التخطيط للمستقبل

في إطار مواصلة سماحة الشيخ لإلقاء محاضراته المتميزة في موسم محرم الحرام لعام 1424هـ بحسينية العوامي بالقطيف، ألقى محاضرته الخامسة (ليلة السبت الخامس من شهر محرم الحرام) تحت عنوان: التخطيط للمستقبل. وقد تضمنت المحاضرة أربعة محاور:

المحور الأول: المستقبل ماذا يعني؟ وكيف نهتم به؟


في هذا المحور تحدث سماحة الشيخ عن الأبعاد الثلاثة للإطار الزمني،وهي: الماضي، الحاضر، والمستقبل. وقال إن الإنسان بوجدانه يدرك هذه الأبعاد الثلاثة. وأكد في حديثه على أن الحاضر إذا مضى فإنه لا يعود –كما هو بديهي ويعرفه الجميع- فعن الإمام الصادق قال: «كل يومٍ يأتي يُخاطب ابن آدم: يا ابن آدم أنا يومٌ جديد وغداً عليك شهيد، فقل فيَّ خيراً، واعمل فيَّ خيراً، فإنك لن تراني بعدها أبداً». ويقول الشاعر:

ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها

وأكد سماحته أن المستقبل يُصنع في الحاضر، لأن المستقبل يتأثر بحاضر الإنسان. وأشار سماحته إلى أن البعض يتصور أن المستقبل حتمي ولا يُمكن التصرف فيه، وهذا التصور بالمعنى الواقعي أي أن الله بيده المستقبل صحيح، ولكن إذا كان بمعنى أن الإنسان لا دور له في صناعة المستقبل فهو خطأ. يقول تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يُرى.

وأضاف سماحته أن الناس يختلفون في هذه الناحية، فالعقلاء منهم يوظفون اللحظة الحاضرة لصناعة المستقبل، بينما القسم الأكبر ينشغلون باللحظة الآنية. يقول تعالى: ﴿كلا بل تحبون العاجلة. ويقول الإمام علي : «العاقل من نظر لغده من يومه».

وتساءل سماحته: ماذا يعني الاهتمام بالمستقبل؟ وجوابه عن ذلك إنه يعني:

1- التفكير في المستقبل.

2- التخطيط للمستقبل.

3- الإرادة والفاعلية للعمل من أجل المستقبل.

المحور الثاني: التخطيط للمستقبل على المستوى الفردي.


في هذا المحور أكد سماحة الشيخ أنه في المجتمعات المتقدمة ونتيجةً لنظام الحياة المتقدمة هناك فإن حياة الأفراد قائمة على أساس التفكير للمستقبل، بعكس المجتمعات المتخلفة فإن أمور حياتهم دائماً مرتجلة. واستعرض مجموعةً من المجالات التي ينبغي للفرد التفكير فيها تفكيراً مستقبلياً:

أولاً- التفكير في المستقبل التعليمي والوظيفي.

أشار سماحة الشيخ إلى ظاهرة منتشرة عند الشباب وهي أنهم مشغولون باللحظة الراهنة، دون تفكيرٍ في المستقبل. وقال: إن وسائل الإعلام المختلفة، والشلل (تجمعات الشباب مع بعضهم) تعمل عملها في هذا الجانب. بينما النصوص الدينية تدفع باتجاه استغلال مرحلة الشباب للعلم، يقول الإمام علي: «تعلموا العلم صغاراً تسودوا به كباراً». ودعا بعدها الشباب للاهتمام بالمستقبل التعليمي. وتعرض سماحته إلى ما احتواه كتاب (نحو مستقبلك الجامعي والوظيفي) الصادر من وزارة المعارف بالمملكة، من أن هناك (36) تخصص في مختلف جامعات المملكة، منها (17) تخصص لها فرص وظيفية، و (19) تخصص فرصها الوظيفية محدودة، أو محدودة جداً. لذا يلزم الشباب أخذ هذا الجانب بعي الاعتبار والتفكير أكثر في المستقبل التعليمي والوظيفي.

ثانياً- التفكير في المستقبل المالي.

استنكر سماحة الشيخ على البعض من الناس الذين يتصرفون في أموالهم بدون تخطيط أو حساب، متمسكين بالمثل: (انفق ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب). بينما نجد أن الروايات الدينية تؤكد على العكس من ذلك، فهذا رسول الله يعيب رجلاً من الأنصار لأنه أعتق كل مماليكه في سبيل الله وهو لا يملك ثروةً غيرهم، وترك أولاده يتكففون الناس.

وأشار سماحة الشيخ إلى وجود مؤسسات للتأمين للمستقبل، كتأميل المستقبل التعليمي للأولاد، وقال سماحة الشيخ إن المجتمعات المتقدمة يُبادر أفرادها إلى مثل هذا المؤسسات بينما في المجتمعات المتخلفة لا يزال المجتمع لا يعي أهمية هذه الأمور.

