سلاح المقاطعة

المقاطعة الاقتصادية سلاح قديم جديد، طالما استعمله الأقوياء الظالمون ضد الضعفاء المظلومين، لفرض إرادتهم عليهم، ودفعهم للاستسلام لهيمنتهم. وقد يشهر المظلومون هذا السلاح تجاه ظالميهم في بعض الظروف، حينما يكونون في موقعية تتيح لهم ذلك، لممارسة نوع من الضغط على الطرف الآخر.

فالمقاطعة أداة ووسيلة في ميدان صراع الإرادات، وساحات المعارك، وكأي سلاح آخر، لابد من إتقان استخدامه في مواقعه المناسبة.

قريش تفرض المقاطعة

نقرأ في السيرة النبوية: أن قريشاً فرضت الحصار والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية على بني هاشم، لالتزامهم حماية الرسول ، فقد فشلت أساليب المشركين الدعائية في الحد من انتشار دعوة الإسلام، حيث اتهموا النبي بالجنون والسحر والكذب، ومارسوا ضده مختلف أنواع الضغوط النفسية، والإيذاء الشخصي، لكنه كان صامداً ثابتاً، وكانت أخلاقه وصدق رسالته عامل تأثير وجذب حتى للمناوئين والمخالفين، ففي كل يوم يزداد عدد المسلمين، وتتسع رقعة الاستجابة للدين، وهناك عناصر نوعية متميزة في المجتمع القرشي أخذت تنضم إلى صفوف المؤمنين بالدعوة، كما أن هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، واستقبال النجاشي لهم، ورفضه محاولات وفد قريش إليه لطلب طردهم، فتح أمام الدعوة أفقاً للانتشار، وحقق لها اختراقاً معنوياً وسياسياً كبيراً.

كل ذلك أثار حنق قريش وقلقها من تقدم الدعوة الإسلامية، ودفع زعماءها للتفكير بجد في التخلص من وجود النبي ، بحبسه أو التنكيل به، أو تصفيته جسدياً.

حماية أبي طالب

من المعروف تاريخياً أن النبي ولد يتيماً، حيث مات أبوه عبدالله، وهو جنين في بطن أمه آمنة بنت وهب، والتي ماتت عنه وهو في السادسة من عمره، وكفله عند ولادته جده عبد المطلب، ولكنه مات هو الآخر، والنبي في الثامنة من عمره، فتولى كفالته ورعايته عمه أبو طالب شيخ البطحاء، وأبرز أبناء عبد المطلب.

وأجمع المؤرخون وكتاب السيرة النبوية، على عظيم محبة أبي طالب لرسول الله ، وتفانيه في رعايته وحمايته، منذ صغره وحتى بعثته وإعلانه الدعوة، حيث وقف أبو طالب إلى جانبه بكل ثقله ونفوذه الاجتماعي، ورفض كل مساومات قريش وضغوطها، ووضع حياته وحياة أسرته من الهاشميين تحت وطأة الضغوط والأعباء الاجتماعية والاقتصادية، دفاعاً عن رسول الله وحريته في تبليغ الرسالة.

وروي عن رسول الله قوله: «ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب»[1] .

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مختصر سيرة الرسول :

«وأما أبو طالب فهو الذي تولى تربية رسول الله من بعد جده كما تقدم، ورقَّ عليه رقة شديدة، وكان يقدمه على أولاده. قال الواقدي: قام أبو طالب ـ من سنة ثمان من مولد رسول الله إلى السنة العاشرة من النبوة أي ثلاثاً وأربعين ـ يحوطه ويقوم بأمره، ويذب عنه، ويلطف به. وقال أبو محمد بن قدامة: كان يقر بنبوة النبي ، وله في ذلك أشعار، منها:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا      لؤياً وخصا من لؤي بني كعب

بأنا وجدنا في الكتاب محمداً     نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتب

 ومنها:

تعلَّم خيار الناس أن محمدا     وزير لموسى والمسيح ابن مريم

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا     فإن طريق الحق ليس بمظلم»[2] 

