والموقعية المميزة، التي تبوأها الإمام الرضا أن نذكر الحادثتين التاليتين:

لمّا كتب المأمون إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي عامله على المدينة، أن اخطب الناس وادعهم إلى بيعة علي بن موسى، فقام خطيباً فقال: «أيها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، ستة آباء هم ما هم، من خير من يشرب صوب الغمام»[11] .

وحسب كلام هذا الوالي فالإمام الرضا عند الحجازيين هو العدل المنتظر، والخير المرجو، والأمر المرغوب.

والحادثة الثانية تظهر مكانة الإمام الرضا في شرق البلاد الإسلامية، وهي ما ذكره المؤرخون عن دخول الرضا إلى نيسابور، في طريقه إلى (مرو) وننقل عنها ما أورده ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة قال: «ولما دخل نيسابور، كما في تاريخها، وشقّ سوقها، وعليه مظلة لا يرى من ورائها، تعرض له الحافظان أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم والحديث مالا يحصى، فتضرعا إليه أن يريهم وجهه، ويروي لهم حديثاً عن آبائه، فاستوقف البغلة وأمر غلمانه بكف المظلة، وأقر عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، فكانت له ذؤابتان متدليتان على عاتقه، والناس بين صارخ وباك، ومتمرغ في التراب، ومقبلٌ لحافر بغلته، فصاحت العلماء: معاشر الناس، أنصتوا، فأنصتوا، واستملى منه الحافظان المذكوران، فقال: حدثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب ، قال: حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله قال: « حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبَّ اَلْعِزَّةِ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله حِصْنِي، فَمَنْ قَالَهَا دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي». ثم أرخى الستر وسار، فَعُدّ أهل المحابر والدّوى الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً»[12] .

توضح هاتان الحادثتان عظيم مكانة الإمام الرضا في نفوس أبناء الأمة من الغرب إلى الشرق، وفي أوساط العرب والعجم، وهذا ما دفع المأمون إلى الإصرار عليه ليقبل بالدخول معه في الحكم كولي للعهد، لتعزيز سلطته، وتثبيت شرعية حكمه، ولوضع حد للثورات العلوية، وكسب ثقة جماهير الأمة.

برنامج الإمام الرضا

وأوضح دليل لدينا على عدم صدق نوايا المأمون، وأن له استهدافات سياسية مصلحية، هو تمنّع الإمام الرضا عن قبول عرضه الخلافة وولاية العهد، ثم موافقته من باب الاضطرار، واشتراطه أن لا يتحمل أي مسؤولية أو يقوم بأي دور ضمن السلطة، وتحينه الفرص للتعبير عن ضيقه وانزعاجه من الوضع الذي أصبح فيه. فقد أخبر أحد مواليه منذ الساعة الأولى لمبايعته بولاية العهد، وهو في مهرجان البيعة والاحتفاء قال له: «لا تشغل قلبك بشيء مما ترى من هذا الأمر، ولا تستبشر فإنه لا يتم»[13]  ويصف ياسر الخادم حال الإمام في تلك الفترة بقولـه: إِنَّه لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض صلوات الله عليه.

فلو كان الإمام واثقاً من نوايا المأمون وتوجهاته لما تعامل مع الموضوع بهذه الطريقة.

لكن الإمام ومع تحفظه على الحكم بدلالة رفضه للمشاركة العملية فيه، حاول الاستفادة بأقصى حد ممكن من فرصة الانفتاح السياسي، من أجل خدمة أهدافه الرسالية العظيمة، المتمثلة في تبيين معالم الدين، وتجلية مفاهيمه الحقة وخاصة مع ملاحظة الأمور التالية:

التحديات الفكرية والثقافية: حيث شهد عصر الإمام الرضا انفتاحاً واسعاً على الثقافات الأجنبية وخاصة اليونانية، فقد اهتم المأمون بجلب الكتب العلمية والفلسفية من الخارج، وكلف موظفاً خاصاً في مكتبة بيت الحكمة وهي أضخم مكتبة في بغداد، للاهتمام بالكتب الأجنبية التي نقلت من (قبرص) ومن خزائن كتب اليونان، كما أنشأ المأمون ديواناً للترجمة برئاسة حنين بن إسحاق، لتعريب الكتب الأجنبية.. هذا الانفتاح الثقافي ينبغي أن تواكبه نهضة فكرية وثقافية داخل الأمة، للاستفادة من مكاسب وتجارب الآخرين، دون الانبهار بها أو التأثر بالانحرافات التي فيها.

