الشورى وتقدم المجتمع

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين



ينطلق نهج الشورى في الإسلام من مبدأين أساسيين:

المبدأ الأول: احترام الإرادة الشعبية، والاعتراف بسلطة الناس على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم.

وقد عدّ كثير من الفقهاء قاعدة التسلط، (إن الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم)، ضمن سلسلة القواعد الفقهية، التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية في المجالات المختلفة، وكل العلماء يأخذون بمفاد هذه القاعدة.

وبمقتضى هذا المبدأ الشرعي العقلي فإن التصرف فيما يرتبط بشؤون الناس، يجب أن يكون بإرادتهم ورضاهم. وإلا كان تعدياً على حقوقهم وإلغاءً لسيادتهم على أنفسهم وأموالهم.

المبدأ الثاني: الحرص على اكتشاف الرأي الأفضل والأصوب، وذلك يستلزم استنهاض مختلف العقول، وحشد إمكانياتها وطاقاتها، فتنبثق الآراء، وتظهر نقاط قوة وضعف كل رأي، ثم تتلاقح وتتكامل، لتصل إلى أفضل ما يمكن من نضج وصواب.

وفي اللغة العربية نجد أن الشورى والمشاورة والمشورة: مصادر للفعل شاور. تقول: شاورته في الأمر، أي طلبت رأيه، واستخرجت ما عنده وأظهرته.

وشار العسل: إذا استخرجه.

وشار الدابة: استخرج أخلاقها.

والشارة والشُورة: الهيئة والمظهر الحسن. وفي الحديث: أنه أقبل رجل وعليه شُورة حسنة، قال ابن الأثير: هي بالضم، الجمال والحسن كأنه من الشَّور عرض الشيء وإظهاره.

وشُرتَ الدابة شوراً: عرضتها على البيع أقبلت بها وأدبرت.

وركب فرساً يشوره أي يعرضه.

ويقال شُرت الدابة إذا أجريتها لتعرف قوتها.[1] 

فأصل المشاورة إذاً الاستخراج والإظهار والعرض.

وهذه هي الوظيفة التي تؤديها الشورى بمعناها الاصطلاحي، إنها استخراج الرأي واستظهاره واستعراضه.

وتشير الأحاديث والروايات إلى دور الشورى في إنضاج الرأي والوصول به إلى مستوى الرشد والصواب.

جاء عن الإمام الحسن بن علي : «ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم».[2] 

ويقول الإمام علي : «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»[3] .

وقال : «من شاور ذوي الألباب دلّ على الرشاد»[4] .

الاستشارة على الصعيد الفردي

حينما يواجه الإنسان مشكلة، أو يريد اتخاذ قرار في قضية تهمه، فإن عليه أولاً أن يرجع إلى عقله، ويجتهد في التفكير الموضوعي، ثم من الأفضل له أن يستفيد من آراء الآخرين، باستشارتهم، فقد يلفتونه إلى فكرة لم ترد على ذهنه، وقد ينبّهونه إلى ثغرة لم يكن منتبهاً لها، وقد يضيفون إلى رأيه ما يكمله.

ينقل حسن بن الجهم، قال: كنا عند الإمام علي الرضا فذكرنا أباه الإمام موسى الكاظم . فقال: كان عقله لا توازى به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه. قال فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فعمل به[5] .

ومهما كان مستوى عقل الإنسان وإدراكه فإن الاستشارة تضيف له كسباً ونفعاً. يقول الإمام علي : «لا يستغني العاقل عن المشاورة»[6] .

وقد يتحمس الإنسان لرأي معين بدافع غير موضوعي، لرغبة أو رهبة، لكن من يستشيرهم يكون رأيهم خارج هذه المعادلة وأقرب إلى الموضوعية. يقول الإمام «إنما حُض على المشاورة لأن رأي المشير صرف، ورأي المستشير مشوب بالهوى»[7] .

ويقول : «شاور ذوي العقول تأمن من الزلل والندم»[8] .

ونلمح في هذه التوجيهات والروايات، أنها تهدف إلى تربية الإنسان المسلم على نهج الشورى، والاستفادة من الرأي الآخر. حتى يصبح ذلك سلوكاً وعادة للأفراد، وظاهرة عامة في الحياة الاجتماعية.

