الحضور في زمن الغيبة

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين



يتفق المسلمون سنة وشيعة، على الإيمان بظهور إمام مهدي آخر الزمان، من عترة رسول الله ، من ولد فاطمة، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، لورود أحاديث كثيرة متواترة عن رسول الله بالإخبار بذلك، ومنها ما أورده أبوداود (202 – 275هـ) في سننه، حيث أفرد فصلاً بعنوان (كتاب المهدي)، ومما جاء فيه حديث أبي الطفيل عن علي بن أبي طالب، عن النبي قال: «لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً» [1] وحديث سعيد بن المسيِّب عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله 2 يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»[2] ، وأحاديث أخرى كثيرة عن ذات الموضوع، في مختلف مصادر الحديث، كالمستدرك على الصحيحين للحاكم، ومسند أحمد بن حنبل، ومجمع الزوائد للهيثمي، وصحيح ابن حبان، وغيرها.

ويعتقد الشيعة الإمامية الاثنا عشرية بأن الإمام المهدي المنتظر خروجه آخر الزمان، هو محمد بن الحسن العسكري، وهو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت ، وأنه قد ولد في الخامس عشر من شهر شعبان سنة 255هـ، في ظروف بالغة السرية والكتمان، حيث لم يعرف عن ولادته إلا أسرته والثقاة من أتباعهم وتلامذتهم، حفاظاً عليه من بطش السلطات التي كانت تترقب ولادته، وتعيش القلق من الدور المناط به. وقد اختفى وغاب عن الأنظار، إلى أن يأذن الله تعالى بظهوره.

ولادة الإمام المهدي

لقد أخبر الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الإمام الحسن بن علي العسكري، (232 – 260هـ) عن ولادة ابنه محمد المهدي، لأكثر من واحد من ثقاته، وأنه الخلف من بعده، وورد ذلك في روايات مستكملة لشروط الصحة والقبول عند الشيعة، كما أن السيدة الفاضلة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد، العاشر من أئمة أهل البيت ، وهي من فضليات نساء العترة، قد أخبرت بالتفصيل عن حدث ولادة الإمام المهدي، حيث قامت بدور القابلة والمساعدة لأمه ساعة ولادتها به، كما أخبرت عن مشاهدتها له بعد ذلك، وآخرون من ثقاة أتباع أهل البيت، تحدثوا عن رؤيتهم له، وتعرفهم عليه، في حياة أبيه، وبعد وفاة أبيه، فيما يعرف بالغيبة الصغرى.

وقد تحدث عن وجوده بعض علماء الأنساب، كالنسابة السيد أبونصر سهل بن عبدالله البخاري (كان حياً سنة 341هـ)، في كتابه (سر السلسلة العلوية)، والسيد العمري النسابة المشهور من أعلام القرن الخامس الهجري، في كتاب (المجدي في أنساب الطالبيين). والنسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عِنَبَة(توفى 828هـ) في (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، وغيرهم.

وذكره بعض المؤرخين من السنة، كابن الأثير الجزري عز الدين(ت 360هـ) في كتابه (الكامل في التاريخ)، عند ذكره لوفاة والده الإمام الحسن العسكري، في حوادث عام 260هـ. وكذلك ابن خلكان (ت 681هـ) في (وفيات الأعيان)، والذهبي (ت 748هـ) في كتابه (العبر) وكتابه (تاريخ دول الإسلام) وكتابه (سير أعلام النبلاء).

وقال ابن حجر الهيثمي (973هـ) في (الصواعق المحرقة): ((ولم يخلف ـ الحسن العسكري ـ غير ولده أبي القاسم محمد الحجة: وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر. قيل: لأنه سُتر بالمدينة وغاب، فلم يُعرف أين ذهب))[3] .

وجود الإمام المهدي

ينطلق الشيعة في عقيدتهم بوجود الإمام المهدي، رغم المدة الطويلة الفاصلة بين ولادته وظهوره، من حقائق عديدة:

منها: ما ورد عن رسول الله من أمر الأمة بالتمسك بالثقلين، كتاب الله وأهل بيت رسول الله ، في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عنه : «وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي»[4] ، وأخرج الترمذي عنه : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل البيت، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلُفوني فيهما»[5] ، وورد مثل هذا النص في معظم المصادر الحديثية، وفي هذا الحديث دلالة على استمرار وجود الإمامة في العترة النبوية، وعدم انقطاعها إلى يوم القيامة.

وقد أشار بعض علماء السنة إلى مثل هذه الدلالة يقول ابن حجر الهيتمي: ((إن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة، وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك: بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة))[6] .