الحصار القائم حول خط أهل البيت: والذي سبّب وجود بعض الانحرافات الفكرية داخل الأوساط الشيعية، من قبل الفئات المغالية والمصلحية كالواقفة، وكذلك فإن شرائح من الأمة لم يتح لها الاطلاع على معالم خط أهل البيت الفكري والسياسي، بل كانت ضحية للإعلام المناوئ، والذي كان يثير الشبهات والتساؤلات والافتراءات حول مدرسة أهل البيت، ومواقفهم الفكرية والسياسية.

الصراعات السياسية التي عاشتها الأمة بين الأمويين والعباسيين ثم داخل الحكم العباسي كحرب الأمين والمأمون، الاضطرابات السياسية، وفساد أجهزة الحكم، كل ذلك أوجد في أوساط الأمة ردات فعل، وثغرات وإشكاليات، انعكست على ثقة بعض الناس بدينهم، وأضعفت التوجهات المبدئية لصالح الاهتمامات المادية والأنانية...

مما يعني حاجة الأمة إلى زخم من التوجيه الديني، وحركة في كشف حقائق الإسلام ومفاهيمه الصحيحة، بعيداً عن التحريف والتزييف.

وإذا كانت ظروف الحصار والقمع التي عاشها أكثر أئمة أهل البيت ، تجعل فرصتهم في هذا الميدان محدودة، مع أنهم كانوا يصارعون تلك الظروف، ويسعون لتبليغ رسالات الله بكل وسيلة ممكنة، فإن الفضاء السياسي المفتوح نسبياً للإمام الرضا ، أعطاه فرصة واسعة، وخاصة مع محاولات المأمون للتظاهر بالإخلاص للإمام الرضا وأهل البيت ، كما فسح ذلك المجال لكي تصل آراء أهل البيت وأفكارهم للنخب والشرائح المتقدمة في أجهزة الحكم، وأجواء السلطة والقدرة.

وكنموذج لهذا الدور الذي قام به الإمام ، نشير إلى المناظرات والحوارات العلمية التي حصلت بينه وبين العديد من الزعامات الدينية والعلمية، تلك المناظرات التي حصلت في قصر المأمون العباسي وبدعوة منه، إِمًّا للتظاهر بتأييد أهل البيت، أو أملاً منه في إحراج الإمام الرضا، بما يطرح عليه من مسائل عويصة، وإِشكاليات حادة، فقد أوعز المأمون إلى ولاته في أنحاء العالم الإسلامي، بإيفاد كبار العلماء من المتمرسين في مختلف أًنواع العلوم إلى خراسان، وطلب منهم أن يفتشوا عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً، ليطرحوها على الإمام الرضا ، وكان الإمام يجيب على تلك التساؤلات ويعالج تلك الإِشكالات، بصدر رحب، وبيان واضح وحجة بالغة، وقد جمع بعض تلامذة الإمام تلك المناظرات والحوارات فزادت على عشرين ألف مسألة في ميادين العلم والفكر المختلفة، ومن المؤسف أنّنا لا نمتلك الآن منها إلا جزءاً يسيراً، وهو ذو فائدة وقيمة كبيرة، لكن مجموع تلك المناظرات «لم نعثر عليها، ولعلها من جملة المخطوطات التي خسرها العالم العربي والإسلامي»[14] .

ومن تلك المناظرات حوار الإمام مع عمران الصابئ وكان زعيم طائفة الصابئة، ومن كبار فلاسفة ذلك العصر، وقد جرت المناظرة بحضور المأمون وكبار العلماء والقادة، واستمرت لأكثر من مجلس، وأثبت الشيخ الصدوق في كتابه (عيون أخبار الرضا) أًغلب ما دار فيها.. وكانت نتيجتها إِعلان عمران الصابئ إسلامه وانضمامه إلى مدرسة أهل البيت ، حيث كثر تردده على الإمام وانتهاله من نمير علمه.

ومنها مناظرته لسليمان المروزي، المعروف بتضلعه في الفلسفة، وتمرّسه في البحوث الكلامية، وكان يعد في طليعة علماء خراسان، واشتملت على حوار علمي عميق حول توحيد الله تعالى وتنزيهه، وتبيين حقيقة صفاته وأسمائه.

