الوصاية الفكرية واستعباد الإنسان

الشيخ حسن الصفار *
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين


تمييزاً للإنسان عن بقية المخلوقات، وتفضيلاً له عليهم، وهب الله له عقلاً يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي، ومنحه إرادة يتمكن بها من اتخاذ القرار وحرية الاختيار.
وبذلك أصبح أهلاً للتكليف والخطاب الإلهي، وكان مؤهلاً للثواب عند الطاعة، مستحقاً للعقاب على المعصية، وبعقله وإرادته يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض وتسخير إمكانيات الحياة، واستثمار خيرات الكون.
هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الإنسان مفكراً مريداً له حرية القرار والاختيار، لكن بعض الإرادات الشريرة في عالم الإنسان نفسه، ومن وسط أبناء جنسه، تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي منحها الله تعالى إياه.
حيث يسعى بعض الأفراد والفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر، ويصادرون حريتهم في التفكير وحقهم في الاختيار.
لقد عانى الإنسان ولا زال يعاني من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط. استعباد لجسمه يقيّد حركته ونشاطه، وتسلط على فكره يصادر حرية رأيه، وحقه في التعبير عنه.
وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي قد تقلصت، فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق، خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وتعني الوصاية الفكرية: أن جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس، وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة.
ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما يلي:
1. فرض الرأي على الآخرين بالقوة، ومصادرة حريتهم في الاختيار.
2. النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية.
3. الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي الرأي الآخر.
لماذا الوصاية الفكرية؟
إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً ليفكر به، وإرادة ليقرر ويختار، وليتحمل مسؤولية قراره واختياره، فلماذا يحاول البعض حرمان الآخرين من استخدام هذه المنحة الإلهية واستثمارها، فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين وإراداتهم، فهم يفكرون نيابة عن الناس، وعلى الناس أن يقبلوا آراءهم. ومن تجرأ على المخالفة، ومارس حرية التفكير وحق الاختيار لما اقتنع به من رأي، فله منهم الويل والأذى!! حيث يستخدمون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية، كل وسائل الضغط والتنكيل المادية والمعنوية.
إن الدافع الحقيقي لهؤلاء في ممارسة الوصاية الفكرية، هو في الغالب دافع مصلحي، بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين، واستتباعهم للذات.
لكنهم يتحدثون عن دافع آخر يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية، وهو دافع الإخلاص للحق الذي يعتقدونه في رأيهم، والرغبة في نشر الحق وهداية الآخرين إليه.
وإذا ما تأملنا هذا الإدعاء، وناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل والشرع، فسنجده إدعاءً زائفاً، وتبريراً خاطئا.
ذلك أن إدعاءهم أحقية رأيهم يقابله إدعاء مماثل من الآخرين، فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي، يرى أحقية مسلكه، فهل يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم؟
إن اعتقاد الإنسان بصوابية رأيه، وإخلاصه لذلك الرأي، ورغبته في إتباع الآخرين له، كل ذلك أمر مشروع، ولكن ليس عبر الفرض والوصاية، وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي، ومن يرفض الاقتناع فهو حر في اختياره محقاً كان أو مبطلاً، وليس من العقل والمنطق إجباره.
ولأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات وجهات تمارس الوصاية الفكرية، وتسعى لفرض آرائها، باعتبار ذلك وظيفة دينية، وتكليفاً شرعياً، كان لا بد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين ومفاهيمه.
فهل يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي بالقوة، والنيل من حقوق المخالفين، وسوء التعامل معهم؟
إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة والسيرة النبوية الشريفة، وأقوال وسيرة أئمة أهل البيت ، تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان وحقه في الاختيار، وأنه يتحمل مسؤولية قراره واختياره أمام الله تعالى، وترفض الاستعباد والوصاية الفكرية على الناس.
الخالق لم يفرض الإيمان به
لتقرير حرية الإنسان وتأصيل وجودها، تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم، أن الله تعالى لم يشأ أن يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار والقوة، بل أودعهم عقولاً تقودهم نحوه وفطرة ترشدهم إليه، وبعث لهم أنبياء يدعونهم إلى الإيمان به، ثم ترك للناس حرية الاختيار في هذه الحياة.
يقول تعالى:
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ(1).
ويقول تعالى:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(2).
وتشير آيات أخرى في القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين والكافرين، يقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا(3).
وإذا كان الله تعالى لم يفرض على عباده الإيمان به قسراً، لتكون الحياة دار اختيار واختبار، كما شاءت حكمته، فكيف يحق لأحد أن يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله ونيابة عنه؟
إنه تعالى لا يريد الإيمان به عن طريق القوة والقسر، لأنه حينيذٍ لن يكون إيماناً حقيقياً، ولو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً لكان ذلك ميسوراً عليه. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(4).
وبضرس قاطع ورفض صريح يقول تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(5)، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية إنها نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي : ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.( 6)
الأنبياء لا يحق لهم الفرض
