عاشوراء: برنامج رسالي

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


أصبحت العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، في مطلع كل عام هجري، تشكل أهم موسم ديني ثقافي لدى المجتمعات الإنسانية، فهو موسم تشمل رقعته كل المنتمين إلى مذهب أهل البيت ، والذين يزيد عددهم على الأربع مئة مليون إنسان، يتواجدون في مختلف بقاع العالم وأرجائه.

حيث لا يمكن لأي مجموعة منهم مهما قل عددها أن تهمل هذه المناسبة، أو تتخلى عن إحيائها، بالمقدار الذي تسمح به إمكانياتها وظروفها. وقد يتحملون المخاطر، ويواجهون الصعوبات، في إقامة بعض شعائر هذا الموسم، كما هو الحال الحاضر في العراق، لكنهم لا يتراجعون عن هذا البرنامج، الذي أصبح مظهراً وسياجاً لهويتهم الدينية المذهبية.

ودافع الشيعة إلى ذلك هو تأكيد ولائهم ومحبتهم لآل البيت ، الذين أمر الله تعالى بمودتهم، واعتبرها أجراً ومكافأة لرسول الله ، في مقابل تحمله لأعباء الدعوة والرسالة. يقول تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى سورة الشورى- آية 23.

أخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية لما نزلت قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : «علي وفاطمة وابناهما».[1] 

ويعتبر الشيعة هذه البرامج مصاديق لتعظيم شعائر الله، حيث دعا الله سبحانه إلى تعظيم شعائره، يقول تعالى ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ سورة الحـج-32. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي النجدي: «والمراد بالشعائر أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، ومنها الهدايا والقربان للبيت»[2] ، وأهل البيت من أعلام الدين الظاهرة، فهم من شعائر الله التي ينبغي تعظيمها.

كما ينطلق الشيعة في اهتمامهم بإحياء مناسبة عاشوراء، من تعاليم أئمتهم (أهل البيت) ، حيث وردت عنهم روايات تأمر بذلك وتشجع عليه.

ونظراً لما أدركه الشيعة عبر تاريخهم الماضي والحاضر، من نتائج وثمار طيبة لهذه البرامج، فإنهم يتمسكون بها، ويواظبون عليها، ويسعون لتطويرها لتواكب متغيرات الحياة، ومستجدات العصر.

عطاء كبير:


أصبحت المواسم الثقافية ظاهرة عند مختلف الدول والمجتمعات، لكنها في الغالب تتم عبر جهات رسمية حكومية، أو من قبل نخبة محدودة، أما موسم عاشوراء في المجتمعات الشيعية، فهو برنامج أهلي تطوعي، يشارك فيه كل أبناء المجتمع، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، ومن مختلف الطبقات والشرائح، ولمدة عشرة أيام، ليلاً ونهاراً، وعبر أشكال متنوعة من البرامج، مما ينتج حركة وتفاعلاً اجتماعياً شاملاً، يجدد حيوية المجتمع، ويؤكد تلاحمه وتماسكه، وينمي فيه روح التعاون والمشاركة الجماعية.

ومن أبرز برامج هذا الموسم: الخطب والمحاضرات التثقيفية التوعوية، التي تذكر الناس بتعاليم الدين، وتشرح لهم مبادئه وأحكامه، وتتحدث لهم عن سيرة الرسول وأهل بيته الكرام ، وعما قدموه من تضحيات لخدمة الدين وإصلاح الأمة، وما تحملوه من مآس وآلام في سبيل الله، إنها خطب ومحاضرات كثيرة مكثفة، خلال هذا الموسم، تتنوع محتوياتها، وتتفاوت مستوياتها، حسب قدرة الخطيب وكفاءته، وقد تصل في بعض المناطق إلى عشرات الخطب يومياً، وتقدر إحصائية تقريبية عدد المجالس الخطابية في محافظة القطيف بما يقارب (400) مجلس يومياً، ومثلها أو أكثر في محافظة الأحساء.

هذه الخطابات والمحاضرات تشكل دورة تربوية تثقيفية مكثفة، يمكنها أن تساعد في تحصين الناشئة من المفاسد والانحرافات، وفي توعية الجمهور بواجباته الدينية، ومسؤولياته الاجتماعية.

ولعل من أهم أهداف هذا الموسم المتميز، تأكيد الولاء والانشداد للنبي ولأهل بيته الكرام ، من أجل الإقتداء بهم، والتمسك بهديهم، والسير على مناهجهم.

من أجل استثمار أفضل:


كما في أي برنامج ديني، لا بد من استحضار الغايات والمقاصد، ومراعاة الآداب والضوابط، ليحقق البرنامج أهدافه في حياة الفرد والمجتمع، وإلا تحوّل إلى مجرد عادة طقوسية، وتقليد متعارف.

فمنافع شعائر الحج، وأهداف فريضة الصلاة، وغايات واجب الصوم، وسائر التكاليف والمندوبات الشرعية، لا تحصل إلاّ بالوعي بها، والإلتفات إليها، والحفاظ على معطياتها ومكاسبها.