ومناظرته مع أبي قرة والذي كان يثير الكثير من الشبه والإشكالات، على العقائد والمفاهيم الدينية.. وكذلك مناظرته مع الجاثليق رئيس أساقفة النصارى، ومع رأس الجالوت كبير علماء اليهود، والهربذ الأكبر زعيم الهنود، وأتباع زرادشت، ونسطاس الرومي الطبيب العالم ومع علي بن الجهم حول عصمة الأنبياء وغيرهم.

لقد وفّرت مجالس المناظرات والحوار للإمام فرصة جيدة، لتبيين مفاهيم الدين، وتوضيح معالم الشريعة، وكانت أصداؤها وآثارها تنعكس على علماء الأمة والجماهير، مزيداً من الثقة في الدين، والمعرفة بالحقائق.

إضافة إلى الجهود التي بذلها الإمام في تعليم وتربية من التفّ حولـه من التلامذة والموالين، وقد بلغ عدد الرواة عنه والمنتهلين من علومه ومعارفه، حسب إحصاء أحد العلماء الباحثين إلى ثلاثمائة وسبعة وستين شخصاً[15] .

الدرس والعبرة

من هنا كانت فترة الإمام الرضا ، من أثرى وأخصب الفترات التي استفادت فيها الأمة من علوم أهل البيت ، فقد استثمرت فرصة الانفتاح السياسي في تبليغ مبادئ الدين، والدفاع عن مناهج الرسالة، وفي رفع معنويات وثقة أبناء الأمة في دينهم، وتوضيح ما التبس عليهم، بسبب الجهل أو التحريف الداخلي، ولتحصينهم من تأثير الثقافات والأفكار المخالفة للإسلام.

وبذلك يبعث الإمام الرضا رسالة إلى الفقهاء والعلماء في كافة أجيال الأمة وعصورها، بأن لا تستهويهم المناصب والمواقع لذاتها، بل يجب أن يسخرّوها إذا ما وصلوا إليها أو تورطوا بها، من أجل نشر الدين، وخدمة الأمة.

فالأمة وخاصة في هذا العصر تواجه تحديات حضارية خطيرة، على المستوى الفكري والمعرفي، لتطور وسائل الاتصال، وتكنولوجيا انتقال المعلومات وتداولها، وللانفتاح الإعلامي الهائل، مع سيطرة الآخرين على مصادر ومنابع الحركة الإعلامية والمعلوماتية على الصعيد العالمي، مما يضاعف مسؤوليات الدعاة إلى الله، ويتطلب منهم أكبر جهد في العمل والنشاط والانطلاق، دون الاكتفاء بمواقع وحدود ضيقة.

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 17 صفر 1422هـ
[1]  مرتضى: السيد جعفر/ الحياة السياسية للإمام الرضا ص280 دار الأضواء- بيروت 1986م.
[2]  الأصفهاني: أبو الفرج/ مقاتل الطالبيين ص563 دار المعرفة - بيروت.
[3]  مرتضى: السيد جعفر/ الحياة السياسية للإمام الرضا ص347.
[4]  الأصفهاني: أبو الفرج/ مقاتل الطالبيين ص563.
[5]  البار: الدكتور محمد علي/ الإمام علي الرضا ورسالته في الطب ص77 الطبعة الثالثة 1992م دار المنهل بيروت.
[6]  مرتضى: السيد جعفر/ الحياة السياسية للإمام الرضا ص183-184.
[7]  وجدي: محمد فريد/ دائرة المعارف الإسلامية ج1 ص620 الطبعة الثالثة 1971م دار المعرفة بيروت.
[8]  القمي: الشيخ عباس/ سفينة البحار ج2 ص332 مادة غيب.
[9]  القرشي: باقر شريف/ حياة الإمام علي بن موسى الرضا ج1 ص23.
[10]  الأندلسي: بن عبد ربه/ العقد الفريد ج5 ص359 دار الكتب العلمية- بيروت.
[11]  الهيثمي: ابن حجر/ الصواعق المحرقة ج2 ص594 الطبعة الأولى 1997م مؤسسة الرسالة بيروت.
[12]  القرشي: باقر شريف/ حياة الإمام علي الرضا ج2 ص304.
[13]  المصدر السابق ج1 ص13.
[14]  المصدر السابق ج2 ص180.