لو كان الاعتقاد بحقانية الرأي، والإخلاص للفكرة، مبرراً مقبولاً للفرض على الآخرين، وممارسة الوصاية الفكرية، لما حظر الله تعالى ذلك على رسله وأنبيائه. فهم يحملون رسالة الله للناس، وهي حق لا ريب فيه، ولا يمكن أن يزايد عليهم أحد في الإخلاص للحق والاجتهاد في نصرته، ولكن الله تعالى لم يأذن لهم بفرض دعوتهم على الناس قسراً، ولم يسمح لأحد من أنبيائه ورسله أن يمارس الوصاية والهيمنة على اتجاهات الناس واختياراتهم.
حيث ينص القرآن الكريم على أن وظيفة رسل الله تنحصر في حدود إبلاغ الرسالة، لا فرضها بالقوة، يقول تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(7).
وحين يرفض الناس دعوة الحق، فإن الرسول يتركهم وشأنهم، وليس مكلفاً بإجبارهم أو الضغط عليهم، يقول تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(8).
وقد تكررت هذه العبارة في آيات القرآن الكريم ثلاثة عشر مرة، كقوله تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(9)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(10).
وتنص آيات أخرى في القرآن الكريم على أنه لا يحق للنبي أن يمارس أي وصاية أو هيمنة على أفكار الناس وآرائهم، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ  لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(11).
والخطاب لرسول الله محمد أفضل الأنبياء والرسل، والذي بعثه الله تعالى بأكمل الأديان وخاتمها، بأن وظيفته الإلهية هي الدعوة والتذكير، وليس له حق السيطرة والهيمنة على من لا يقبل دعوته.
وفي مورد آخر يخاطب الله تعالى نبيه محمداً والذي كان يؤلمه رفض المشركين لدعوته واتهاماتهم الباطلة له، يقول تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ(12).
فالنبي ليس جباراً يمارس الهيمنة والفرض على الناس.
وهو ليس مكلفاً بالوصاية والرقابة عليهم يقول تعالى: ﴿وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(13).
وإذا كان الأنبياء المرسلون من قبل الله تعالى، وهم يحملون الحق الذي لا ريب فيه، لا يجوز لهم ممارسة الفرض والوصاية على أفكار الناس، ترى هل يحق لأي جهة أخرى اقتراف هذه الممارسة باسم الربّ وباسم الدين؟
من يحاسب الناس؟
ليس هناك جهة مخولة بمحاسبة الناس على أديانهم ومعتقداتهم في الدنيا، فحساب الخلق على الله تعالى يوم القيامة.
ففي الآيات الأخيرة من سورة الغاشية، وبعد حصر مهمة الرسول في التذكير، وأنه لا يحق له الهيمنة والسيطرة على الناس ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ  لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، يقول تعالى: ﴿إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ  فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ  إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(14).
ورغم أن بعض المفسرين اعتبر الاستثناء ﴿إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ متصلاً بما قبله، فيكون المعنى «لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ» أن لك السيطرة على من تولى وكفر بمجاهدته ومقاتلته، لكن الرأي الذي يتبناه مفسرون آخرون هو أن الاستثناء منفصل، لا ربط له بما قبله بل بما بعده. وهذا الرأي هو ما يتناسب مع سياق هذه الآيات، ومفاد الآيات الأخرى.
وكما تقرر في أبحاث المحققين والباحثين في السيرة النبوية الشريفة، فإن حروب رسول الله كانت دفاعية، ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف، ولذلك كان يقبل منهم الجزية والبقاء على أديانهم في ظل الحكم الإسلامي.
وتؤكد آيات أخرى في القرآن الكريم على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى حساب العباد على أديانهم ومعتقداتهم، وليس الأنبياء ولا أي أحد آخر منها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(15)، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ(16).
وفي سياق آخر، حين تتحدث آيات من القرآن الكريم عن تعدد الديانات واختلاف المعتقدات بين بني البشر، فإنها تحيل مهمة الحسم والفصل النهائي بين أتباع الديانات إلى خالق البشر يوم القيامة، وكأن مفهوم هذه الآيات: أن الحياة الدنيا هي دار تعايش وتعامل بين بني البشر على اختلاف أديانهم وآرائهم، وليس من حق أحد منهم أن ينهي ويلغي وجود الآخر، فذلك من اختصاص الخالق وحده.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17).
فهل هناك رؤية أجلى من هذه الرؤية؟ وهل هناك موقف تجاه حرية الاختيار العقدي في الدنيا أوضح من هذا الموقف؟
وجاء التأكيد على هذه الحقيقة في موارد أخرى كقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(18). وضمير هو في قوله ﴿هُوَ يَفْصِلُ ضمير فصل، لقصر الفصل عليه تعالى دون غيره.
وتعالج آيات أخرى في القرآن الكريم موضوع النزاعات الدينية بدعوة الناس إلى تجاوزها وتجميدها، حتى لا تكون سبباً للاحتراب والنزاع، وأن الله تعالى سيقضي في هذه الاختلافات يوم القيامة، وسيعلم الجميع حكمه وقضاءه في خلافاتهم الدينية.
يقول تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(19).
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: «فاستبقوا الخيرات وهي الأحكام والتكاليف، ولا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم وبين غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، ويحكم بينكم حكماً فصلاً، ويقضي قضاءً عدلا»(20).
وقد ورد ذات التعبير في الآية 164 من سورة الأنعام: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

(1) سورة الكهف آية 29.
(2) سورة الإنسان آية 3.
(3) سورة الإسراء آية 20.
(4) سورة يونس آية 99.
(5) سورة البقرة آية 256.
(6) الطباطبائي: محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج2 ص351، الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.؟
(7) سورة النحل آية 35.
(8) سورة آل عمران آية 20.
(9) سورة المائدة آية 92.
(10) سورة النــور آية 54.
(11) سورة الغاشية آية 21-22.
(12) سورة ق آية 45.
(13) سورة النساء آية 80.
(14) سورة الغاشية آية 23-26.
(15) سورة الرعد آية 40.
(16) سورة المؤمنون آية 117.
(17) سورة الحـج آية 17.
(18) سورة السجدة آية 25.
(19) سورة المائدة آية 48.
(20)الطباطبائي: محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج5 ص362، الطبعة الأولى 1991م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.