ومرة أخرى يقول: ((وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت، إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر: «في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي»[7] .

ومن منطلقات الإيمان بوجود المهدي: ما صح عندهم من روايات أهل البيت : أن الأرض لا تخلوا من قائم لله بحجة، وقد أشار ابن حجر العسقلاني إلى هذه الحقيقة في شرحه لأحاديث البخاري، حيث قال ما نصه: «وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الأقوال: إن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة»[8] .

ومنها: الأحاديث الواردة عنه في أن الخلفاء اثنا عشر، كما جاء في صحيح البخاري عن جابر بن سمرة قال: «سمعت النبي يقول: يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش»[9] ، وجاء في صحيح مسلم:« ولا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»[10] .

والأئمة الاثنا عشر هم المصداق المناسب لهذه الأحاديث، ولا بد من استمرار وجود إمام منهم إلى يوم قيام الساعة.

من هذه المنطلقات وأمثالها يعتقد الشيعة بوجود الإمام المهدي، وأنه غائب لحكمة إلهية، وسيظهر بإذن الله تعالى، وطول حياة الإنسان ليس ممتنعاً عقلاً، وإن كان ممتنعاً عادة، إلا أنه هنا يدخل ضمن دائرة الإعجاز، كولادة نبي الله عيسى من دون أب، حيث كان وجود الأنبياء وعددهم مئة وعشرون ألف نبي، كلهم سوى آدم، وجوداً طبيعياً من أب وأم، ولكن إرادته تعالى شاءت أن يولد نبي الله عيسى من أم فقط بدون أب.

في عصر الغيبة

وإذا كانت هناك حكمة إلهية اقتضت غيبة الإمام الثاني عشر، حسب عقيدة الشيعة الإمامية، فما هي وظيفة أتباعه وشيعته في عصر غيبته؟

هناك بعض الروايات في المصادر الشيعية، يؤدي العمل بظاهرها إلى انسحاب الشيعة من ساحة الحياة، وغيابهم عن معادلة الواقع، وكأن غيبة الإمام تعني تجميد أحكام الإسلام، وشلّ فاعلية الأمة، وإيقاف الحركة والسعي نحو إقامة الحق والعدل.

وقد أخذ بعض علماء الشيعة بظاهر تلك النصوص والروايات، وخاصة في العصور السابقة، فقال بعضهم بلزوم السكوت أمام الظلم والجور، وعدم مشروعية العمل لبناء الاجتماع الإسلامي، وقيام حكم الإسلام، ورأى بعضهم حرمة إقامة صلاة الجمعة، وهناك رأي بتجميد توزيع الخمس وإنفاقه أثناء غيبة الإمام، ودفنه في الأرض إلى ظهور الإمام، لكن العلماء المحققين، ناقشوا تلك الروايات وكشفوا عن ضعف بعض أسانيدها، وفسروا ما كان منها صحيح السند، بما لا يؤدي إلى تعطيل قيم الإسلام وأحكامه.

يقول الشيخ المنتظري في مناقشته لأحدى تلك الروايات:

((وهل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر ونظائره عن جميع الآيات والروايات وحكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام وشؤون المسلمين، في قبال هجوم الكفار والجائرين، وإن أمكن تحصيل القوة والقدرة لدفعهم، وفرض طول غيبة الإمام آلاف السنين؟))[11] .

ويقول الشيخ محمد رضا المظفر:

((ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل المسلم أبداً مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح، بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم))[12] .

حضور نهج الإمام

إذا كان الإمام غائباً، فإن المؤمنين به يتحملون مسؤولية استحضار نهجه، ليملأوا الممكن من فراغ وجوده الشريف. فأئمة أهل البيت G لم يكونوا مجرد أشخاص، نتمنى لو كانوا في موقع أشخاص آخرين، واختلافهم عن الآخرين وخلافهم معهم، لم يكن مسألة شخصية، ولا صراعاً عائلياً، أو نزاعاً فئوياً.

بل هم يمثلون نهجاً رسالياً ينطلق من أصالة القيم الإلهية، ويحتضن عمق معارف الدين، ويحمي مصالح الأمة.

وأتباع الأئمة يجب أن يحتذوا حذوهم، ويترسموا طريقهم، ويحفظوا نهجهم، حتى يصدق ادعاؤهم في الاتباع والمشايعة.