الشورى في الاجتماع الإسلامي

إذا كانت التوجيهات والتعاليم الدينية، تشجّع الإنسان على استطلاع آراء الآخرين، والاستفادة منها، فيما يرتبط بشؤونه الشخصية، فإن أوامر الدين صريحة وواضحة، في النهي عن التفرد بالرأي، والاستبداد بالقرار، فيما يرتبط بالشأن العام.

لأن الشؤون العامة تمسّ حياة الناس ومصالحهم، فلا يصح تجاوز إرادتهم، ولا تجاهل رأيهم.

وقد أمر الله تعالى نبيه محمداً بالمشاورة، مع أنه الأكمل عقلاً، والأفضل رأياً، وهو مسدد بالوحي من قبل الله تعالى، وكان المسلمون ينظرون إليه ليس كقائد فقط، وإنما هو نبي رسول، يخضعون له من أعماق نفوسهم، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً من طاعته والتسليم له.

مع كل ذلك يأمره الله تعالى بالتزام نهج الشورى، ليرسي هذا النهج ويركزه، وليكون قدوة لأي قائد أو حاكم بعده. يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ سورة آل عمران الآية 159.

والسيرة النبوية حافلة بالموارد والمواقف التي استشار النبي فيها أصحابه، في قضايا الحرب، وشؤون السلم، ففي غزوة بدر، شاورهم أولاً في الخروج لعير قريش ابتداءً، ثم شاورهم ثانياً عندما خرجت قريش لتدافع عن عيرها، وشاورهم في موقع النزول يوم بدر، وأخيراً شاورهم في أسرى بدر.

وفي غزوة أحد، شاور أصحابه، عندما بلغه خبر خروج قريش للقتال، وكان رأيه 2 البقاء والتحصن في المدينة، لكنه استجاب لرأي الأغلبية بالخروج.

وفي غزوة الخندق، استشارهم في أسلوب التحصن بالمدينة، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق، وأخذ الرسول برأيه. ثم استشار الأنصار في مصالحة الأحزاب بإعطائهم ثلث ثمار المدينة إن هم فكوا الحصار عنها ورجعوا، فلم يقبل ذلك الأنصار واستجاب الرسول 2 لرأيهم.

وهكذا كان رسول الله يكرر في مواقف كثيرة قولته المشهورة: «أشيروا علي».

وحتى في موضوع بسيط كصنع منبر يخطب عليه في المسجد، لم يقرر ذلك إلا بعد عرضه على الناس وأخذ رأيهم. جاء في طبقات ابن سعد: كان رسول الله ، يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائماً، فقال: إن القيام قد شقّ عليّ، فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله 2 المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه[9] .

وحقاً ما قاله أبوهريرة فيما روي عنه: «ما رأيت رجلاً أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله» [10] .

ومثله ما رواه عروة عن أم المؤمنين عائشة قالت: «ما رأيت أكثر استشارة للرجال من رسول الله» [11] .

بالطبع فإن استشارة الرسول هي في مجال تطبيق الأوامر الإلهية، وفي السياسات والتدابير الإجرائية، أما الأحكام والتشريعات فهي من قبل الله تعالى.

مجتمع الشورى

يصف القرآن الكريم مجتمع المؤمنين بانتهاج نهج الشورى في أمورهم العامة، فلا أحد يقرر بمفرده فيما يرتبط بالشأن العام، ولا مكان للديكتاتورية والاستبداد، في إدارة الأمور. يقول تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ سورة الشورى الآية 38.

والسورة التي وردت فيها هذه الآية، تحمل اسم (الشورى)، لتأكيد وتثبيت هذا المبدأ الهام في نفوس المسلمين وحياتهم.

والأمر: اسم من أسماء الأجناس العامة، مثل: شيء وحادث، وإضافة اسم الجنس قد تفيد العموم بمعونة المقام، أي جميع أمورهم متشاور فيها بينهم[12] .

ولاحظ بعض المفسرين أنه قد وردت جملة (وأمرهم شورى بينهم) اسمية مع أنها معطوفة على جملتين فعليتين (استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة[13] .

يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي: (وأمرهم) الديني والدنيوي (شورى بينهم) أي لا يستبد أحد منهم برأيه، في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعاً عن اجتماعهم، وتآلفهم، فمن كمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمراً من الأمور، التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها، وتشاوروا، وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو، والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيرهما، وكالبحث في المسائل الدينية عموماً، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية[14] .