كذلك فإن برامج موسم عاشوراء قد تصبح مجرد طقوس وعادات يقوم بها الناس، دون أن تترك أثراً في حياتهم، أو تؤدي خدمة لمصالحهم المادية والمعنوية. ما لم يتوجه المجتمع، وخاصة القائمون على هذه البرامج، والفئات الواعية، إلى ضرورة توظيف هذه الشعائر واستثمارها بالاتجاه الصحيح. وأخذ الظروف الحساسة التي تمر بها الأمة والمنطقة بعين الاعتبار.

ومن أجل استثمار أفضل يمكن التذكير بالأمور التالية:

تكثيف البرامج وتركيزها:


ميزة موسم عاشوراء أن برامجه تتم بجهود أهلية تطوعية، لا تحتكرها جهة، ولا يختص بها أحد معين، لذلك ينبغي أن يطالب كل فرد واعٍ من أبناء المجتمع نفسه بدور ومشاركة، فليس هناك متفرج، ولا تصح اللامبالاة، بل على الجميع بذل ما يتمكنون من الجهود والطاقات، من أجل إحياء هذه الشعائر، بأفضل وجه، وخير طريق.

إن أصحاب الرأي ينبغي أن يعتصروا أفكارهم لتقديم آرائهم المفيدة، ومقترحاتهم النافعة، لأصحاب المجالس، ولخطباء المنابر، ولمواكب العزاء، ولسائر الفعاليات الاجتماعية.

إنه ليس مقبولاً من أصحاب الرأي اجترار النقد والملاحظة في داخل أنفسهم، أو بين أصحابهم، بل عليهم أن يجهروا بآرائهم وأفكارهم، ويوصلونها إلى الجهات الفاعلة، وإلى أكبر شريحة مؤثرة في المناسبة.

والعلماء الفضلاء غير الخطباء، يتوقع منهم أن لا يبخلوا بتوجيهاتهم وإرشاداتهم، لمن يرتقون أعواد المنابر، ولمن يديرون المجالس والمواكب، لتكون توجيهاتهم خير داعم ومشجع لهذه الجهود والبرامج، التي تشكل وجه المجتمع وصورته أمام الآخرين.

ومن يتمكن من البذل المالي، عليه أن يشارك في تعظيم هذه الشعائر، بما ينفع المجتمع ويخدم الدين.

وكل الطاقات والقدرات مطلوب منها المشاركة والإسهام، كالكفاءات الفنية من مسرحيين وفنانين تشكيليين، وكذلك أصحاب القدرات الأدبية والثقافية من كتاب وروائيين وشعراء.

إن في مجتمعنا طاقات نفخر بها في هذه المجالات، لكن مشاركاتها الإبداعية في برامج هذا الموسم محدودة وغير ظاهرة.

إن العروض المسرحية، والمعارض الفنية، والأعمال الأدبية، تستطيع أن تثري المناسبة جيداً بعطائها الوفير.

ولا ننسى الدور الذي يمكن أن تلعبه المواقع على الشبكة العالمية العنكبوتية (الإنترنت) في الإعلام للموسم، والمشاركة في صنع أجواء رسالية حضارية تساعد في النهوض بالأمة والمجتمع، من خلال هذه المناسبة العظيمة.

التنسيق بين البرامج:


إذا كانت هذه البرامج تنبثق من مطلقات دينية، ويراد بها التقرب إلى الله تعالى، وتحصيل ثوابه ورضاه، فذلك يعني توفر روحية التعاون والتنسيق بين القائمين بها، فكلها تخدم هدفاً واحداً.

وينبغي من خلالها أن ننمي قدرات العمل الجمعي، والتعاون على تنظيم الأمور، فالمجتمع المتحضر هو الذي يمتلك هذه الروحية، بينما في الأوضاع المتخلفة تسود الفوضى والتعارض والنزاعات.

كما أن هذه المناسبة تشكل مرآة تعكس مستوى المجتمع وأخلاقياته أمام الآخرين، فعلى المجتمع أن يبدو فيها بأجمل صورة ممكنة.

إن التنسيق بين الخطباء فيما بينهم لتناول المواضيع الأكثر أهمية وضرورة، يجعل خطاباتهم أعلى مستوى، وأقدر على التأثير.

وتعاون أصحاب المجالس في ترتيب الأوقات، وخاصة بين المجالس المتقاربة، هو في صالح جمهور المستمعين، وكذلك لجهة خفض أصوات مكبرات الصوت حتى لا تتداخل وتسبب التشويش والإزعاج.

وبين مواكب العزاء إذا تعددت في المنطقة الواحدة، ينبغي أن لا يتحول التعدد إلى حالة من التنافر والتضاد.

