الاستقرار السياسي والاجتماعي

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


تبدو الحاجة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي كواحد من أهم الحاجات، وأبرز التحديات، التي تواجه الأمة الإسلامية في هذا العصر.

فالاستقرار السياسي والاجتماعي هو الذي يضع الأمة على طريق الوحدة، ويتيح لها فرص التنمية والبناء، ويمكنها من التوجه للتحديات الخارجية. ومع انعدام الاستقرار يبقى التطلع للوحدة مجرد شعار وأمنية، وتتلاشى اهتمامات التقدم والبناء، وتضعف الأمة أمام مواجهة التحديات.

ونقصد بالاستقرار السياسي والاجتماعي وجود نظام مقبول من العلاقات بين قوى الأمة وأطرافها. ويقابل ذلك حالة الاضطراب، حين تختل علاقة الأطراف مع بعضها، فيقع بينها العداء والنزاع والاحتراب.

وقد حذر القرآن الكريم الأمة من خطر التنازع، الذي هو ناتج طبيعي لاضطراب العلاقات. يقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَسورة الأنفال آية 46.

فالتنازع يؤدي إلى الفشل الداخلي في انجاز التنمية والبناء، وإلى الضعف الخارجي الذي عبرت عنه الآية بذهاب الريح ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، أي تضيع قوتكم.

وبينما ركز أغلب مفسري الآية الكريمة على تحذير الله تعالى ونهيه عن التنازع، دون أن يشيروا إلى أرضية تكوّنه، وأسباب وجوده، والتي تتمثل في اختلال العلاقات الداخلية واضطرابها، فإن الشيخ ابن عاشور التونسي، قد نبّه إلى هذه الحقيقة عند تفسيره للآية الكريمة، حيث قال ما نصه: ((وأما النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم والتشاور ومراجعة بعضهم بعضا)).[1] 

ونرصد الخلل واضطراب العلاقات الداخلية للأمة في أبعاد ثلاثة:

- العلاقة بين الدول الإسلامية.

- العلاقة بين حكومات البلاد الإسلامية وشعوبها.

- العلاقة بين فئات الأمة مع بعضها.

العلاقة بين الدول الإسلامية


كانت الأمة تعيش في غالب عهودها السابقة ضمن كيان سياسي واحد، هو دولة الخلافة الإسلامية، ولكنها منذ قرن من الزمان، وبعد سقوط دولة الخلافة، أصبحت تعيش ضمن عدة كيانات سياسية، تمثل الدول القومية القطرية للأمة.

وتتنوع الأنظمة السياسية الحاكمة في الدول الإسلامية، في اتجاهاتها الفكرية والسياسية، ولم تصل بعد فيما بينها إلى صيغة من العلاقة الإيجابية، التي تؤهلها للتكامل، وتحولها إلى كتلة واحدة تضارع سائر التكتلات والأحلاف العالمية.

والأسوأ من ذلك انحدار العلاقة بين بعض هذه الدول الإسلامية إلى هاوية الصراع والنزاع، حيث وقعت حروب مأساوية دامية، ضحاياها أبناء الأمة من أطراف النزاع، ووقودها إمكانات الشعوب الإسلامية وثرواتها.

ومن آخر وأفظع نماذج هذه الحروب، ما عانته منطقتنا الخليجية من حربي الخليج الأولى والثانية، التي أشعلها النظام البائد في العراق ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الكويت.

ودفعت المنطقة بكاملها ثمناً باهظاً لتلك الحربين الداميتين، من أرواح أبنائها، وخاصة من شعبي إيران والعراق، ومن ثرواتها حيث لا تزال دول المنطقة ترزح تحت أعباء آثار تلك الحربين.

كما حصلت نزاعات عسكرية بين دول إسلامية أخرى، أما النزاعات السياسية والإعلامية بين بعض الدول الإسلامية، فلا تكاد تمر سنة تخلو من أزمة بين دولة إسلامية وأخرى.