لقد جاء وصف المجتمع بالتشاور، بعد وصفه بإقامة الصلاة، وقبل وصفه بأداء الزكاة، ليعطي لصفة التشاور صبغتها الدينية، وموقعيتها بين أهم الفرائض والواجبات.

ذلك يعني أن مجتمع الاستبداد، الذي لا ينتهج الشورى في أموره العامة، لا يصدق عليه عنوان الاستجابة لله، (الذين استجابوا لربهم)، حيث يفتقد ركناً بارزاً من معالم الاستجابة (وأمرهم شورى بينهم).

وكما يقول الشيخ عبدالقادر عودة: ((فإنه لا يكمل إيمان قوم يتركون الشورى ولا يحسن إسلامهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة))[15] .

فالشورى ((وصف ملازم للمؤمنين كالصلاة، وإذا لم يسمح للمسلم أن يتخلى عن الصلاة، فكذلك لا يسمح له بترك إقامة الشورى خاصة في الأمور المتعلقة بالمصالح العامة))[16] .

الشورى تربية وسلوك

الشورى في الإسلام ليست مجرد نظام سياسي يلتزم به الحاكم في العلاقة مع الشعب، بل هي نهج تربوي، وسلوك اجتماعي، يصدر عن رؤية دينية ثقافية، فينتج نظاماً شوروياً على المستوى السياسي، حيث يوجه الإسلام أبناءه إلى الحرص على استشارة الآخرين فيما يواجهونه من قضايا وأمور في شؤونهم الخاصة، ليصبح ذلك نهجاً عاماً في حياتهم، وعلى الصعيد العائلي، تدعو تعاليم الإسلام إلى معالجة قضايا الأسرة، ضمن إطار التشاور والتراضي، فمثلاً: فطام الطفل عن الرضاعة من لبن أمه قبل انتهاء مدة الرضاعة الطبيعية، وهي سنتان، ينبغي أن يتم بالتوافق بين الوالدين، بعد تشاورهما ودراستهما للموضوع لتقويم مصلحة الطفل، يقول تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا سورة البقرة الآية 233. وإذا ما حصل شقاق وسوء تفاهم بين الزوجين، فلا يصح أن يترك مصير العائلة للقرارات الفردية المنفعلة، بل تتدخل عائلتا الزوجين، وتختار كل منهما ممثلاً، ويجتمع الممثلان كحكمين ليتدارسا موضوع الخلاف، ويتفقا على أسلوب المعالجة والحل. يقول تعالى:﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا سورة النساء الآية 35.

وعلى الصعيد الاجتماعي فإن القرآن يصف مجتمع المؤمنين بأنهم يتشاورون في أمورهم العامة ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وباعتبار أن الآية مكيّة النزول، فهي تتحدث عن وضع جماعة المؤمنين قبل قيام الدولة، ونشأة الكيان السياسي في المدينة.

هذه التربية على الشورى، واعتمادها كسلوك وممارسة اجتماعية، وكونها تنطلق من فهم ورؤية دينية ثقافية، كل ذلك يفترض أن يؤدي إلى التزام الشورى في المجال السياسي. حيث لن ينسجم هذا المجتمع مع حالة الاستبداد والديكتاتورية، التي يجدها منافية لمبادئه الفكرية، وتربيته الأسرية، وسلوكه الاجتماعي.

من هنا تجد التناغم واضحاً بين شكل الحكم السياسي، وطبيعة الحالة الاجتماعية، وكما ورد في الأثر: ((كما تكونوا يولى عليكم))[17] .

فالمجتمعات الديمقراطية تمارس الديمقراطية كصبغة عامة لحياتها، في الأسرة والمدرسة والمصنع والمؤسسة الدينية والنشاط الاجتماعي، وانتهاءً بمجال السلطة والحكم، بينما تسود الفردية والديكتاتورية مجتمعات الاستبداد، على كافة الأصعدة.

ومجتمعاتنا الإسلامية الطامحة للديمقراطية ضمن ضوابط الإسلام، عليها أن تعود لاستيعاب مبدأ الشورى، ومعرفة جذوره الفكرية، وتطبيقاته الاجتماعية، ونماذج ممارسته في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ليشكل ذلك خلفية فكرية ثقافية تأخذ موقعيتها في أذهان أبناء الجيل، الذين بهرتهم ديمقراطية الغرب، وعاشوا ضمن أجواء بعيدة عن نهج الشورى والحرية. حتى التبس عليهم الأمر بين رؤية الإسلام وواقع المسلمين.