ثالثاً- التفكير للمستقبل العائلي والأسري.

حذر سماحة الشيخ الشباب والشابات من أن يكون اختيار الزوج لزوجته أو الزوجة لزوجها على أساس قضايا هامشية كالجمال –مع أهميته- والجانب المالي –مع ضرورته- وإنما ينبغي التفكير أكبر لتحقيق أهداف الزواج التي تتمثل في:

1- تحقيق سعادة الفرد وراحته الزوجية.

2- تكوين ذرية صالحة.

ودعا سماحة الشيخ إلى ضرورة أن يكون هناك فحص طبي قبل الزواج لكلا الطرفين حتى يمكن الحد من مسألة الأمراض الوراثية (فقر الدم المنجلي "السكلسل، الثلاسيميا، ونقص خميرة G6BD) المنتشرة في مجتمعنا المنطقة الشرقية بشكلٍ كبير، إذ أن هناك (30)% من أبناء المنطقة حاملين لجينات هذه الأمراض الوراثية.

المحور الثالث: التخطيط للمستقبل على الصعيد الاجتماعي.


ذكر سماحة الشيخ أن بعض المجتمعات تفكر في مستقبلها والبعض الآخر منها لا ينقصهم التفكير فقط، وإنما صفة المجتمع غير متوفرة فيهم فهم أفراد وليسوا مجتمعاً، ﴿تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.

أما في المجتمعات المتقدمة كأمريكا مثلاً، فيها (600) مؤسسة مهتمة لاستشراف المستقبل، يعمل فيها عشرة آلاف باحث وخبير، و(500) كلية فيها مناهج تعليمة للتخطيط للمستقبل. ودول العالم الثالث ليس فقط لا تحتوي على مثل هذه الميزات وإنما في الغالب ليس هناك تفكيرٌ أو تخطيطٌ مستقبلي.

ودعا سماحة الشيخ الحكومات إلى التخطيط للمستقبل فيما يخص الجوانب التعليمية، والعمرانية.

وكذلك دعا المجتمع للتفكير في واقع الشباب الديني والسلوكي، وأكد على أهمية دور العلماء والمفكرين ورجال الأعمال في التفكير للمستقبل.

كما دعا سماحته لتفعيل الحقوق الشرعية لما يخدم مستقبل المجتمع، وليس فقط الاهتمام بصرفها في حين استلامها، واللحظة الراهنة.

المحور الرابع: المستقبل الأخروي.


وفي هذا المحور أكد سماحة الشيخ أن الإنسان خلق للبقاء ولم يُخلق للفناء، فهو إذ يرحل من هذه الدنيا سينتقل إلى عالمٍ آخر تختلف معادلاته عن هذا العالم.

كما أكد سماحته على ضرورة التفكير للمستقبل الأخروي وأن الآخرة ليست مستقبلاً بعيداً، بل كما يقرر القرآن الحكيم بقوله تعالى: ﴿إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، ﴿وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً، وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت.

واستنكر من وضع البعض من الناس الذين تشغلهم الملذات الدنيوية وهم غافلون عن الآخرة، ولا يعلم هؤلاء أن المسافة بينهم وبين الآخرة ليست بعيدة. وإذا تمعن الإنسان في آيات القرآن الحكيم يجدها تنبه الإنسان من الوقوع في الغفلة: يقول تعالى: ﴿لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد حينها يتورط الإنسان ويتمنى أن يعود للدنيا، ولا يفيد حينها الندم. وأمير المؤمنين يؤكد أن المسافة بين الإنسان والآخرة ليس طويلة، يقول : «فو الله ما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به.»

وأضاف سماحة الشيخ أن المسألة لا تقف عند الموت وإنما ما بعد الموت أشد وأعظم من الموت. وهنا تأتي أهمية الأدعية الروحية التي تخاطب وجدان الإنسان كدعاء أبي حمزة الثمالي المستحب قراءته ليالي شهر رمضان في الأسحار.

واختتم سماحة الشيخ محاضرته بتأكيده على أن الله لطيفٌ بعباده إذ جعل باب التوبة مفتوحٌ أما الإنسان ما دامت فيه روح. ودعا الجميع عامة والشباب خاصة إلى استغلال هذه الأيام العظيمة واللحظات الربانية في التوبة إلى الله تعالى فإن الله غفورٌ رحيم، جاء في الحديث: «إن الله لأشد فرحاً بعبده التائب من رجلٍ فقد جمله في الصحراء ثم وجده بعد عناء.» وأكد سماحته على أن أهم فائدة نخرج بها من هذا الموسم العظيم أن نقرر العودة إلى الله بقلوبٍ تائبة، وأن نفكر بجد في مستقبلنا الأخروي.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.