إن الخلاف على الحدود هو من عوامل النزاع الأساسية، وقد كان للاستعمار دور كبير في بذر بذور هذه الخلافات الحدودية، فعندما انسحبت القوى الاستعمارية ساوأأأمن البلدان الإسلامية التي كانت تحتلها، تركت خلفها هذه الألغام، المعدة للانفجار، حيث رسمت الخرائط الحدودية، بشيء من الغموض في بعض خطوطها، ونوع من التلاعب المقصود.

كما أن سعي بعض الأنظمة للتبشير بتوجه فكري أو سياسي معين، جعلها في موقع صراع وصدام مع أنظمة أخرى.

ولا ننسى وجود أطماع للنفوذ عند بعض هذه الأنظمة، تدفعها للتدخل في شؤون بلدان أخرى، وقد يصل هذا التدخل إلى حد السعي لتغيير النظام، أو خلق قوة مناهضة له، أو دعم تيار معارض.

وفي أحيان كثيرة، يكون للقوى الأجنبية الخارجية دور أساس في دفع بعض الأنظمة للنزاع والصدام مع بعضها، لخدمة أهدافها ومخططاتها.

إن هذا الاضطراب في العلاقة بين الدول الإسلامية، حال دون حصول أي تقدم حقيقي لوحدة الأمة، وأوقع بها خسائر كبيرة، وأنتج مضاعفات خطيرة.

فإضافة إلى الخسائر المادية في الأرواح والممتلكات، وضياع الثروات، وهدر الإمكانيات، فإن هذا الاضطراب وما واكبه من انعدام الثقة، والشعور بالقلق لدى دول إسلامية تجاه أخرى، صرف الأنظار عن الأعداء الحقيقيين الطامعين في الهيمنة والنفوذ على العالم الإسلامي، لتتجه إلى معارك مفتعلة، وعداءات زائفة، لم يقتصر الانشغال بها على الأطراف المنجرفة إلى النزاع، بل شغلت كل ساحة العالم الإسلامي وأربكت واقعه.

إن ميزانيات الدفاع، وبرامج التسلح، واهتمامات أجهزة الأمن، وخطط الإعلام، وحتى مسار التحالفات والعلاقات الخارجية، أصبحت متجهة لدى هذه الدول صوب بعضها، مما يعني إن حجماً هائلاً من الجهود الهامة والإمكانات الثمينة للعالم الإسلامي، قد صرفت ضمن مشاكل هذه النزاعات والخلافات.

وكنموذج لقلق بعض الدول الإسلامية من بعضها نذكر ما اتخذته الكويت من إجراءات لحماية نفسها من أي حماقة أخرى قد يرتكبها نظام صدام البائد في العراق، حيث أشادت سوراً حدودياً معقداً أنفقت عليه ميزانية ضخمة.

ويتألف السور الحدودي الذي جرى بناؤه خلال التسعينيات ويمتد مسافة 217 كيلومتر: من خندق بعرض خمسة أمتار، وعمق ثلاثة أمتار، يحازيه ساتر ترابي بعلو أربعة أمتار. ثم يلي ذلك على بعد كيلومتر واحد السور الشائك المكهرب الذي يتألف من أسوار متداخلة عدة، ثم أنشأ الكويتيون أربعة أشرطة من السواتر الترابية بين الحدود والعمق الكويتي بمعدل ساتر كل 15 كيلومتر.[2] 

ويقول عبدالمنعم سعيد رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية في جريدة الأهرام بمصر: ((إن الصراع مع إسرائيل كلف العالم العربي في العقود الخمسة الماضية 200 ألف من الضحايا لكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية في الإطار العربي والإسلامي كلفت 2.5 مليون ضحية. ومن حيث الكلفة المادية فإن الصراع الأول كلف العرب حوالي 300 بليون دولار أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار))[3] .