إن الطريقة المتبعة في مجتمعاتنا لإدارة الشؤون الدينية والاجتماعية لا تزال قائمة على الرأي الفردي، والإرادة الآحادية، فلماذا لا يسعى الواعون المصلحون لتطويرها، حتى تأخذ بنهج الشورى، والاستفادة من أكبر قدر ممكن من الآراء والطاقات.

فالمسجد يتولى أموره شخص واحد بينما يمكن أن يختار المصلون أو أهل منطقة المسجد لجنة تشرف على أمور المسجد وتدير شؤونه، مما يوثق صلة الناس بالمسجد، ويزيد درجة استفادتهم من برامجه.

والأوقاف عادة ما تكون بيد أفراد من الأهالي، لذلك ضاع قسم منها وأهمل قسم آخر، وحصل التلاعب في بعضها، ولو تكونت لجنة أو هيئة لإدارة أمور الأوقاف، لعاد منها على الدين والمجتمع خير كثير.

والعالم الذي يستلم الحقوق الشرعية يتصرف بمفرده في إنفاقها على الموارد التي يراها مناسبة، ولو استعان بلجنة منتخبة مختارة، لضمن الرأي الأفضل في مجال الإنفاق، كما أن ذلك يزيد من ثقة الناس وإقبالهم على أداء الحقوق الشرعية، ويضع حداً لما قد يثار من تساؤلات وتشكيكات حول مصارف تلك الحقوق.

وبين علماء الدين في المجتمع لو حصل التواصل والتشاور، في وضع خطط التوجيه والتثقيف، ومعالجة قضايا المجتمع، لكانت الحالة الدينية في مستوى متقدم، ولتجاوزت حالات الخلاف، التي يوسّعها الجاهلون والمغرضون.

وفي هذا السياق ينبغي للناس أن يتفاعلوا مع المؤسسات الأهلية ـ الرسمية، بحضور جمعياتها العمومية، والترشيح والانتخاب للتصدي لشؤون الإدارة. مثل الجمعيات الخيرية، والتي تنتخب الجمعية العمومية فيها أعضاء مجلس الإدارة، ثم ينتخب المجلس رئيسه من بين الأعضاء. وهناك نظام للمتابعة والمساءلة.

وكذلك الحال بالنسبة لغرف التجارة والصناعة في مناطق البلاد والتي يتم فيها الاقتراع لانتخاب مجلس الإدارة واختيار الرئيس.

والقرار الذي صدر أخيراً من مجلس الوزراء السعودي باعتماد نظام الانتخاب الجزئي للمجالس البلدية، يوفر فرصة أخرى لممارسة هذا النهج، ونأمل أن تتسع رقعته ليستجيب لتطلعات المواطنين في إنجاز الإصلاحات الشاملة إن شاء الله.

كما أطلقت وزارة التربية والتعليم مشروعاً رائداً قالت إنها ستبدأ في تنفيذه مطلع العام الدراسي الجديد 2003 ـ 2004م، بتكوين مجالس الشورى للطلاب في سبعين مدرسة مختلفة المستويات التعليمية، كتجربة أولية، وسيتضاعف العدد في الفصل الدراسي الثاني ليصل إلى 140 مدرسة، بحيث يمثل كل فصل في المدرسة طالب واحد، إضافة إلى مدير معه أربعة تربويين، ويعقد المجلس حلقات نقاش وحوار مع الطلاب، بشكل شهري، ليرفع تقاريره وتوصياته إلى مدير المدرسة، والذي عليه أن يدرسها مع الهيئة الإشرافية بالمدرسة، من أجل تطبيق التوصيات ومتابعة تنفيذها.

في ظل الشورى

في ظل الشورى والديمقراطية، يشعر الناس بكرامتهم، واحترام إرادتهم ورأيهم، فتبدع العقول، وتتطور الأفكار، وتظهر الكفاءات والمواهب، وتتوفر فرصة التعبير عن الرأي. ويتحمل المجتمع مسؤولية القرارات التي تتخذ لإسهامه في صنعها.

وعلى العكس من ذلك تماماً حالة الفردية والاستبداد، لذلك تسود المجتمعات الديمقراطية حياة الاستقرار، وينمو معدل تقدمها في مختلف المجالات، بينما تعاني المجتمعات الأخرى من الاضطرابات والمشاكل، وتراوح مكانها في قاع التخلف والانحدار.