إن الأمة الإسلامية تواجه الآن أخطر التحديات في تاريخها، وشيعة أهل البيت جزء لا يتجزأ من هذه الأمة، وبحكم انتمائهم لأهل البيت يجب أن يكونوا في طليعة الأمة، لمواجهة التحديات الخطيرة. وذلك هو نهج الأئمة الطاهرين G، حيث لم يتخلوا عن الدفاع عن قيم الدين، ومصالح الأمة، رغم إبعادهم عن مواقع السلطة والحكم.

ومن أبرز المهام التي قام بها الأئمة الهداة، تبيين مفاهيم الدين وقيمه الأساسية، التي كادت أن تضيع في غمرة الاهتمامات المصلحية، والصراعات السياسية، والتنافس على الحكم والسلطة، وجمع الثروات، والاستمتاع بالملذات.

لقد بث أهل البيت معارف الدين، وأوضحوا معالم الرسالة، ووجهوا الأمة نحو مقاصد الشريعة وأهدافها العالية، في سيادة قيم العدل والحرية، واحترام حقوق الإنسان، واكتشاف خيرات الكون واستثمارها.

ومن يقرأ خطب الإمام علي ورسائله، وهي كثيرة لا يقاس بها ما نقل عن أي خليفة آخر، رغم قصر مدة خلافته، التي لم تكمل خمس سنوات، يجد فيها أروع صورة لنظام الإسلام السياسي الاجتماعي، الذي يركز على احترام الإرادة الشعبية، وحماية مصالح المجتمع، وحفظ كرامة الإنسان.

وفي رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين، نقرأ برنامجاً متكاملاً للتربية الاجتماعية، كما تفيض أدعيته في الصحيفة السجادية زخماً روحياً، وثراءً عرفانياً، يحافظ على توازن الإنسان المادي الروحي، وقد فجرت مدرسة الإمامين الباقر والصادق نهضة علمية في مختلف مجالات المعرفة الكونية والدينية.

إن ما ينقله التاريخ من تراث الأئمة وسيرتهم، يُظهر اجتهادهم الدؤوب في تجلية مفاهيم الدين، وبث قيمه وتعاليمه الصادقة.

وهذا الدور المعرفي الرسالي، يجب أن يتواصل على يد تلامذة مدرسة الأئمة، وأتباع نهجهم.

هموم الطائفة وهموم الأمة

قد يكون لكل طائفة أو شريحة في الأمة بعض الهموم الخاصة، الناتجة من تركيبتها الداخلية، أو من واقع علاقتها مع سائر القوى والطوائف. لكن هناك هموماً وقضايا عامة على مستوى الأمة، وآثارها تنعكس على جميع أجزاء الأمة وشرائحها.

وهناك تحديات كبيرة تواجهها الأمة على الصعيد العالمي، في مجال علاقتها مع سائر الأمم والحضارات، وفيما يرتبط بموقعيتها وإسهامها في مسيرة التقدم البشري.

إن أخطر وضع تصل إليه الأمة، هو انشغال قواها وطوائفها بمشاكلهم الجانبية، وتجاهل القضايا الكبرى، حيث تسعى الأطراف المختلفة إلى إحراز الانتصارات الداخلية على بعضها البعض، بينما تنزلق الأمة كلها إلى هاوية الهزيمة النكراء في معركتها المصيرية.

وهنا يمتاز الواعون المبدئيون عن ذوي التوجهات الفئوية والطائفية الضيقة، حيث تتسامى الطليعة الواعية على جراحاتها الخاصة، لتفكر بعقلية الأمة، وتعمل من أجل المصلحة العامة.

وذلك هو نهج أهل البيت ، والذين كانوا ينطلقون من الحرص على
وحدة الأمة، وإعلاء شأن الدين، وتفويت الفرصة على الأعداء الطامعين، متجاوزين معاناتهم وآلامهم رغم قساوتها وفظاعتها.

يقول الإمام علي بن أبي طالب فيما روي عنه، متحدثاً عن موقفه من الخلافة بعد رسول الله : «فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد 2، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع
أيام قلائل»
[13] .

وجاء عنه قوله عند بيعة الخليفة عثمان: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأُسِلمَنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله»[14] .

انطلاقاً من هذه الرؤية المبدئية الرسالية، وقف الإمام علي إلى جانب الخلفاء الثلاثة، مشيراً وناصحاً وداعماً ومؤيداً لكل ما يخدم مصلحة الدين والأمة.