وكما هو متوقع فقد استثمرت القوى الأجنبية الطامعة هذه الحال المضطربة من العلاقات بين الدول الإسلامية، لتمرير مخططاتها، وخدمة أغراضها، وقامت بدور المشجع والمغذي لهذه النزاعات.

ورغم أننا لا نعيش الآن نزاعاً محتدماً بين دول إسلامية، إلا أن وجود أزمات صامتة مجمدة، يجعل احتمال تفجرّ النزاعات أمراً وارداً في أي وقت من الأوقات. ما لم تعالج حال الاضطراب هذه،وتصل العلاقات بين الدول الإسلامية، إلى مستوى من الاستقرار القائم على صيغة واضحة شفافة من التعاون والتكامل.

لقد نشأت للعالم الإسلامي تجمعات مؤسسية، يفترض فيها أن تقوم بهذا الدور، وتنجز هذه المهمة المصيرية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية،ومجلس التعاون الخليجي، واتحاد دول المغرب العربي، وأمثالها، لكن هذه المؤسسات لا زالت تفتقد الجدية المطلوبة، والفاعلية المرجوة، لتحقيق ذلك الهدف الخطير.

لقد أوشكت الشعوب الإسلامية أن تفقد أملها في هذه المؤسسات، بعد مرور عقود على تأسيسها، وتوالي اجتماعات القيادات فيها، دون أن تحقق انجازاً وحدوياً يضاهي ما حققته الدول الأوربية، من خطوات في صنع وحدتها الماثلة للعيان.

إنه لابد من تفعيل هذه المؤسسات القائمة، وإنشاء مؤسسات رديفة، وخلق رأي عام ضاغط، باتجاه الاستقرار في العلاقات بين الدول الإسلامية.

الاستقرار السياسي الداخلي


من ناحية أخرى تعاني أغلب البلدان الإسلامية ضعف الاستقرار السياسي، لاضطراب العلاقة بين الحكومات وشعوبها.

حيث تطمح هذه الشعوب لدور أكبر في المشاركة السياسية، وفي ممارسة حقوقها وحرياتها، أسوة ببقية شعوب العالم التي تتمتع بالديمقراطية، فتنتخب زعماءها، ويتم فيها تداول السلطة، وتتوفر لها حرية تشكيل الأحزاب والتعبير عن الرأي.

ومن الأخبار التي تلفت النظر حول مدى ما تتمتع به الشعوب في البلدان المتقدمة من مشاركة سياسية، ما ذكرته الأنباء والتقارير عن النقاش الدائر في بعض الولايات الأمريكية عن حق التصويت للبلهاء والمجانين. يقول الخبر الذي نشرته جريدة الحياة بتاريخ 3 نوفمبر 2002م:

سيقرر الناخبون في ولاية (نيومكسيكو) ما إذا كانوا سيوافقون على أن يكون للبلهاء والمجانين حق التصويت في ولايتهم. فبموجب دستور الولاية الذي وضع عام 1912م يمنع البلهاء والمجانين من التصويت في الانتخابات. والتعديل المقترح الذي سيتم التصويت عليه بعد غد سيحذف وصف البلهاء والمجانين من الدستور.[4] 

لكن غالب الأنظمة الحاكمة تتجاهل هذه التطلعات الشعبية، وتتمسك بنهج الاستئثار بالسلطة ومصادرة الحريات. وقد تلتف على مطالب شعوبها بالقيام بلعبة الانتخابات الصورية الزائفة، حيث يفوز الحاكم أو حزبه بأكثرية الأصوات، وقد عرّف الرئيس العراقي المخلوع نفسه للقوات الأمريكية التي ألقت القبض عليه في الجحر المظلم، بأنه الرئيس المنتخب لشعب العراق، كما نقلت وسائل الإعلام أيام سلطته البائدة أن نتيجة آخر انتخابات رئاسية فوزه بـ98% من الأصوات.