وقد جاء في مفاد حديث مروي عن رسول الله أن المجتمع إذا إمتلك صفات من بينها الشورى فهو جدير بالحياة على ظهر الأرض، وإلا فهو مجتمع ميت مكانه بطن الأرض. روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاؤكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها»...[18] . ورواه في تحف العقول أيضاً عن النبي .

وكنموذج للفارق بين مجتمع الشورى ومجتمع الاستبداد ينقل الدكتور أحمد شوقي الفنجري هاتين القصتين:

أثناء الفتح الإسلامي لأرض فارس طلب قائد الفرس أن يلتقي بالقائد العربي قبل المعركة، ليتفاوض معه في حقن الدماء، وبعد أن عرض الفارسي مقالته قال العربي: ((أمهلني حتى استشير القوم)). فدهش الفارسي وقال: ألست أمير الجند؟ قال: نعم.

قال الفارسي: إننا لا نؤمر علنا من يشاور.

قال له العربي: ولهذا فنحن نهزمكم دائماً، أما نحن فلا نؤمر علينا من لا يشاور.

وهكذا انتصر المتواضع الذي يشاور على المغرور الذي يستبد برأيه. ومرت السنوات على هذا الحادث، أربعة عشر قرناً من الزمان، ثم جاءت الصهيونية تغزو قلب العالم الإسلامي، وهزمت العرب في ثلاث حروب متتالية. وتتكرر القصة مرة أخرى، فيقول وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان عن حرب 1967م في مذكراته: إنه كان يتعجب من أمر الجيوش العربية، فبعض الوحدات كانت تقاتل بشراسة ورجولة حتى آخر رمق وآخر طلقة، وبعض الوحدات في نفس الجيش كانت تستسلم دون طلقة واحدة، ولم يعرف السر في ذلك، إلى أن استسلم أحد القادة العرب ومعه جنوده وجميع أسلحته، فأخذ يسأله: ((هل أخذت رأي زملائك الضباط والجنود قبل أن تأمرهم بالاستسلام لنا؟)) فقال في كبرياء: إننا لا نستشير من هم دوننا في الرتبة.

فقال له لهذا السبب فنحن نهزمكم دائماً.[19] 

صيغة التطبيق

جوهر الشورى هو استطلاع رأي المجتمع، بشكل مباشر، أو عبر من ينوب عنه، في الأمور العامة المتعلقة به.

وقد مارسها المجتمع الإسلامي بداية نشأته وتكونه في عهد رسول الله 2، وعهد الخلافة الراشدة، ضمن إطار الشورى العامة، حيث كان المسجد مركز تجمع المسلمين، وكان ذوي الرأي من المجتمع يحوطون بالقيادة، وعند أي قضية أو مسألة كان رسول الله يخاطب المسلمين المجتمعين ليطلب منهم رأيهم، ويتدارس الأمر معهم، ثم يتخذ القرار المناسب.

ومع إتساع رقعة الأمة، ودخول البلدان والشعوب المختلفة إلى الإسلام، وتطور قضايا الحياة والمجتمع الإسلامي، كان الأمر بحاجة إلى أن تتطور وسائل تطبيق مبدأ الشورى.

لكن ما حدث هو تراجع الالتزام بهذا المبدأ العظيم بعد الخلافة الراشدة، في العهدين الأموي والعباسي، عدا زمن خلافة عمر بن عبدالعزيز. وبذلك دخلت الأمة نفق الديكتاتورية والاستبداد، والذي أوصلها إلى حالة من الركود والتخلف، امتدت إلى عهد العثمانيين، حتى أفاقت الأمة على هول الصدمة مع تقدم الصليبيين، ونهضة أوربا الحديثة. وسيطرة الاستعمار الغربي على أغلب بلدانها وشعوبها.

وفي عصرنا الحاضر، فإن المجتمعات البشرية المتقدمة، طورّت تجاربها السياسية والاجتماعية، على صعيد نهج الشورى والديمقراطية، وأصبحت السلطة تعتمد على ثلاث دعامات مستقلة عن بعضها هي: السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، وهناك دستور يشكل مرجعية لهذه السلطات، وانتخابات يختار فيها الشعب ممثليه.

والمجتمع الإسلامي يمكنه الاستفادة من تجارب الشعوب والمجتمعات الأخرى، بما لا يتنافى مع قيمه ومبادئه.