وعلى ذات النهج كان قبول الإمام الحسن للصلح مع معاوية، وكانت توجيهات الأئمة لشيعتهم وأتباعهم بأن ينتظموا في جماعة المسلمين، وأن يحافظوا على مظاهر وحدة الأمة، وإن اضطرهم ذلك لمخالفة بعض الأحكام الشرعية وفق مذهب أهل البيت ، تحت عنوان التقية، والتي أساء الآخرون فهمها، واعتبروها نقطة ضعف لدى الشيعة، بينما هي دلالة تعقل ووعي، إضافة إلى أنها مفهوم إسلامي أثبته القرآن الكريم في أكثر من آية.

نماذج مشرقة

ونجد في عصرنا الحاضر نماذج مشرقة لأتباع أهل البيت ، في الالتزام بهذا النهج الواعي، الذي يتجاوز الهم الخاص إلى الهم العام، ويقدم مصالح الأمة على مصلحة الطائفة.

إن مؤرخي الصحوة الإسلامية المعاصرة يعتبرون السيد جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) هو رائدها الأول مطلع هذا العصر، وهو باعث النهضة الإسلامية، وقد تركت حركته التوعوية السياسية أثرها الكبير في عواصم العالم الإسلامي كالقاهرة وطهران واسطنبول، ثم واصل دعوته من باريس، عبر مجلة (العروة الوثقى)، وكان خطابه إسلامياً عاماً، واطروحاته تعالج مشاكل الأمة وقضاياها الرئيسية، دون أي لون مذهبي أو صبغة طائفية.

وحينما غزا الإنكليز العراق، أواخر عهد العثمانيين، وكان الشيعة وهم أكثرية الشعب العراقي، يعانون من سوء السياسات الطائفية العثمانية،
إلا أنهم رفضوا التجاوب مع الاحتلال الأجنبي، ووقفوا مع الدولة العثمانية، وقاوموا الاحتلال الأجنبي حتى أخرجوه من العراق.

كما سجلت المقاومة الإسلامية في لبنان أروع المواقف الوطنية، في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وطرده من جنوب لبنان، وفي دعم نضال الشعب الفلسطيني، والوقوف إلى جانب انتفاضته الجهادية، متجاهلة كل الإغراءات التي تعرض عليها من كل جهة إذا تخلت عن مساندة الشعب الفلسطيني، ومتحملة كل الضغوط الهائلة بسبب هذا الموقف الإسلامي العظيم.

هذا هو المطلوب والمأمول من شيعة أهل البيت في كل أوطانهم، أن يتمثلوا نهج أئمتهم الهداة في حمل هموم الأمة، وخدمة المصلحة العامة.

التحدي الحضاري المعرفي

أنجزت البشرية في هذا العصر تقدماً معرفياً هائلاً، يزيد على ما حققته في كل عصورها السابقة، وتبلورت الكثير من المفاهيم والنظم التربوية والاجتماعية، وأصبحت كل مدرسة فكرية، أو اتجاه اقتصادي، أو تيار سياسي، يتكئ على رصيد ضخم من النظريات والأبحاث، ويمتلك أفضل وسائل النشر والترويج لآرائه وأفكاره.

بالطبع فإن هذه التوجهات ترافقها حركة واقعية عملية، تتفاعل معها وتتطور من خلالها، وليست مجرد اهتمامات نظرية.

إن تحديات ومشاكل جديدة أفرزتها طبيعة التقدم العلمي والتكنولوجي، وتطور الحياة البشرية، تحتاج إلى بحث ومعالجة، وتسعى مختلف التيارات لتقديم أطروحاتها حول القضايا التي تواجه المجتمع الإنساني في هذا العصر.

فأين هو موقع الإسلام من كل ذلك؟

لقد اجتهد علماء الإسلام في العصور السابقة، لتقديم رؤية الإسلام، تجاه مشاكل تلك العصور والمجتمعات، وأسهموا بل أبدعوا في إثراء حركة المعرفة والتطوير، مما أبقى الحضارة الإسلامية في مستوى الريادة حيناً، ومستوى التفاعل حيناً آخر.

ولكن ماذا عن العصر الحاضر؟

وما هو مدى مشاركة المسلمين كأمة وحضارة في حركة العلم والمعرفة العالمية؟

هل في الإسلام ما يمكن تقديمه كحلول ومعالجات لقضايا الحياة وأزمات العصر؟

هنا يجب أن يتبارى ويتنافس علماء المذاهب ومفكرو المدارس الإسلامية، ليسجلوا إنجازاً ومشاركة تحسب في رصيد الإسلام الحضاري، وتؤكد حضور الإسلام كفكر ومنهج على الساحة العالمية.