من ناحية أخرى تشتد وطأة الضغوط الاقتصادية ومتطلبات الحياة، على أبناء هذه الشعوب، وخاصة جيل الشباب، الذين يعانون من قلة فرص التعليم الجامعي، وصعوبة الحصول على فرص العمل، حيث نسبة البطالة في تصاعد مستمر، فيتعرضون لحالات الإحباط واليأس من القدرة على بناء مستقبلهم وتأسيس حياة كريمة.

ويثير الإجرام الصهيوني حفيظة أبناء الأمة وغضبهم، حيث يشاهدون مسلسل العدوان اليومي على الشعب الفلسطيني، قتلاً وتنكيلاً، وجرفاً للمنازل والأشجار، وقضماً للأراضي، على مرأى من العالم والحكومات الإسلامية دون أي مانع أو رادع.

كل هذه الأمور تحدث الغليان في نفوس أبناء الأمة، وتدفعهم للصدام مع الحكومات، وقد يأخذ هذا الصدام منحى خطيراً، وشكلاً فظيعاً، بممارسة العنف والإرهاب الأعمى، الذي يصيب الأبرياء، وينشر الرعب والجزع في أوساط المجتمع، ويسيء إلى قضايا الأمة بدل أن يخدمها أو يساعد على معالجتها.

هذا الاضطراب السياسي الداخلي يشل حركة الأمة ويعوق تقدمها، ويشغل قوى الحكومة والشعب عن برامج التنمية والبناء، ويفسح المجال أمام مختلف الاحتمالات، ومنها استغلال القوى الخارجية وتدخلها تحت عنوان حماية حقوق الإنسان، أو الدفاع عن الأقليات، أو نشر الديمقراطية.

العلاقة بين الفئات والطوائف


مع أن التنوع أصيل وعريق داخل المجتمعات الإسلامية، حيث تتعدد الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب والتيارات الفكرية والسياسية في ظل العالم الإسلامي، ومع أن الحضارة الإسلامية قدمت في سالف تاريخها أروع صفحات التسامح والتعايش مع اختلاف الانتماءات، إلاّ أن واقع المجتمعات الإسلامية في العصور المتأخرة أخذ يضيق ذرعاً بحالة التنوع الطبيعية، واضطربت فيه العلاقة بين الفئات المختلفة الانتماء، حين تهيمن فئة قومية أو دينية أو سياسية على مقاليد الأمور، وتجور على حقوق الفئات الأخرى.

وأصبحت مجتمعاتنا تعاني من سياسة الإلغاء والإقصاء والتمييز، على أساس الدين أو المذهب أو القومية.

وتفجرت الخلافات والنزاعات القومية والمذهبية في كثير من المناطق، ومن أسوأ حالاتها فتن الخلافات المذهبية الطائفية، حيث يستخدم الدين فيها سلاحاً للتكفير والتعبئة والتحريض.

وتطورت بعض هذه النزاعات إلى احتراب أهلي أتى على كيان الوطن، وحطم هيكل الدولة، ومزّق الشعب إلى فرق وأجزاء، كما حدث في الصومال، وفي سنين الحرب الطائفية في لبنان،وقريب منه ما حصل في أفغانستان والجزائر، والحرب بين جنوب وشمال السودان.

الإصلاح السياسي


تتأكد الآن أكثر من أي وقت مضى ضرورة مبادرة الأنظمة السياسية إلى القيام بإصلاحات شاملة، تستجيب فيها إلى تطلعات شعوبها، وتحفظ وجودها، وتحقق الاستقرار والأمن السياسي والاجتماعي، وتسد الطريق على مساعي الدول الكبرى التي يبدو أنها مصممة على التدخل في شؤون مختلف مناطق الشرق الأوسط، لفرض تغيير سياسي فيها بحجة نشر الديمقراطية، وضمن مشروع مكافحة الإرهاب، كما صرح بذلك أكثر من مسؤول في الإدارة الأمريكية.