تحت الحصار

وقف أبو طالب وخلفه بقية الهاشميين سداً منيعاً يحول بين المشركين وبين النيل من رسول الله وتصفيته جسدياً، وأعلن أبو طالب موقفهم الصامد في قصيدة مطولة أشبه بالبيان السياسي، أخذت مداها في الانتشار، وصداها في منتديات قريش، ومن أبياتها:

كذبتم وبيت الله نُبزي محمدا     ولما نطاعن دونه ونقاتل

ونسلمه حتى نصرّع حوله       ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لقد علموا أن ابننا لا مكذب      لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل

حليم رشيد عادل غير طائش    يوالي إلها ليس عنه بغافل[3] 

لذلك قرر زعماء المشركين فرض مقاطعة اقتصادية واجتماعية على النبي وأسرته المحامين عنه، والملتفين حوله، بزعامة أبي طالب.

وعقدوا اجتماعاً بدار الندوة، ووقعوا ميثاقاً يلتزمون بموجبه مقاطعة بني هاشم، فلا يبتاعون منهم شيئاً ولا يبيعونهم، ولا ينكحون إليهم ولا يُنكحونهم، وأن لا يؤاكلونهم ولا يكلموهم، وكتبوا بذلك صحيفة وقّع عليها أربعون من زعماء قبائل قريش، وعلقوها في جوف الكعبة، لتأكيد التزامهم بتنفيذها. حتى يسلّم بنو هاشم رسول الله ويتخلوا عن حمايته.

فجمع أبو طالب بني هاشم- عدا أبي لهب الذي انضم إلى المشركين- وحملهم مسؤولية الدفاع عن الرسول ، وتعاقدوا جميعاً على رفض طلب قريش، والصمود أمام تآمرها.

وخرجوا من مكة ليقيموا في فسحة بين جبالها تعرف بشِعب أبي طالب، فيها بعض البيوت المتواضعة، والسقائف البسيطة.

وبث أبو طالب رجالاً منهم على نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي هجوم مباغت.

وبدأت المقاطعة أوائل السنة السابعة للبعثة، واستمرت ثلاثة أعوام حتى منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة.

ولإحكام الحصار كان أبو جهل، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة وطعاماً نهوه أن يبيع بني هاشم شيئاً، وهددوه بنهب أمواله إن خالف ذلك.

كما وضعت قريش جواسيس على طريق الشِعب حتى لا يصل إليهم طعام سراً، لكن أم المؤمنين خديجة عليها السلام رتّبت مع ابن أخيها حكيم بن حزام، وأبي العاص بن الربيع، وهشام بن عمرو، أن يسّربوا كميات من الطعام تحت جنح الظلام، إلى بني هاشم، مقابل مبالغ طائلة. وكانت المحاولات تنجح في بعض الأحيان.

وتشير بعض المصادر إلى أن خديجة وأبا طالب أنفقا كل ثروتهما أثناء الحصار للتغلب على صعوباته[4] .

بالطبع هناك أربعة أشهر حرم، يحترمها العرب فيما بينهم، وتتوقف خلالها الاعتداءات، ليأمن حجاج البيت، وأسواق الأدب والتجارة، وهي: شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، فكانت فرصة النبي والهاشميين للخروج من الشِعب، حتى يعرض النبي دعوته على الناس، وليشتري بنو هاشم ما يحتاجون من مؤن.

لكن ضغوط المشركين كانت تلاحقهم أيضاً، حيث كان أبو لهب يصيح بالتجار: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم. فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً وكان الوليد بن المغيرة يقول: أيما رجل منهم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه، حتى كان المسلم لا يكاد يجد ما يشتريه لعياله.

فعاش الهاشميون مع نسائهم وأطفالهم فترة حرجة قاسية، كانوا يعانون فيها الجوع وفقدان مختلف احتياجاتهم الحياتية، وكان أطفالهم يتضورون ويصرخون جوعا، حتى اضطر الرجال والنساء إلى أكل أوراق الشجر اليابس، ليدرأوا به غوائل الجوع.

انهيار المقاطعة

ثبات النبي ، وصمود أبي طالب ، واستقامة الهاشميين، والأخبار التي كانت تنتشر عن معاناتهم، أحدثت ردود فعل معارضة للمقاطعة في أوساط قريش، وظهرت أصوات ومواقف تدعوا لإعادة النظر في جدوى الحصار والمقاطعة على بني هاشم.