لقد قرر الإسلام مبدأ الشورى لكن صيغ التطبيق، وأساليب التنفيذ، قابلة للتغيير والتطوير، حسب اختلاف الظروف، وتطور مستوى المجتمع، وقضايا الحياة.

يقول سيد قطب: ((أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي، فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان))[20] .

ويقول الشيخ أبو الأعلى المودودي: ((أما تبيين من يحوز ثقة المسلمين، فالظاهر في بابه أنه لا يمكن أن يختار له اليوم نفس ذلك الطريق الذي اختاره المسلمون في بدء الإسلام، خاصة وأن ما يواجهنا اليوم من العقبات والمشكلات، لم يواجه الناس حينذاك، فيجوز أن نستخدم اليوم على حسب أحوالنا وحاجاتنا كل طريق مباح يمكن به تبين من يحوز ثقة الأمة.

وأضاف: ولا شك أن طريق الانتخاب في هذا الزمان هي أيضاً من الطرق المباحة، بشرط أن لا يستعمل فيها الحيل والوسائل المرذولة))[21] .

ويرى الدكتور أحمد شوقي الفنجري أنه: إذا أردنا ترجمة صادقة وأمينة لكلمة الشورى في عصرنا هذا لقلنا أنها تعني الحياة النيابية الحرة السليمة التي يطبقها الغرب في أيامنا هذه، ولا عجب في ذلك إذا وجدناهم أكثر منا تطبيقاً لمبادئ الإسلام.. فقديماً قال الشيخ محمد عبده: ذهبت إلى أوربا فوجدت الإسلام ولم أجد المسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت المسلمين ولم أجد الإسلام.

وعندما سئل الشيخ محمد عبده عن الشورى في عصرنا هذا قال:

إن الشورى تعني كل ما توصل إليه الإنسان الغربي في عصرنا هذا من التنظيمات الديمقراطية الحديثة، وإذا كان تحقيق الشورى لا يتم إلا بها فإن وجودها في الإسلام واجب، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.[22] 

وأخيراً فإن علماء الأمة ومفكريها مطالبون بدراسة هذا المبدأ العظيم من الدين (الشورى)، ودراسة صيغ تطبيقه في العصر الحاضر، على ضوء هدي الإسلام، وتجارب المجتمعات البشرية، لتسير الأمة على طريق الخلاص من واقعها الأليم. والحمد لله رب العالمين.
[1] ابن منظور: محمد بن مكرم الأنصاري، لسان العرب ج3 ص380، دار الجيل ـ دار لسان العرب، بيروت 1988م.

[2] المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج75 ص105.

[3] الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة، حكمة رقم 173.

[4] المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج72 ص105.

[5] المصدر السابق ج72 ص101.

[6] الآمدي: غرر الحكم ودرر الكلم.

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق.

[9] ابن سعد: الطبقات الكبرى ج1 ص250، دار بيروت 1960م.

[10] ابن حبان: محمد، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ج11 ص217، الطبعة الثانية 1993م، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[11] البغوي: الحسين بن مسعود، تفسير البغوي (معالم التنزيل) ج2 ص124، الطبعة الثالثة 1995م، دار طيبة، الرياض .

[12] ابن عاشور: محمد الطاهر، التحرير والتنوير ج25 ص171.

[13] الآلوسي البغدادي: محمود، روح المعاني ج25 ص46، الطبعة الرابعة 1985م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

[14] السعدي: عبدالرحمن بن ناصر، تيسير الكريم المنان ص1278، مؤسسة الريان، بيروت 1997م.

[15] عودة: عبدالقادر، الإسلام وأوضاعنا السياسية ص155، بيروت 1967.

[16] النمر: الشيخ عبدالمنعم، صحيفة الأهرام 3/6/1977م.

[17] المتقي الهندي: علي بن حسام الدين، كنز العمال، حديث رقم 14972.

[18] الترمذي: سنن الترمذي، حديث رقم 2368.

[19] الفنجري: الدكتور أحمد شوقي، الحرية السياسية في الإسلام ص188، الطبعة الأولى 1973م، دار القلم، الكويت.

[20] قطب: سيد، في ظلال القرآن ج5 ص3165، الطبعة الخامسة عشرة 1988م، دار الشروق، بيروت.

[21] الأنصاري: الدكتور عبدالحميد إسماعيل، الشورى وأثرها في الديمقراطية ص252، الطبعة الثانية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.

[22] الفنجري: أحمد شوقي، الحرية السياسية في الإسلام ص196.