إن أخذ زمام المبادرة من قبل الحكومات للإصلاح السياسي هو الطريق لتلافي انفجار غضب الشعوب،التي يصعب عليها الاستمرار في تحمل ضغوط الواقع المر، والصبر عليه أكثر، خاصة مع وجود المحفزات الدولية، ووضوح ضعف بنية الأنظمة وقدرات صمودها.

فالنظام إذا لم يكن محمياً بإرادة شعبه، يستند في وجوده إلى دعم القوى الخارجية، فإذا ما قررت سحب دعمها عنه فسيكون انهياره حتمياً. وبدل أن تقدم الأنظمة التنازلات للقوى الخارجية لضمان دعمها، كما رأينا في عروض صدام الشائنة على الأمريكيين قبل الحرب، من الأفضل أن تستجيب لمطالب شعوبها المشروعة.

إن الإصلاح السياسي، الذي يحقق المشاركة الشعبية، وممارسة الحريات، ويصون حقوق المواطن، هو طريق الاستقرار الداخلي، وصنع الأرضية المناسبة للعلاقة الإيجابية بين مختلف الفئات الاجتماعية، دون أن تجور فئة على أخرى، وهو الذي يدفع لاتجاه تكامل الدول الإسلامية وتعاونها على أساس إرادة شعوبها ورغبتهم الصادقة.

ثقافة التعايش


تحتاج مجتمعاتنا إلى ثورة ثقافية لجهة الوعي بحقوق الإنسان، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، واجتناب أساليب العنف.

إن تاريخ الاستبداد الطويل الذي عاشته الأمة، مسخ الكثير من معالم ثقافتها الإسلامية الأصيلة، التي ترتكز على أساس الاعتراف بكرامة الإنسان بما هو إنسان وبغض النظر عن أي عنوان آخر، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَسورة الإسراء آية 70. وترفض أي مساس بحرية الإنسان ولو كان لجهة خضوعه لربه، يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِسورة البقرة آية 256. وحتى الأنبياء والرسل لم يعطهم الله تعالى حق الفرض على الناس أو المسّ بحرية اختيارهم ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَسورة يونس آية 99. ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ % لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍسورة الغاشية آية 21-22.

وقد أنتج واقع الاستبداد الذي سيطر على الأمة ثقافة استبدادية، جيّرت لها بعض النصوص الدينية، فكانت أرضية للتكفير والتبديع، وسياسات الإقصاء والتمييز والإرهاب الفكري. وهو ما يؤدي إلى التشنجات والاضطرابات الاجتماعية.

فلا بد من حركة ثقافية واسعة تعود بالأمة إلى معالم دينها الصحيح، وتربي أجيالها على الحوار وآداب الاختلاف، ومبادئ التعايش.

مؤسسات أهلية للسلم الاجتماعي


إن وجود المؤسسات الأهلية، التي تتبنى الدعوة إلى تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي بين الدول الإسلامية، وبين الحكومات والشعوب، وبين الفئات والتجمعات داخل الأمة، أمر مطلوب، ويشكل استجابة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إننا نجد في المجتمعات المتقدمة آلاف المؤسسات الأهلية، ذات الاهتمام بقضايا العلاقات الاجتماعية، بينما نفتقد مثل ذلك في مجتمعاتنا.

لقد تأسست قبل خمسين عاماً دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، بجهد أهلي من قبل مرجعيات شيعية وسنية، وكانت تجربة رائدة، تجاوب معها العلماء المصلحون من مختلف المذاهب، وأصدرت مجلة رائعة تحت عنوان (رسالة الإسلام) وهي مجلة فصلية، صدر منها ستون عدداً، من سنة 1368هـ إلى سنة 1392هـ، وكانت منبراً جامعاً لعلماء ومفكري مختلف المذاهب، الذين يبشرون بثقافة الوحدة والحوار، ويدعون إلى التقارب والتواصل، لكن هذه المؤسسة (دار التقريب) لم تستطع الصمود أمام تقلبات السياسة، ولم يتوفر لها الدعم الشعبي المطلوب، فتوقف نشاطها، وشلّت حركتها.