ونزل الوحي على رسول الله يخبره أن الإرضة ( دودة بيضاء شبه النملة ) أكلت جميع ما في صحيفة المقاطعة المعلقة في الكعبة، عدا كلمة ( باسمك اللهم ). فأخبر النبي عمه أبا طالب . فقال أبو طالب: أربك أخبرك بهذا؟ قال : نعم.

فانطلق أبو طالب من ساعته مع عصبة من بني هاشم، باتجاه مجلس قريش، فرحبوا به ظانين أنه بصدد التفاوض على الاستسلام، والتراجع عن موقفه. لكنه فاجأهم بقوله: إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني: أن الله تعالى أخبره أنه بعث على صحيفتكم دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم، وظلم وجور، وترك اسم الله، فإن كان حقاً فارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعت محمداً إليكم لتفعلوا به ما شئتم، فوافقوا على ذلك، وتناولوا الصحيفة من جوف الكعبة فوجدوا الأمر كما أخبرهم.

وهكذا انتهى الحصار، وفشلت ضغوط قريش، وخرج النبي وأبو طالب والهاشميون برؤوس مرفوعة، ومعنويات عالية، رغم معاناتهم الشديدة القاسية.

المقاطعة في الحاضر

ولا تزال المقاطعة الاقتصادية سلاحاً تستخدمه الدول والأمم في حالات الصراع والحروب، ومع الأثر المتعاظم للدور الاقتصادي في العصر الحاضر، فإن هذا السلاح يصبح أكثر فعالية وخطورة.

وفي أواخر القرن الثامن عشر سنة 1765م استخدم الأمريكيون في ثورتهم على الاستعمار البريطاني سلاح المقاطعة ضد البضائع البريطانية.

وأثناء الحرب العالمية الثانية وضعت كل من إنجلترا والولايات المتحدة قائمة سوداء، تشمل الشركات والأفراد في الأقطار المحايدة، الذين يتاجرون مع العدو، ولا يسمح للشركات والأفراد المدرجين في القائمة السوداء بشراء البضائع من الولايات المتحدة أو بريطانيا. وأدى ذلك إلى حرمان ألمانيا واليابان وإيطاليا من الحصول على البضائع التي كان من الممكن أن تشتريها لهم الأقطار المحايدة.

وقد مارست أمريكا ولا تزال على إيران ألواناً من الحصار والمقاطعة الاقتصادية منذ احتلال السفارة الأمريكية في طهران بعد انتصار الثورة الإسلامية، واستصدرت أمريكا وبريطانيا من مجلس الأمن إجراءات عقوبات تشمل الحصار والمقاطعة على ليبيا عند أزمة لوكربي، ولايزال العراق يعيش تحت الحصار منذ غزوه للكويت.

وتوجد الآن منظمات في داخل أمريكا تأسست من عام 1909م تروج للبضائع الأمريكية فيقولون: (Buy union buy American). إذا أردت أن تكون حليفاً فاشتر المنتج الأمريكي، وترصد قائمة بالشركات التي تنتج بضائع، أو تروج لبضائع غير أمريكية لمقاطعتها، وعندهم قائمتين: لا تشترِ، واشترِ (Don't buy, Do buy )

ويستخدم اليهود سلاح المقاطعة بإتقان للضغط على مختلف الجهات لصالح مواقفهم، ولتنمية إنتاجهم وصناعتهم.

وقبل فترة وجيزة قامت وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية بحملة لتشجيع شراء الصناعات الإسرائيلية، في مقابل شراء البضائع الأجنبية، وقال رئيس الحكومة أرييل شارون أثناء جلسة الحكومة لمناقشة الموضوع: إنني لا أفهم لماذا تكون أقلام الرصاص الموجودة على مكتبي هنا ألمانية الصنع[5] .