وحتى موضوع الإطعام وتوزيع الطعام لا بد من التنسيق، حتى لا تصل إلى بعض البيوت كمية كبيرة لا يُستفاد منها، بينما لا يصل إلى بيوت أخرى شيء. إن الأولوية يجب أن تكون للعوائل الفقيرة، وذلك بالترتيب مع الجمعيات الخيرية، لأخذ قائمة بعناوين تلك العوائل، والحرص على إيصال الطعام لها.

خطاب الوحدة والتقارب:


تزامناً مع ما يطرحه الأمريكيون من تهديدات بتغيير الأوضاع في الشرق الأوسط، بحجة إسقاط النظام العراقي، الذي رعوه وحموه في المرحلة السابقة، وهم الآن يحشدون قواتهم العسكرية الضخمة حول المنطقة، ويطلقون العنان للصهاينة المعتدين لمواصلة جرائمهم الفظيعة ضد الشعب الفلسطيني المضطهد، تزامناً مع ذلك هناك تصعيد في الخطاب الطائفي، لإشغال أبناء المنطقة بالجدال المذهبي العقيم بين السنة والشيعة، المثير للاضغان والأحقاد، عبر نشر كتب عدائية، وعبر بعض المواقع الطائفية على الإنترنت، وكذلك ما أثارته بعض الفضائيات من حوار هو أقرب إلى المهاترات.

إن هذه الإثارات الطائفية لا تخدم إلا مصلحة الأعداء، وتمزق شمل الأمة، في وقت تشتد فيه الحاجة إلى الوحدة والتماسك، لمواجهة الأخطار المحدقة.

وما نؤكد عليه هو ضرورة عدم الانزلاق إلى هذا المستنقع القذر، وعدم الوقوع في فخ التصعيد الطائفي، فتتحول خطاباتنا وكأنها ردود أفعال، وصدى لتلك التوجهات المغرضة.

إن تبيين مفاهيم التشيع، وحقيقة مذهب أهل البيت ، أمر ضروري ومطلوب، وهو من صميم أهداف المنبر الحسيني، ليعرف المجتمع معالم دينه، ولتوضيح صورة المذهب وأتباعه أمام الآخرين، لكن ذلك يجب أن يكون بالطرح الإيجابي الموضوعي، دون تعبئة أو تحريض على الآخرين، وليس على شكل ردود جدلية.

كما ينبغي التأكيد على مبدأ الوحدة الإسلامية، وأهمية التقارب والانفتاح بين أتباع المذاهب، وأخلاقيات العيش المشترك، ومقتضيات المصلحة الوطنية.

إن في المجتمع قضايا عديدة تستحق البحث والمعالجة، ومن أبرزها الاهتمام بالناشئة والشباب، والذين يواجهون تحديات خطيرة، وتتهددهم تيارات الانحراف والفساد، ويحتاجون إلى الرعاية والتوجيه من قبل العائلة والمدرسة والجهات الدينية والاجتماعية.

كما أن من الضروري تشجيع المجتمع على التعاون والتجاوب مع المؤسسات الاجتماعية، كالجمعيات الخيرية، والأندية الرياضية، واللجان المختلفة التي تعمل لخدمة قضايا المجتمع.

وفي هذا السياق لا بد من الترحيب بمن يأتون من خارج المجتمع ليطلعوا على برامجنا، وليحضروا مجالسنا، وليسمعوا خطاباتنا، فكل ذلك يحصل في الهواء الطلق، ليتعرفوا على إخوانهم بشكل مباشر، بعيداً عن الدعايات المغرضة، والاتهامات الباطلة.

رعاية الأمن والنظام:


تجب الإشارة إلى ضرورة رعاية الأمن والنظام، والحفاظ على الهدوء والاستقرار، وخاصة مع ما تمر به المنطقة من ظروف حساسة خطيرة، تستوجب اليقظة والحذر لتفويت الفرصة على أي مغرض أو عابث. وينبغي التنسيق والتعاون مع الجهات المكلفة من قبل الحكومة لتنظيم المرور، والحفاظ على الأمن والنظام، ليمارس الناس شعائرهم بهدوء وانسياب.

وبالنسبة لأبنائنا الأعزاء طلاب المدارس، نؤكد عليهم المواظبة على دراستهم، فلا يصح الغياب عن الدراسة من بداية أيام المحرم، إنهم بذلك يحرمون أنفسهم من الاستفادة التعليمية، والتي هم في أمس الحاجة إليها، ليرتقوا بمستواهم الدراسي.

نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لإحياء هذه المناسبة على أفضل وجه، وأن يدفع عن بلادنا المكاره والأخطار، وأن ينفع المجتمع والوطن بخيرات وبركات هذا الموسم العظيم، والسلام على أبي عبد الله الحسين يوم ولد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.

[1]  أخرجه الطبراني في الكبير 3/39، وابن كثير في التفسير 3/98، وذكره القرطبي في التفسير 16/22، والسيوطي في الدر المنثور 6/7، والهيثمي في المجمع 7/103 و9/168 وأخرجه بنحوه أحمد 1/229، والحاكم 2/444.

[2]  السعدي: عبد الرحمن/ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص881، دار الذخائر، مؤسسة الريان.