إن الأمة بحاجة إلى مئات المؤسسات الأهلية، التي تتبنى الدعوة إلى السلم الاجتماعي، وتبذل الجهود لإصلاح ذات البين بين مختلف فئات الأمة، من قوميات ومذاهب وتيارات.

لقد تفجرت أمام أعيننا في هذه العقود صراعات قومية عنيفة، في العالم الإسلامي، بين القوميات الإسلامية، وأبرزها: المشكلة الكردية في العراق وتركيا وإيران، وتطورت إلى نزاع دموي، قتل فيه الألوف، وشردّ مئات الألوف، واستخدمت فيه حتى الأسلحة الكيماوية، كما حدث في (حلبجة) حيث استخدم النظام البائد في مارس 1988م فأودت بحياة خمسة آلاف من المواطنين الأكراد من الرجال والنساء والأطفال!! وكان مخجلاً جداً أن يأخذ العلماء والمفكرون والواعون من الأمة موقف التفرج على أحداث هذا الصراع، أو الاكتفاء بالإدانة وبشكل فردي، دون أن تتأسس في الأمة على سعة رقعتها مؤسسة أهلية واحدة، تدعو للتعايش بين القوميات الإسلامية، واحترام حقوق وخصوصيات أبنائها في إطار الإسلام، وضمن قيم العدل والمساواة.

وكذلك الحال بالنسبة للصراعات المذهبية الطائفية، والتي برع السياسيون في إثارتها واستغلالها، وتجاوب معهم ذوو العقليات الساذجة من الزعامات المذهبية، فصدرت فتاوى التكفير وكتب التحريض على الكراهية، بل تكونت ميلشيات طائفية للتصفيات المتبادلة، كما في باكستان، ووصل الأمر إلى الاعتداء المتبادل على المساجد وقتل المصلين، ومن أواخر الشواهد ما حدث في مسجد كويتا في باكستان، حيث حصل تفجير إرهابي أصاب أكثر من مئة من المصلين بين قتيل وجريح. وبعض مساجد بغداد في العراق.. يحصل كل هذا، مع فراغ ساحة الأمة من أي جهد أهلي مؤسسي، للوقوف أمام هذه الفتن الخطيرة.

لقد شاركت قبل حوالي شهر في مؤتمر عقد في الكويت تحت عنوان(الجماعات الإسلامية ودورها في الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط) في الفترة من 6-8 ديسمبر 2003م. وكانت الجهة التي بادرت بالدعوة إلى المؤتمر هي: (معهد كارينجي للسلام الدولي) بالتعاون مع دار صحيفة الوطن الكويتية.

وقد جاء في تعريف (معهد كارينجي) أنه مؤسسة أبحاث سياسية مرموقة في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية، تأسس سنة 1910م على يد (أندرو كارينجي)، أحد أهم رواد الصناعة في تلك الحقبة، والذي جنى ثروة كبيرة في صناعة الفولاذ، ثم قرر تكريسها لتحقيق الأهداف التي شعر بأن المنظمات الخاصة لا يسعها أن تعهد بها كلياً إلى الحكومة، وأحدها قضية نشر السلام في العالم.

فأين دور علمائنا وأثريائنا في مجال تأسيس المؤسسات الأهلية التي تعمل لتوحيد صفوف الأمة وإطفاء فتن النزاع والتفرقة؟!

نسأل الله تعالى أن يهيئ لأمتنا أسباب الصلاح والإصلاح، وأن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى ما فيه الخير والصواب.
[1] ابن عاشور: محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج9 ص123، مؤسسة التاريخ، بيروت 2000م.

[2] الحياة: جريدة يومية تصدر من لندن، 8 مارس 2003م 5/1/1424هـ.

[3] المصدر السابق، 13/2/1999م 27/10/1419هـ.

[4] المصدر السابق، 28/8/1423هـ 3 /11/ 2002م.