ويضغط اليهود الأمريكيون في أمريكا على وسائل الإعلام بالمقاطعة لتكون أكثر انحيازاً لإسرائيل، ففي هذه الأيام وعلى أثر نشر بعض الصحف الأمريكية لشيء من جرائم إسرائيل في مخيم جنين، وفي قمع انتفاضة الشعب الفلسطيني، شنت المنظمات اليهودية والمجموعات المؤيدة لإسرائيل، حملة تحريض لمقاطعة تلك الصحف، ففي لوس انجلس أوقف ألف شخص اشتراكاتهم في صحيفة ( لوس انجلس تايمز) احتجاجاً على ما اعتبروه تغطية غير دقيقة منحازة للجانب الفلسطيني. وفي نيويورك ناشد الكثير من أعضاء الجالية اليهودية القراء بمقاطعة صحيفة ( نيويورك تايمز ).

دلالات المقاطعة

في مواجهة العدوان الصهيوني البشع، ومع تصاعد جرائمه بحق مقدساتنا وشعبنا في فلسطين، فإن استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية ضد مؤيدي هذا العدوان وحماته، هو من أول الواجبات، وأبسط الجهود التي لا يصح التردد في القيام بها.

إن الواحد منا إذا تعرض لإهانة شخصية من قبل أحد الباعة أو التجار فإنه لا يفكر أبداً في العودة إليه أو التعامل معه، وليس بحاجة إلى قرار من حكومة، أو فتوى من مرجع، حتى يقاطع بقالة أو متجراً سبه أو شتمه صاحبها، بل يندفع لذلك بلا تردد احتراماً لنفسه، وحفاظاً على كرامته.

فكيف نتردد في مقاطعة المنتجات والبضائع الأمريكية، مع كل ما يوجهه لنا الأمريكيون من صفعات وضربات، تستهدف وجودنا وكرامتنا وحقوقنا المشروعة؟

وإذا كان هناك نقاش في مدى حجم الضرر الذي نستطيع أن نلحقه بالاقتصاد الأمريكي، من خلال المقاطعة، فإنه لا نقاش في أنه ينبغي لنا أن نمتلك إحساساً ومشاعر تتأثر بالعدوان والإساءة، وتنتج ردود فعل تؤكد في النفس والواقع الخارجي احترامنا لكرامتنا ومصالحنا.

كما أن من حقنا أن نوصل للأمريكيين عبر المقاطعة لبضائعهم ومنتجاتهم، رسالة تحمل انزعاجنا وغضبنا، من موقفهم الظالم المنحاز للعدوان الصهيوني.

ولا شك أن الأمريكيين يهتمون بمصالحهم الاقتصادية، و لا يستهينون بأي قدر من الخسارة، كما يفكرون في تأكيد نفوذهم، وخدمة سمعة بلادهم، بدليل توجههم أخيراً لتشكيل لجان، ووضع خطط سياسية وإعلامية، لتحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي.

فإذا ما تضامن المسلمون في مختلف أنحاء العالم على مقاطعة المنتجات الأمريكية، فلابد وأن يكون لذلك تأثير على دوائر صنع القرار الأمريكي.

ومن خلال المقاطعة ينبغي ترشيد الاستهلاك في مجتمعاتنا، وتشجيع الإنتاج المحلي والعربي والإسلامي، واختيار البدائل عن المنتجات الأمريكية، من الدول المتعاطفة مع قضايانا، أو المحايدة على الأقل. أما السلع والمنتجات التي لا بديل لها، أو نكون مضطرين إليها، فإن للحاجة والاضطرار أحكامها، يقول تعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

ويجب أن تتطلع أمتنا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، واللحاق بركب التقدم الصناعي والتكنلوجي، وقد قال أمير المؤمنين علي : «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره»[6] .

 

 

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 27 صفر 1423هـ
[1]  ابن هشام: عبد الملك، السيرة النبوية، ج2 ص30، دار إحياء التراث العربي بيروت 1994م.
[2]  ابن عبد الوهاب: الشيخ محمد، مختصر سيرة الرسول ، ص65، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية 1418هـ.
[3]  ابن هشام: عبد الملك، السيرة النبوية، ج1 ص309، دار إحياء التراث العربي، 1415هـ.
[4]  السبحاني: الشيخ جعفر، سيرة سيد المرسلين، ج1 ص507، الطبعة الأولى 1992م، دار البيان العربي، بيروت.
[5]  المجلة: مجلة أسبوعية تصدر من لندن، عدد 1160ص10 تاريخ 11/ 5/ 2002م.
[6]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج74 ص421، الطبعة الثالثة المصححة 1983م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.