أما الاستغراق في الجدل المذهبي، واستهلاك الجهود في بحث الخلافات التاريخية التي أكل عليها الدهر وشرب، وعرض العضلات، وصنع الإنجازات والبطولات الوهمية من خلالها، فلن تزيد الإسلام إلا وهناً، ولن تنتج للأمة إلا تخلفاً أكثر عن ركب الحضارة والتقدم.

وكما كان أئمة أهل البيت قمة سامقة في فضاء العلم والمعرفة، قدموا عطاءهم المتميز في مجالات الفكر والتشريع، وآفاق العلوم الكونية الطبيعية. ومارسوا النقد الموضوعي تجاه الثقافات الوافدة، خاصة بعد جهود الترجمة للثقافة اليونانية التي حصلت من بداية العصر العباسي الأول. وبينوا رأي الإسلام ورؤيته في مستجدات عصورهم بأصالة وعمق.

كذلك فإن على تلامذة مدرسة الأئمة في هذا العصر، أن يكونوا امتداداً لدور الأئمة، وإحياءً لنهجهم.

ومن النماذج المشرقة المعاصرة التي يجب أن تحتذى في هذا الإطار شخصية المفكر المبدع السيد محمد باقر الصدر (1353 – 1400هـ) فهو إلى جانب فقاهته، قدم أعمالاً فكرية رائدة على الساحة الإسلامية والعالمية، من أبرزها دراسته للمذاهب الاقتصادية المعاصرة، ونقده العلمي الموضوعي لاطروحاتها، وتقديمه لرؤية الإسلام في المجال الاقتصادي، (اقتصادنا)، وكذلك نقده للفلسفة المادية الديالكتيكية في كتابه (فلسفتنا). والذي أشاد بمستواه المعرفي الكبير كثير من العلماء والباحثين. يقول الدكتور أكرم زعيتر: ((إني أعتقد أن المادية الديالكتيكية لم تجابه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة، ولم تقرع بردود علمية من قبل كتّاب العرب المتفلسفين، كما جوبهت، وكما قرعت بهذا الكتاب ـ فلسفتنا ـ أجل إنه لم ينازلها منازل عربي أو مسلم عنيد حسب إطلاعي مثل محمد باقر الصدر))[15] .

ومن إبداعات الصدر المعرفية الهامة كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، يقول عنه الدكتور زكي نجيب محمود: ((إنه من الكتب التي ينبغي أن تترجم إلى اللغة الإنجليزية لتعرف أوربا ان لدينا فلاسفة أصليين يملكون العمق الفلسفي والفكر المستقل))[16] .

وقال عنه الشيخ محمد مهدي شمس الدين: ((هو كتاب أعتقد أنه لم يُكتشف حتى الآن))[17] .

بمثل هذه الإبداعات الحضارية، والعطاء المعرفي، والمواقف المبدئية في الدفاع عن مصالح الإسلام والأمة، يتحقق الحضور لنهج أهل البيت في زمن الغيبة.

نسأل الله أن يثبتنا على خط الإسلام، وولاية أهل البيت الكرام، وأن يحشرنا في زمرتهم يوم القيامة.
[1] السجستاني: أبوداود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، حديث رقم 4283.

(1)السجستاني: أبوداود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، حديث رقم 4283.

[2] المصدر السابق، حديث رقم 4284.

[3] الهيتمي: ابن حجر، الصواعق المحرقة، ج2 ص601، الطبعة الأولى 1997م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[4] القشيري النيسابوري: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، حديث رقم 2408.

[5] الترمذي: محمد بن عيسى، سنن الترمذي، حديث رقم 3788.

[6] الهيتمي: ابن حجر، الصواعق المحرقة ج2 ص439، الطبعة الأولى 1997م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[7] المصدر السابق ص442.

[8] العسقلاني: ابن حجر، فتح الباري ج6 ص603، الطبعة الأولى 1997م، دار السلام ـ الرياض، دار الفيحاء ـ دمشق.

[9] البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، حديث رقم 7222.

[10] القشيري النيسابوري: مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، حديث رقم 1822.

[11] المنتظري: الشيخ حسين علي، دراسات في ولاية الفقيه، ج1 ص232، الطبعة الثانية 1988م، الدار الإسلامية ـ بيروت.

[12] المظفر: محمد رضا، عقائد الإمامية ص79-80.

[13] الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة، كتاب رقم 62.

[14] المصدر السابق، خطبة رقم 74.

[15] الحسيني: محمد، محمد باقر الصدر دراسة في سيرته ومنهجه ص132، الطبعة الأولى 1989م، دار الفرات ـ بيروت.

[16] المصدر السابق ص183.

[17] المصدر السابق.